رواية “مهنة سرية” .. العشقُ المُدرّب على الطيران المنخفض

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
رواية عن الحيرة بين الفضيلة والشهوة، بين الحنين والعار، بين أن تكون حرًا في قريتك أو عبدًا في سرير مخملي في فندق بخمس نجمات.

أفين حمو 

حين نتحدث عن الرواية العربية التي تمسّ العصب العاري للوجود، نادرًا ما نُصادف نصوصًا تملك جرأة أن تنظر في وجهك دون أن ترمش. نصوصٌ لا تزخرف قبح الحياة، بل تضعه في طبق لغويّ مذهَّب وتطلب منك التهامَه ببطء.

رواية “مهنة سرية” للروائي المصري محمد بركة تنتمي إلى هذا النوع من الكتابات، تلك التي تُقبِّلك في عتمة الخيال، ثم تصفعك في نور الحقيقة. منذ صفحتها الأولى، تُشبه هذه الرواية رسالة ملغومة أُرسلت بالخطأ إلى قلبك. أو كأن أحدهم قرر أن يحكي اعترافاته في ممر ضيق بين جنتين: واحدة وُعِد بها، وأخرى ذاقها حتى الإدمان. كنتُ أبحث عن قصة، فوجدتُ رجلًا يسرد سرّه كمن يتلو وصيته الأخيرة.

لم تكن الرواية سوى صفعة ناعمة تحمل على ظهر كفّها عطراً أوروبياً وصوتاً رخيمًا من مآذن الجنوب. لكن الجمال في الرواية لا يكمن في الأحداث، بل في اللغة. تلك اللغة التي تتمنّع كراقصة محترفة، وتكشف ما تريد فقط حين تريد. خذ مثلًا هذه الجملة:

“آمنت بالجنة لسبب بسيط لا يخطر ببال معظم المؤمنين، وهو أن لحظة الإشباع الحقيقية لم أعرفها أبدًا في حياتي.”

هكذا يبدأ علاء، البطل الذي لا يبحث عن الجنة بل عن نسخة منها على الأرض، نسخة تُدرّب القلب على الرغبة والجلد على الصمت الطويل.

محمد بركة لا يكتفي بالحكي، بل يُربك الحكاية. يجعلنا نطل من نافذة فيلا على طريق مصر – الإسكندرية الصحراوي، حيث:

أعيش مختبئًا من العالم… لا أستقبل زوارًا وأتفرغ لتربية النحل وركوب الخيل.

يبدو البطل من بعيد كمن اختار العزلة حكمة، لكنه في الحقيقة يخفي مهنةً لا تصلح إلا لمن يعرف كيف يصمت وهو يحترق.

أدخلنا الكاتب إلى منطقة مسكوت عنها. لا يقدّمنا إلى شخصية، بل إلى ضجيج داخلي ينهش صاحبه ويطليه بالشمع كلما حاول أن يكتب عن سرّه. إنه ابن رجل أعمى، “الشيخ ذو الصوت الرخيم”، وأم جميلة كأغنية لم تغنَّ بعد. حين اكتشف علاء جسد أمه تحت جسد غريب، لم يغضب… بل انكسر في صمت. وربما بدأت “المهنة السرية” حينها، حين صار الجسد لغزًا وأداة، ثأرًا وتخليصًا.

“في إحدى الليالي، كنت مجرد هدية داخل صندوق أحمر عملاق…

من هنا تبدأ الطقوس. لا نعرف إن كان علاء يختار أم يُختار له. فـ”أديلا” الألمانية لا تمنحه جسدها فقط، بل تمنحه بطاقة دخول إلى مهنةٍ تُدار تحت الطاولات… وفي أحضان النساء.

كان يمكن للرواية أن تنزلق إلى الابتذال، لكنها تحافظ على نبرة صوفية خادعة. علاء ليس شابًا يلهو، بل “ولد مستعدًا” كما قال لإحدى زبوناته. هو رجل يعرف كيف يحمل الرغبة على ظهره دون أن يراها تسيل من عينيه. ومع كل امرأة، يتعلم درسًا جديدًا في الجسد، لكنه يخسر قطعة جديدة من قلبه.

“سألتني: وما الشبق الجماعي؟ قلت: حنين الكهوف الأولى.

كم يبدو هذا الجواب فاضحًا في بساطته، وعميقًا في مجازه. فالحنين إلى البداية هو أصل الحكاية، وعلاء يركض نحوها، لا ليعود، بل ليهرب من نفسه.

وفي لحظة ضوء باهت، يقع في حب امرأة متزوجة. امرأة لا تستطيع أن تختار قلبها، لأنه مربوط بشيكات زوجها الثري. وهنا، ينهار كل شيء.

جلستُ على عمق 3 أمتار في وضعية تمثال الكاتب المصري القديم. لا أعرف ماذا أكتب، لكن قلبي يضج بسر وعدتُ السماوات السبع أن أحفظه.”

الرواية ليست عن الدعارة. ليست عن الجنس. إنها عن العطش. عن الحيرة بين الفضيلة والشهوة، بين الحنين والعار، بين أن تكون حرًا في قريتك أو عبدًا في سرير مخملي في فندق بخمس نجمات.

لم أُدهش فقط من جرأة الحكاية، بل من براعة بركة في تمرير كل ذلك عبر لغة لا تخجل. إنه كاتب لا يبرر، بل يكشف، ويترك لك حرية التورط.

لا شيء يشبه الاحتفال بفقدان عذرية شاب وسيم… في صحة المرة الأولى.”

كم من المرات فقدنا نحن عذريتنا؟ أعني، كم من مرة سلّمنا أرواحنا للخذلان على سرير الثقة الأولى؟

من يكتب بهذه الطريقة؟ من يملك جرأة العبارة ودهاء المجاز؟
وهذا هو الدهاء: أن تقول ما لا يُقال، بلغة لا تُشبه أحدًا.

علاء ليس مجرد رجل في خدمة الزائرات، بل أيقونة عصرية لمُعذَّب قديم. وكل امرأة يمر بها، ليست غنيمة، بل مرآة تعكس خساراته. حتى البريطانية التي أحبّها، لم تكن نهاية سعيدة، بل نهاية أسطورية: تُحبه، ثم تهديه إلى زوجها، صاحب شركة الدعارة.

هل خانها؟ لا. خان نفسه، حين ظن أن الحب لا يخون.

وفي مشهد الختام، يجلس تحت الماء في وضعية الكاتب المصري القديم، لا يعرف ما يكتبه قلبه. هناك فقط، تنكشف المهنة: ليست الجسد، بل القهر.

الرواية كلّها صندوق أحمر. والقارئ؟ نحلة تركب خيلًا من المعنى، ثم تخلع جناحيها وتغرق، تمامًا كما أردتَ منذ البداية.

رواية “مهنة سرية” هي أكثر من مجرد سردٍ لحكاية بطلٍ ضائع في متاهات الرغبات والتضحيات. إنها دعوة لاكتشاف أسرارنا المخفية، تلك التي نخاف أن نراها، ولكننا نعلم في أعماقنا أن لها وجودًا فينا. من خلال الكلمات الدقيقة التي اختارها الكاتب محمد بركة، ننغمس في رحلةٍ تكتشف فيها أن السر ليس مجرد مهنة، بل هو جزء من تكويننا، يحمل في طياته الأسئلة التي لا نهاية لها.

لا يمكن للمرء أن يقرأ هذه الرواية دون أن يتأثر بها؛ فهي تمنحك رؤية جديدة لعلاقة الجسد بالعقل، وللحب بالألم، وللخيبة بالأمل. فكل حرف فيها يترك أثره على الروح، وكل سطر يجذبك أكثر إلى عالم يرفض أن يكون واضحًا، بل يبقى غامضًا، مملوءًا بالدهشة والأسئلة التي تستمر في حفر مسارات جديدة في عقولنا.

من خلال “مهنة سرية”، ليس فقط الشخصيات هي التي تكشف عن أسرارها، بل نحن أيضًا نكشف عن أنفسنا بطريقة غير مباشرة. وفي النهاية، يبقى السؤال الكبير: هل نحن مستعدون للغرق في أسرارنا، أم أننا سنظل نبحث عن سطح جديد نستطيع العيش عليه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية صادرة عن أقلام عربية 2025
شاعرة وناقدة سورية 

مقالات من نفس القسم