جون شتاينبك فى الغابة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد عبدالمنعم رمضان 


عند ذكر الكتاب الأجانب الذين استخدموا الحيوانات بشكل واضح فى أدبهم، يقفز إلى ذهننا فورا جورج أورويل وروايته (مزرعة الحيوان)، ووربما كافكا فى (تحريات كلب) أو فوكنر فى (الدب) أو هيمنجواي فى قصصه الخاصة بالصيد، غير أنني أعتقد أن واحدًا من أكثر من استدعوا الحيوانات وأجواء الغابة إلى أعماله بشكل أكثر عمقا هو جون شتاينبك.
يقول شتاينبك فى أحد حواراته أنه يفعل كل ما فى وسعه لتحطيم أعصاب القارئ إلى أقصى حد، ذلك لأنه لا يريده أن يكون راضيًا. يواجه شتاينك القارئ برؤيته للعالم الذى يتحول إلى غابة وحشية يومًا تلو الآخر، يفعل ذلك بكل قسوة ممكنة، دون أن يخفف من حدة الصورة التى يرسمها، دون أن يقدم لنا أى مسكنات أو آمال وهمية. يقول لنا جون شتاينبك فى كل واحدة من روايته أن هذا عالم همجي، أقسى من الغابة، وعليك أن تتعامل مع هذا .
وفى طريقه إلى هذا التصور، يشير إلى عالم الحيوان بطريقة من ثلاثة، إما بالحضور الفعلي لحيوانات ضمن الأحداث، وهو ما يظهر بشكل أكثر وضوحًا فى رواية ( فئران ورجال) حيث تمثل الفئران والأرانب والكلاب جانبًا من أحداثها، أو عن طريق استخدام الحيوانات فى الجمل التشبيهية، كأن يقول فى رواية (البحث عن إله مجهول) “الموت عملية بطيئة يمر بها الإنسان، فالبقرة تموت بمجرد أن يؤكل لحمها، أما الإنسان يموت كحركة الماء فى بركة يلقى فيها حجر”، أو فى رواية (اللؤلؤة) عندما يقول “المدينة الصغيرة هي شئ يشبه حيوان المستعمرات، فلأية مدينة جهاز عصبي ورأس وكتفان وقدمان”، أما الطريق الثالث فهو ظهور الشخصيات نفسها كحيوانات همجية دون ذكر الحيوان بشكل صريح.



فى رواية (عناقيد الغضب) يستخدم شتاينبك الطرق المختلفة بشكل متداخل، حيث يخصص الفصل الثالث لسلحفاة تعيش على جانب الطريق الزراعي وتحاول أن تخترق الأحراش وتصعد نحو الطريق الممهد ، وكلما صعدت خطوتين انزلقت خطوة، حتى تصل فى آخر الأمر إلى سد منيع، وهو جانب الرصيف الخرساني الذى يوقفها ويعطل مسيرتها، فى رمزية واضحة بالطبع، كما أنه يحكي فى فصل لاحق عن تحول المحتلين الجدد لكاليفورنيا من كونهم مزارعين فقراء إلى تجار يتعاملون مع المزروعات -والحياة ككل – باعتبارها سلع لا غير، وسائل للكسب ليس إلا، فيفقدون تدريجيا إنسانيتهم ويصبحون أكثر قسوة وأقل تعاطفا مع الآخرين.
هذه هى سيرة الإنسانية من وجهة نظر شتاينبك، وفشلها المستمر والمتصاعد، خصوصا فى المجتمعات الرأسمالية، يقول شتاينبك “الحرب هي عرض لفشل الإنسان للتعامل كحيوان مفكر”، بمعنى أن الإنسان فشل فى الاستفادة من ميزنته النوعية وهى القدرة على التفكير وبات مجرد حيوان آخر.
لا ينسى شتاينك الحيوانات حتى فى خطابه أمام لجنة نوبل فى أثناء استلامه لجائزته بعام 1962 فيقول “جئت هنا مدفوعًا، ليس إلى الصرير كفأر شاكر ومعتذر، ولكن إلى الزئير كأسد وهو ما ينبع من فخري بمهنتي.”

نجد انشغال شتاينبك بهذا التحول الإنساني على خلفية تمكن الرأسمالية واضحا فى أغلب أعماله، فنجد أن كل من النوفيلا القصيرة (فئران ورجال) والعمل العملاق ( عناقيد الغضب) يدوران حول رحلة مجموعة من الفقراء فى كاليفورنيا أو باتجاهها فى أثناء فترة الكساد العظيم بالثلاثينيات، وفى العملين تجري هذا المجموعة وراء حلم وردي يتضح بالوقت أنه مجرد سراب.

بالطبع تصلح هذه التيمات الحيوانية والوحشية لأزمان وأماكن مختلفة، حتى إنها قد تناسب المجتمعات الأكثر فقرًا وبؤسًا والتي تتحكم فيها الرأسمالية فى الوقت نفسه – مصر مثلًا – أكثر من غيرها، وهو ما دفع أسامة أنور عكاشة لاقتباس رواية (اللؤلؤة) فى واحد من أعماله الأولى وهو مسلسل ( وقال البحر).

ليست مصادفة إذن أن واحدًا من أول أعمال شتاينبك وهو (المهر الأحمر) يحكي عن علاقة الطفل جودي بالأحصنة، وأن آخر ما نشر لشتاينبك بالإنجليزية كانت قصة ظهرت فى عام 2019، أى بعد وفاته بخمسين عامًا، بعنوان (البراغيث الودودة) وتحكي عن علاقة طباخ بقطته ومحبته لها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات من نفس القسم