رواية “الأقدام السوداء”.. جراح الوطن وآثار الأقدام الغريبة!

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أفين حمو 

حين تندمج الكتابة بالتاريخ، ويصبح السرد جسدًا نابضًا بجراح الأرض، تولد روايات لا تُقرأ لمجرد التسلية، بل تُحفر في الذاكرة. من بين هذه الأعمال  رواية “الأقدام السوداء” للروائي المصري محمد فايز حجازي، وهي رواية تأخذك إلى أعماق وطنٍ مأزومٍ تحت وطأة الغزاة، وتكشف لك خبايا شخصيات ضالعة في مزيج من الحب والخيانة. في هذه القراءة، نقترب من روح الرواية كما تتلمس الأصابع الجرح، ونسير في دروبها الوعرة، محاولين التقاط أنفاس الحكاية بين خيوط الخيانة، وأطياف الحب، وظلال الخذلان. رواية تمزج بين التاريخ والرمز، بين الأسى والحلم، بيد كاتبٍ يعرف كيف يضعك أمام مرآتك العارية، ثم يتركك هناك، وحيدًا مع وجعك.

 تبدأ الرواية بثلاث مشاهد تاريخية تترامى بين أماكن وأزمنة متباعدة، تنسج خيوطها على مهلٍ كمن يدوزن عودًا قبل أن يبكي به. ومن هذه المشاهد، يُولد حسن عبد الكريم، المهندس المصري الذي قادته الأقدار إلى “حاسي مسعود”، في عمق صحراء الجزائر، حيث لا ينمو شيء سوى الطمع.

الأقدام السوداء، المصطلح الذي خيّم على الرواية، كان أكثر من مجرد لقب للمستوطنين الأوروبيين في الجزائر. لقد جعلهم حجازي كائنات زئبقية، تطل برأسها من نوافذ النفط المسروق والدجل الملبد بالخرافات. لم يكن الصراع في الرواية ساذجًا، بل ممتدًا بين الخير والشر، بين الإنسان وحلمه، بين الأرض والطارئين عليها.

اللغة هنا ليست زخرفًا، بل نَفَس الرواية. يكتب فايز حجازي بجمالٍ ناعم، دون أن يقع في الاستسهال. يسير بالسرد كما يسير الماء بين أصابع المرتجف: رشيقًا، حذرًا، مشحونًا. وحتى حين يخوض في السياسة والدين والعشق، لا يدعك تغرق، بل يُبقيك معلقًا بين رنين المعنى وشهوة الحكاية.

أحد المقاطع التي وقعت عليها في الرواية، كان يصف الأقدام السوداء على لسان البطل، حيث قال: “هؤلاء القادمون من بعيد، لا يعرفون عن الأرض سوى ما تأخذه منهم، كل خطوة لهم تُترك علامة على وجوهنا، كأنهم يطأون على أوراق شجر تُسحق تحت أقدامهم”. وفي تلك اللحظات، تبرز صورة الاحتلال والغزو بأسلوب مفعم بالرمزية، حيث تتداخل أقدام الغزاة مع أقدام الحالمين بالحرية.

ثم يواصل الكاتب ليصف كيف وقع حسن في حب المهندسة التي كان يعمل معها في المشروع: “كانت عيناها أكثر إشراقًا من الشمس التي تشرق على الصحراء، وكان حديثها يشبه الرياح التي تعانق الصمت. لم أكن أريد أن أحبها، لكن كيف للإنسان أن يهرب من حبٍ مَكتوب؟”. هنا، تكشف الكلمات عن الجرح الذي يواجهه حسن، بين الواجب والذنب، بين شوقه لروح نقيّة وحياة مدفوعة إلى الصراع.

في إحدى الجولات، تطرق حسن إلى ما يدور في ذهنه، قائلاً: “في جولتنا ليلتها شرحت لداليا ما يدور في ذهني تفصيلاً، أخبرتها بكل الأمور المريبة التي حدثت منذ وطأت قدماي أرض الشركة، وتوقعي بما يحدث من تلاعب في تقارير إحادة البئر عن مساره المتفق عليه مع الشركة الجزائرية، وإقالة مسيو “خازم” ويقيني التام بأننا وسط عصابة شر يخططون بمنتهى الدهاء، لالتهام ثروات بلادنا كعادتهم في كل العصور“. كانت تلك اللحظة نقطة التحول في علاقتهما، حيث أصبح الحب بينهما مطاردة بوليسية، تلاحقهما حتى في خيالاتهما.

في مكان آخر، وتحت وطأة اكتشافاته، وصف حسن هؤلاء المجرمين الذين يعملون في الظلال قائلاً: “إنهم أبعد شرا وشراسة مما قد يصل إليه خيالك، أحفاد الشيطان وحلفاء الدجال، قذرون لا يتورعون في سبيل غايتهم عن القتل وشرب دماء الأبرياء زلفى وقربى لساداتهم الأبالسة، يتعاطون كل الرذائل ويأتون التدليس والسحر والشر كما يتنفسون، أنا أعرفهم جيدًا..

وهكذا يرسم لنا فايز حجازي في روايته مشاهد تنبض بالحياة والمهابة، دون أن يفرط أو يبتذل، بل كأن كلماته نُقشت على حجر الزمن. ولا أدل على ذلك من هذا المقطع، الذي بدا لي وكأنه صلاة معلقة بين الأرض والسماء:

“في أول أيام عيد الفطر، وأثناء شعائر الصلاة، كان مَشهد مَسجدي «السلطان حسن» و«الرفاعي»، والمساجد التاريخيَّة الكثيرة حولهما، تحت قلعة «صلاح الدين» الشامخة مشهدًا خلّابًا، امتلأ خلاء المَمَرِّ الساحر بين المسجدين، والميدان الواسع أمامهما بالمُصلِّين الذين فرشوا سجاجيدهم، وقد غَطَّى لون جلاليبهم الأبيض كامل المشهد، وبدت السماء مُتربِّعَة على عروشها، صافية تمامًا وكأنَّها مُبتهجة لروعة المنظر وجلال الموقف، وراضية عن الجميع، وكان صوت تداخل التكبيرات وزقزقة العصافير على الأشجار حول الميدان، صوتًا ملائكيًّا آسرًا يُنْبِئ عن تلاحُم الأجساد ووحدة الأفكار، ولعلَّ السرَّ الأبدي في روعة هذا المشهد، ليس فقط في أهل المكان أو طبيعته، بل في الآثار التي خلَّفها أناس آخرون عبروا من هذا المكان، آثار تفيض بقوة تكمن في المساحة والمباني والرمز.”

قرأت هذا المقطع أكثر من مرة، ولم أستطع منع نفسي من أن أتخيله حيًا: بياض الجلاليب، زرقة السماء، رجفة الأصوات المتداخلة… شعرت أنني أتنفس عبر الكلمات.

ثم، من قلب هذا النشيد الصامت، ينتقل الكاتب إلى مشهد آخر من الجمال الإنساني المتحجر، حين يقول:

“فانتشرت تماثيل لمواطنين أحرار وأباطرة وقادة عسكريين، وقدِّيسين ورُسُل، مُضاهاةً لتماثيل «ميرون» و«ڤيدياس»، ومَنْ بَعدَهُم مِن فَنَّاني عصر النهضة الأوروبيَّة، كالأيطالي «مايكل أنجلو» والفرنسي «بيلون»، والألماني «كرافت» وغيرهم.

لا يكتفي حجازي بسرد قصة عابرة، بل يصنع سيمفونية من التاريخ والوجدان، حيث التماثيل ليست مجرد حجر، بل شهادات على محاولات الإنسان أن يخلد وجوده، أو أن يترك ظله أمام الغياب.من خلال “الأقدام السوداء”، بدا واضحًا أن الكاتب لم يكن يؤرخ فقط، بل كان يصنع زمنًا موازياً، حيث تختلط النبوءات بالخيبات، ويتداخل العشق بالخيانة، وتتجسد القرى القديمة في هيئة جراح مفتوحة على اتساعها.

ورغم أن الكاتب سبق له أن أصدر مجموعات قصصية مثل “الجنة المحترقة” و”سفير إبليس”، إلا أن “الأقدام السوداء” حملت نضجًا مختلفًا؛ مزيجًا من الغضب النبيل والحزن الصامت، الذي لا يتعلم أن يهدأ مهما مرت عليه السنون.

في قلب الرواية يسير حسن عبد الكريم، متعثّرًا في الرمال، مطاردًا بحلم العدالة. ولكنه، مثل كل أبناء الأرض المغتصبة، لا يجد في النهاية سوى مواجهة ذاته. كل انتصار صغير يبتلعه صراع أكبر، وكل حب يولد تحت سماء ملبدة بالخذلان.يندمج القارئ في تفاصيل الرواية فيركض معه عبر حقول النفط، ويتصبب عرقًا من رعبٍ خفي، من حبٍ يصارع لسحقه، من وطنٍ يُباع تحت راية الشيطان.

لكن الرواية لا تنتهي بانتصار مدوٍّ أو هزيمة محضة. بل تنتهي كما تنتهي الحكايات التي تُكتب بدم القلب: بمصالحة مُرهقة بين الحب والخسارة. فبرغم أن الحب خاض معاركه كلها في ميدانٍ موحل بالخذلان، ظل متماسكًا كجذرٍ في أرضٍ مُستباحة، ونجا. تزوّج من أحب، لا لأن الحياة أنصفت قلبه، بل لأنه أصرّ أن يبقى حيًا وسط الركام.

كأن محمد فايز حجازي، بكل حنكة الأديب، يهمس لك: “لا أحد يعود من الحرب نظيفًا، لكن بعض القلوب، رغم الطين، تعرف كيف تثمر.”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة وشاعرة سورية 
الرواية صادرة عن دار ببولمانيا 

مقالات من نفس القسم