آية السمالوسي
تتكون مجموعة “أول فيصل” للكاتب المصري أشرف لصباغ من عشر قصص، صدرت في بداية عام 2023 عن دار “روافد”، وتقع في 126 صفحة.
شارع فيصل، لمن لا يعرفه، هو شارع كبير في مدينة الجيزة، إحدى المناطق المميزة لتجمع السكان من الطبقة المتوسطة والوافدين من بعض الدول العربية. تحول هذا الشارع مع مرور الزمن إلى منطقة عشوائية، يسكن حواريه وأزقته الضيقة والواسعة الآلاف من البشر الذين لا ينامون تقريبا، لأن الشارع نفسه مليء بالحيوية والضوضاء والحركة، والسيارات، ومئات المحلات والدكاكين التي تبيع كل شيء في أي وقت.
اسم المجموعة نفسه، على الرغم من أنه يمثل “مكانا”، إلا أن جملة “أول فيصل” هي جملة تتردد على ألسنة المصريين كالأمثال الشعبية. فهي عبارة ينادي بها سائقو سيارات الميكروباص، ويرددها الركاب عندما يريدون النزول او التوجه نحو نفس هذا المكان. وهو عنوان مغرٍ بالقراءة.
تأتي قصة “أول فيصل” في الترتيب السادس، ضمن قصص المجموعة العشر، التي سميت بنفس الاسم. وتكمن أهمية هذه القصة في طرحها لعلاقة المجتمع بسلطته، وعلاقة المجتمع بمفهوم الإرهاب الذي تطرحه هذه السلطة ووسائل الإعلام، بل وبمفهوم الناس الذي تكوَّن عن الإرهاب.
تُصور القصة كيف تم تفكيك المجتمع وإعادة تركيبه، بحيث أصبح كل شيء يُنظر إليه على أنه إرهاب، أو على الأقل يُخدمه. وتُسلط الضوء على كيف أسست الدولة، خلال السنوات العشر الأخيرة، مشروعها الضخم المتمثل في مكافحة الإرهاب، والذي حقق لها ثمارًا مع المواطنين، بغض النظر عن مستوى هذا الإرهاب، وعن وجوده من عدمه أصلا.
تتناول القصة مفارقة إنسانية عجيبة حول أحد المواطنين، من سكان شارع فيصل، المحبين للبلد والمخلصين لها. هذا المواطن لا يكتفي بحب البلد، بل يقدس رئيسها ويحترمه، وينظر إلى المسؤولين على أنهم يبذلون كل جهودهم لتقدم البلد والحفاظ عليه، ومن ثم فهم يستحقون كل الاحترام والتبجيل.
والمفارقة هنا، هي أجواء الاستقرار وعناية الحاكم برعيته. وربما يكون الكاتب قد طرحها على نسق الحكايات التراثية والشعبية لقديمة التي كان يقوم فيه الخليفة أو الوالي بالتنكر والنزول للتجول بين العامة وأبناء الشعب لتفقد أحوالهم والاطمئنان على مصالحهم.
في هذه القصة، اختار الرئيس أن يعمل سائق تاكسي في شارع فيصل الذي يمتد من جامعة القاهرة تقريبا إلى المنطقة الواقعة بين أهرامات الجيزة والمتحف المصري الكبير. ومع ذلك فهو يظهر على النقيض تماما من هذه لمعالم. إذ أن جامعة القاهرة ومرافقها تعني العلم والتعليم والمباني التاريخية لفخة، ومستقبل الشباب والبلاد، وأهرامات الجيزة تمثل تاريخ سبعة آلاف عام من ميراث الأجداد. بينما المتحف المصري الكبير هو فخر البلاد الذي سينافس به المصريون أكبر متاحف العالم بما يحوي من معجزات. لكن “شارع فيصل” تحديدا بعشوائيته وضوضائه وخلوه من إشارات المرور وأمكان مرور المشاة هو تحديدا الذي يصل بين هذه المعالم الثلاثة.
بطل القصة هو نموذج المواطن الصالح الشريف بالنسبة لأي دولة. فهو يرى ما تراه ويسمع ما تقوله دون جدال أو شكك، مطيع ومؤمن. وليس ذلك فقط، بل أن أم البطل، لسيدة المسنة، كانت تؤنبه وتنهال عليه بالسباب إذا انتقد أداء الحكومة أو قال كلمة في حق الرئيس الذي تقدسه الأم وتجله وتعتبره الراعي الأكبر لها ولكل المواطنين.
في اللحظة التي ينزل فيها الرئيس متخفيا، وهو يقود سيارة التاكسي، يتقاطع معه البطل كزبون أو راكب. يقول البطل: “أوقفتُ أول تاكسي صادفني. وألقيت تحية الصباح على الرغم من أننا كنا في منتصف النهار. رد السائق بصوت خافت من دون حتى أن ينظر ناحيتي. طلبت منه أن يتجه إلى بولاق الدكرور، فرد بهدوء وبصوت خافت بالموافقة. حاولت الحديث معه عن أي شيء إلا أنه كان يرد باقتضاب من دون حتى أن ينظر ناحيتي من خلال المرآة الأمامية. كان يفعل كل شيء على خلاف سائقي التاكسي الذين يجيدون الرغي والكلام الفارغ وفتح الحوارات وتصديع الدماغ. وفجأة وجدته يسألني وهو يضحك نفس الضحكة الجميلة التي نحبها جميعا: إزيك؟ إنت بتشتغل إيه؟!”.
وتبدأ الشكوك في اجتياح عقل المواطن الذي تربي على حب الوطن والرئيس ومكافحة الإرهاب. يسيطر عليه الإحساس بالخطر تجاه هذا السائق الذي يشبه الرئيس حدّ التطابق، بل ويقول إنه الرئيس: “فوجئت بأنه يشبه سيادة الرئيس، ويتحدث بنفس صوت الرئيس، ونفس ضحكته الحلوة الجميلة المطمئنة، وملامحة الهادئة التي تبث الثقة والأمان في النفس. ولكن مهما فعل، فأنا لستُ مغفلا، ولا حمارا لكي أنخدع بهذا التمويه”.
ويواصل البطل الحكي: “قلت له: معقول أن تكون أنت سيادة الرئيس؟ فراح يضحك ويؤكد لي أنه سيادة الرئيس، وأنه يفعل كل ذلك من أجل الشعب، ومن أجل أن يطمئن على صحة الشعب وحياته، ويختبر حبه. طلبت منه أن يتوقف قليلا لأنني لا أصدق نفسي. وفجأة خطرت لي فكرة. قلت له: لو كنت أنت سيادة الرئيس فعلا، فأرجو أن تعود بي إلى بيتنا في أول فيصل لكي تراك أمي وتسلم عليك. فهي سيدة في التسعين من عمرها وتحبك يا سيادة الرئيس، وتحفظ خطبك كلمة كلمة”.
وبدأت ثمار مكافحة الإرهاب تظهر في تصرفات البطل الذي أدرك أنه أمام إرهابي يتخفى في صورة الرئيس لكي يعتدي على الرئيس. وهنا جاء دوره في مجابهة الإرهاب. فراح يستدرجه إلى بيته باستعطاف إنساني، مدّعيًا أنّ والدته ذات التسعين عاما تحبّه وتريد أن تراه قبل ان تموت. بينما هو مُقتنع تماما، في قرارة نفسه، أنّ هذا السائق إرهابيّ جاء ليقتل الرئيس. وبالفعل ينجح في استدراجه عبر تفاصيل كثيرة لينتهي الأمر بحفل صاخب لمكافحة الإرهاب والقضاء على الإرهابي الذي جاء يقتل الرئيس. وكم كان فخر هذا المواطن وبقية المواطنين عندما قضوا على الإرهابي وأزهقوا روحه، حيث الفخر والعزة وأداء الواجب في الدفاع عن الرئيس وحماية البلد من الإرهاب.
تبدأ هذه المجموعة القصصية بقصة “راوتر” التي تكشف عن جانب غريب من التغيرات التي أحدثتها التكنولوجيا في حياتنا الخاصة، وما تسببت فيه من تباعد اجتماعي “حقيقي” بين الناس عموما، وبين أفراد الأسرة الواحدة على وجه الخصوص. أفراد الأسرة، وربما تكون الجمل التالية، من القصة، مدخلًا جيدًا لرصد جميع التحولات:
“انقطع الاتصال بالإنترنت، فلم يشك الأب للحظة بوجود عطل في جهاز الراوتر. ذهب إلى الصالة فوجده ملقى على الأرض، فأعاده إلى مكانه. ثم ذهب إلى المطبخ لإعداد فنجان من القهوة وشربه في الصالة التي لم يرها منذ فترة، ريثما يعود الاتصال بالإنترنت”.
“لكنّه فوجئ بابنه الخارج من غرفته غاضبًا، حتى وجد أباه فارتمى في أحضانه. الأب الذي يحب ابنه أكثر من أي شيء في العالم، فكلاهما تبادل السؤال عن بعضهما البعض”.
“أخبر الابن أباه أنه تخرج وعمل في شركة كبيرة، بينما الأب أحيل على معاش منذ سنتين. انضمت إلى هذه الجلسة الحميمية ابنتاه، والجميع قاموا باحتضان بعضهم البعض، وكيف أنهم جميعًا مفتقدين بعضهم”.
“سرعان ما سمعوا صوت باب الحجرة، فإذا بالزوجة تخرج مندفعة نحو أحضان الزوج، التي كانت تظن أنه خارج مصر! تواعدوا بأن يقرروا اللقاءات بينهم وأن يتزاورا مرات أخرى”.
“لكن سرعان ما عادت إشارات الواي فاي، فصافح بعضهم البعض سريعًا حتى يعودوا إلى غرفهم. اقترح الأب أن يأخذوا صورة جماعية، فقال الابن: ابني قال «مافيش وقت، يا بابا للحاجات دي»، واقترح أن يصور كل منا نفسه صورة «سيلفي» ويرسلها له، لكي يقوم بمعالجتها ببرنامج «الفوتوشوب» ويحولها إلى صورة جماعية ويعيد إرسالها إلينا لننشرها على صفحاتنا في وسائل التواصل الاجتماعي أغلقتُ باب غرفتي وأنا في قمة السعادة للقائي بهؤلاء الناس المهذبين الطيبين”.
ثمة مفارقة وتشابه مع الواقع حدّ التطابق لما حدث في شارع فيصل في منتصف شهر يوليو 2024، إذا ربطنا القصة الأولى “راوتر” التي تدور حول آثار التكنولوجيا السلبية والإيجابية، بقصة “أول فيصل” في نفس المجموعة. سنجد مطابقة أو مفارقة ظريفة، إذ قام مجهولون في شارع فيصل، باختراق شاشات عرض الإعلانات، وعرضوا صورا وكلمات مسيئة للنظام وللرئيس، على الرغم من أن المجموعة نشرت عام 2023. لقد هزت الحادثة مصر، وشغلت وسائل الإعلام والسوشيال ميديا داخل مصر وخارجها. وهي حادثة تنطوي على مفارقات تشبه المفارقات الواردة في قصة “أول فيصل”. وهذا حديث يحتاج إلى مقال آخر حول طبيعة الإبداع من حيث التحليل أو الاستشراف.
مجموعة “أول فيصل” بشكل عام تتناول شخصيات مختلفة من شرائح الطبقة الوسطى يعيشون حياة بائسة ويمارسون الاحتيال قدر الإمكان على الحياة، ولا يتوانون عن المكر والخبث والتواطؤ. وهم في نفس الوقت يخوضون حروبا يومية من أجل تأمين قوت يومهم. وعلى الرغم من أن كل قصة لها موضوع مستقل وليست “متتالية قصصية” كما هو الحال في “أبواب مادلين” للكاتب نفسه، إلا أنه يجعلك تشعر وكأنها من نفس النسيج، حيث أنه يقدم نقدًا للمجتمع ومؤسساته على حدٍّ سواء، من خلال تسليط الضوء على كيفية عمل هذه المؤسسات وبيروقراطيتها وتخلفها، وتظاهرها بالتقدم والحداثة، كما ورد على سبيل المثال في قصة “المرأة ذات المعطف الكاكي”. كل ذلك في حين أن المؤسسات وغيرها من الهيئات لا تمت للتقدم والحداثة بأي صلة. وكل ما نراه ما هو إلا قشور واهتمام مرضي بالمسميات دون تركيز على الجوهر أو الدور الحقيقي لها.
يتنقل الكاتب في كل قصة، وفي كل حكاية وموقف، بين عوالم مغايرة ومختلفة ومتناقضة عبر كوميديا مؤلمة أحيانا ومثيرة لابتسامات الأسى في أحيان أخرى. وتكشف لنا غالبية قصص المجموعة عن نسق نقدي لاذع في إطار كوميدي ساخر دون مباشرة فجة أو خطابية منفرة.
استخدم الصباغ لغة بسيطة وسلسة وهادرة، ممزوجة بألفاظ عامية أحيانًا وأمثال شعبية في أحيان أخرى، كما يعتمد على الجمل القصيرة في الأغلب، لذلك تجد السرد شيقًا لا يشعرك بالملل، حتى وإن كان عدد بعض القصص يصل إلى 15 صفحة، مثل قصة “حارس الدباسات”. وعلى الرغم من ذلك، تظهر اللغة الصحفية الساخرة والرصينة في آن معا للكاتب، مثلما في قصة “البروليتارية الكلبة”.
هذا العمل، المكون من عشر قصص، يتميز بالسخرية في المقام الأول. السخرية هنا، سيدة الموقف. فالكاتب يسخر من كل شيء ومن أي شيء، ولا يخلو الأمر من خفة الظل التي تميز جانبا من عالم الكاتب الذي يقوم على الكوميديا السوداء وكوميديا المفارقة.
وإذا كانت قصص المجموعة تتعرض لمواقف وحالات يومية بسيطة أو عابرة، يتم رصدها بقلم الكاتب القادر على التقاط أدق التفاصيل، فإن ذلك يحدث عبر نعومة وسلاسة من دون إقحام أو اقتحام.
اللافت في هذه لمجموعة، استعراض الكاتب معرفته العميقة بشوارع القاهرة وأزقتها الملتوية ودمجها في البناء السردي دون إقحام على النص، مما يضيف للأحداث واقعية أكثر. ويتكرر هذا في أغلب أعمال أشرف الصباغ، فالمكان بطل رئيسي، ربما نابع من اهتمامه بطبقات المجتمع وأهمية تشكيل الأفراد في ضوء الأماكن التي يعيشون فيها.
وعلى الرغم من إقامة الصباغ في روسيا لمقربة 40 عامًا، إلا أنه صحفي في الأساس، يشتبك يوميًا مع قضايا المجتمع المصري والناس والواقع المؤلم، يقرأ الأخبار بشكل يومي، ويظهر هذا جليًا في فيض الأفكار والمشاعر المرتبطة مع حيوات المصريين بشكل واضح. فجاءت أغلب القصص شديدة الواقعية في موضوعاتها، كأنها خبر يحرره لإحدى الوكالات، لصدقها الشديد وضربها في الأعماق المؤلمة.
من الواضح أن “الرواية” في الوقت الحالي تسيطر على فضاء الكتابة بنتيجة المسابقات والجوائز والترجمات. غير أن هذا جاء على حساب الأشكال الإبداعية الأخرى. ومع ذلك فالقصة القصيرة بدأت تأخذ أشكالًا مختلفة. ففي قصص الصباغ القصيرة، على سبيل المثال، تكاد تكون إحدى القصص تمثل عالمًا روائيًا كاملًا، ممّا يُمكن اعتباره نسقا قصصيا في مواجهة تسيد الرواية على فضاء الكتابة. وهو ما نره أيضا في مجموعته القصصية “حبيبتي طبيبة العيون السيريالية” التي تتكون من خمس قصص لا غير، تتميز ليس فقط بتعدد الأماكن والشخصيات، بل وبوفرة الأحداث وتنوعها أيضا.
ويبدو أن القصة القصيرة عند أشرف الصباغ تتخذ معايير مختلفة نسبيا عن القصة لقصيرة المعتادة بمعاييرها الصارمة التي اعتدناها. لكنها لا تزال تمتلك طعم ومذاق القصة القصيرة بعالم أكثر ثراء، وأحداث مشوقة ومحملة بالهم الإنساني.
وأشرف الصباغ كاتب مصري، تنوعت مجالات انتاجه في الأدب والصحافة. وتميزت بالغزارة ما بين كتابة الرواية والقصة القصيرة، إلى جانب ترجمة العديد من الأعمال الأدبية والنقدية والفنية من اللغة الروسية. إضافة إلى بعض الكتب حول الأوضاع في روسيا إبان فترة التسعينات من القرن العشرين.
ومن أعماله الأدبية:
– “قصيدة سرمدية في حانة يزيد بن معاوية”، مجموعة قصصية– دار النهر- القاهرة، 1996.
– “خرابيش”، مجموعة قصصية– دار النهر- القاهرة، 1997.
– “العطش”، مجموعة قصصية، دار سما- القاهرة 1997 (طبعة ثانية– هيئة قصور الثقافة، القاهرة 1999).
– “مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري”، رواية – دار “الدار”، القاهرة 2006.
– “رياح يناير”، رواية – دار العين، القاهرة 2014.
– “صمت العصافير العاصية”، مجموعة قصصية – دار العين، القاهرة 2014.
– “شرطي هو الفرح”، رواية – دار الأداب، بيروت، 2017.
– “كائنات الليل والنهار”، رواية، دار العين، القاهرة 2019.
– “أبواب مادلين”، مجموعة قصصية- دار “روافد”. القاهرة 2022.
– “حبيبتي طبيبة العيون السيريالية”، مجموعة قصصية. دار “بتانة”. القاهرة 2022.
– “أول فيصل”، مجموعة قصصية- دار “روافد”. القاهرة 2023.
– “لارا”، مجموعة قصصية- دار “روافد”. القاهرة 2024.