الغربي عمران
مرونة تغيير الأصوات تتواجد من أول صفحة “يقول القمر: كانت تنتظر هذا اليوم، قدر لا مفر منه. اليوم.. ستجلس في كرسي الاعتراف، لتبوح لرجلٍ بالسر الذي تخجل حين تفشيه للنساء”. ولا يمضي الكاتب بعيدا إلا لينتقل بقارئه إلى سارد ثان “تقول الشمس: أسرارها تخرج عن سلطتها، إفشاؤها صعب، كتمانها أصعب. جراحها ظاهرة، مُخجلة، تجعلها تنزوي وتموت في اليوم ألف مرة،” وقبل أن ينتقل بنا إلى الصفحة الثانية – من رواية “روح الله الفضل حبش” التي تتكون من (180) صفحة توزعت على ثمانية عناوين داخلية، وصدرت عن دار العين في القاهرة 2025 – ينتقل سرد الأحداث إلى سارد ثالث وهذه المرة بضمير المتكلم لتسرد “روح” الشخصية المحورية معاناتها من اختلاف خلقها.
“تقول روح: نمت على قلق، صحوت على قلق أكبر…” وتستمر روح تحكي حياتها ومشاعرها في نقلات سريعة وقلقة، لتتغير أصوات الرواة، ومثلما تلك الأصوات تتغير، نجد أن الكاتب ينتقل بشخصياته، من حكاية إلى أخرى، في نقلات سريعة ومتتالية، وتلك النقلات تتعدد في صفحة واحدة، ولا ينتظر الكاتب أن تأتي عبر فصول، ما عكس بطريقته تلك قلق وإيقاع العصر المتسارع. هذه الطريقة التي اتبعها الكاتب تشير إلى قدرته على توظيف ذلك التكنيك لنقل قلق شخصياته، وخاصة “روح” التي نجح في نثر حكاياتها بطول وعرض صفحات هذا العمل، فتارة يذهب ليحيك حياة أمها راجية وزواج الفضل بها، وأخرى ينتقل إلى حاضر روح ومعاناتها من وحمة شوهت وجهها، إضافة إلى سر يقلقها كشفه، ثم يعود ليوم مولدها، ومنه ينتقل إلى علاقتها العاطفية بسمير، وتارة علاقتها بهاني. تلك النقلات السريعة التي لم تقتصر عليها بل امتدت لتشمل حيوات جل شخصيات الرواية، وقد أفسحت مساحة واسعة ليكون القارئ شريك له في تصوراته وخيالاته، شريك في ردم الهوات بين تلك النقلات السريعة، التي تراوح كبندول الساعة بين الحاضر والحاضر، وبين الحاضر والماضي.
ومن تغير أصوات الرواة، إلى تعدد وتسارع النقلات، نشير إلى قدرة الكاتب على الوصف المشهدي “تتأمل الشمس وجه صباح السارح في الأفق، تواصل: في الليل، سهر يوسف يغير السيناريو: يمد يده لصباح، فتعبر السور بين السطحين، يدخلها برج الحمام، يعريها، يلعق ثدييها، تداعب شعر صدره الخفيف، تزوم كحمامه، تفرج ساقيها، تصرخ تحته، تعض شفتيها، تقول في لوعة: أنت سيد الرجالة”. يصف مشاهد سردية لاهثة، وأخرى مشاهد متتالية في مشهد عام “النافذة مفتوحة على روائح وأصوات: أحاديث عند محل الطعمية، رائحتها الحلوة وهي ساخنة، همسات النساء في الشرفات، رائحة الغسيل على المناشر، ضحكات الأطفال يلعبون في مرح، توفيق فضاء المؤذن يجرب الميكرفون قبل صلاة الجمعة. تلاميذ يرددون وراء الأستاذ سالم في حجرة الدرس، قرآن يتلى في بيت كامل صالحة.. ممدوح فضا وجمال السقا يدخنان الجوزة أمام بيتها المجاور لبيتنا، أخوها يوسف يتشاجر مع زوجته عبير…”.
عدة شخصيات تأتي على رأسها روح، ثم تتكاثر خاصة مع الصفحات الأولى: هاني، الفضل، راجية، مديحة، سامية، جمال، ممدوح، توفيق، عبير، صباح، يوسف، سالم، مارينا، أميرة، سعد، سمير، رشاد، فريال، سلوى، رشدي، هناء، أم الفضل… إلخ، قائمة الأسماء قد تتجاوز الخمسين اسما، وبعضها تأتي صفاتها. تلك الشخصيات التي تأتي في إيقاع سردي متسارع، تختفي بعضها مثل ما كان ظهورها مفاجئا، إلا أن بعضها يستمر في تواتر مدهش ومشوق بين تلك النقلات، بما يخدم تصاعد الحدث وتطوره.
محور الرواية يرتكز حول معاناة الشخصية المحورية “روح” من بقعة داكنة ولدت بها على خدها “بالتدريج تحول العالم إلى عيون، لا أذكر متى بدأ الأمر، لكنه يمتد بطول حياتي، يشبه سلسلة حوادث بدأت بحادث بسيط لا أذكره، دائرة أتسع محيطها فلا أقدر على تحديد مركزها. العالم عين كبيرة تراقبني…” و تستمر في حوارها مع ذاتها “في الطفولة نبهتني العيون لعلتي…”. لنجد أن صفحات الرواية تتنفس بمعاناتها، حتى يجد القارئ نفسه متعاطفا مع اختلافها عن غيرها، وصفحة بعد أخرى يكتشف أنه الآخر شبيه بروح، وأن لديه ما يشكو منه هو الآخر، وأن تركيز الكاتب بذلك التكثيف على معاناة “روح” لم يكن إلا بهدف أن يدفع بالقارئ إلى اكتشاف ما يعاني هو منه، ليكتشف أنه لا يوجد الكمال على وجه الأرض مهما ظننا، وأن كل شيء نسبي، وأنه يخطئ من يطلق أحكاما مطلقة. إذا كل منا لديه مُركَّب نقص بصورة أو بأخرى، ولديه عاهته التي يداريها.
وإذا كان المحور هو معاناة روح من اختلافها، فهناك ثيمات متعددة تجاور المحور الرئيسي، منها الفقد، الخيانة، الكرامات، الخطايا. وكما تتعدد الثيمات، تتعدد الشخصيات الفاعلة وحكاياتها، تلك الشخصيات التي تقترب من مكانة الشخصية المحورية، فصباح “تقول الشمس: كانت صباح في شبابها غزالاً. يتقاطر الخطاب، تتدلل، تخرج متأنقة، تمصمص سناء شفتيها، تقول لنفسها إن الجمال يغري صاحبه، يترك رشدي حسان المحل، يدقق بعجيزتها البارزة، تزعق فريال، يدخل مسرعا، تعربد الشياطين في عروق مصطفى، الإمام الشاب، يُسبح، يستجير من الفتنة، يخطئ البقال في الحساب، يجري بائع الطعمية إلى الحمام، يعض الجزار شفتيه، ينتصب عضو الفكهاني، يترك سلامة الترزي المقص، تبصق زوجته البدينة: نجس. يتهامس زبائن المقهى…”. ليدرك القارئ أن مجتمع الرواية منشغل غرائزيا بمفاتن صباح عمة روح. وحكاية رشاد الأستاذ الجامعي وسعية الدائم لتحقيق ذاته إعلاميا، إلى أميرة وغيرتها من روح التي تنتهي بقتل حبيبها هاني، وإلى عبير وزواجها من يوسف، حكايات تتداخل وتتقاطع في حبكات متقنة. إلا أن روح التي ملأت صفحات الرواية بمشاعرها، وبوحها، وحوارها مع ذاتها، ومناجاتها للوجود، روح التي هامت وظلت تحلم بحبيب يحتويها، وكان هاني نموذجا لفتى حلامها، تأتي نهايتها سوداوية، حين يُقتل هاني في حادث سيارة، وتكتشف روح بمساعدة القمر أن من كان خلف الحادث “أميرة” وشريك لها، أميرة من ظلت تغار منها، وتنتقص منها، حتى أنها لم تسعد لسعادتها حين تنامت عاطفة هاني لروح وكانا على وشك عقد القران والسفر إلى إسبانيا كزوجين.
نهاية محزنة، لحلم روح ملكة المشاعر الجميلة، وصاحبة الكرامات “خف ألم صدري، كشفت نهدي، عاد سليما، تعجبت: أعيش خيالا أم واقعا؟ حركتني قوة غريبة، فتحت الدولاب، تناولت القمر بحرص، تساءلت إن كان خفيفا هكذا وشفافا أيضا في السماء، أم أن تلك معجزات اضافية، هل تأتيني الشمس في الصباح إن جرحت هيكلها المطبوع فوق ظهري ومؤخرتي؟ ماذا يحدث لي؟ هل هذا جزاءُ إنكاري لكراماتي؟!”
وعودة على بدء من عنوان الرواية “روح الله الفضل حَبَش” عنوان مخادع، يذهب بالقارئ بعيدا، لكنه يكتشف حين يبحر في صفحات الرواية أن روح الله ما هو إلا اسم للشخصية المحورية وليس له علاقة بأي نقد لما يمكن أن تكون دينية، أما عناوين الفصول الثمانية فقد أتحدت في مفردة “عيون” وكذلك الألوان، لتتكرر: عالم من عيون، عيون لا تعرف الألوان، عيون سوداء، عيون بيضاء، عيون حمراء، عيون وردية، عيون زرقاء، عيون سماوية. تلك العناوين باعثة على الحيرة، ولا يجد لها القارئ أي جواب، غير أن المعنى في عقل الكاتب.
الرواية مختلفة، استثمر الكاتب قدرته وملكته اللغوية، وكأنه جاء بأدواته من بحار شعرية، لينسج هذا العمل الروائي المختلف، بإيقاعه السردي اللاهث، إذ يجد القارئ نفسه يلهث من خلال سرعة نقلات النص بين ماضي بعيد إلى ماض قريب أو حاضر، ليعود بعد عدة جمل إلى حاضره دون انقطاع للتواشج السردي. في الوقت الذي يجد القارئ أن الراوي قد يتغير بين فقرة وأخرى، فتارة من تروي هي روح، وتتساءل، أو تدخل في جدل وجودي مع نفسها، وأخرى نجد قمرها يسرد الأحداث أو شمسها، وهكذا يقودنا تعدد الرواة إلى عوالم وحيوات متداخله، ضمن مجتمع نابض بالمشاعر في علاقاته العاطفية، تسيره الغرائز الحسية بشكل لافت.
هذه أسطر قليلة حول عمل روائي مختلف، بمثابة تحية لكاتب ينتظره الغد، في أعمال بهذه الروعة.
………………………
*كاتب وروائي يمني