المعادلات الموضوعية وغرائبية الصعود في أبواب مادلين لأشرف الصباغ.. قراءة أدبية من منظور نفسي

rasha al fawwal
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. رشا الفوال

على افتراض أن القصة القصيرة منذ نشأتها نوعًا بينيًا تتنازعه أهداف متعارضة؛ فهو شخصي واجتماعي، رومانتيكي وواقعي، يسعى إلى ترميز الواقع؛ والنوفيلا التي تقع على الحدود بين القصة القصيرة والرواية هي الشكل الدرامي الأقرب إلى بنية القصة القصيرة، والأقرب إلى امتدادات تيار الوعي بما ينطوي عليه من حرص على توصيل الخطاب من خلال حادثة درامية (1).

نوفيلا: أبواب مادلين الصادرة عام2021 عن دار روافد للكاتب أشرف الصباغ تبدأ بخطاب ذاتي تجريدي للتعبير عن خبايا نفس البطل الذي جعلها مقسمة إلى أجزاء مشهدية تأرجحت بين الصورة الدرامية للعالم السوداوي في مقابل الحياة الخاصة للشخصيات المتسمة بالمحبة والوفاء.

المعادلات الموضوعية كمفهوم نقدي يشير إلى الرموز التي يستخدمها الكاتب من أجل التعبير عن المواقف والأحداث المجتمعية التي لا يرغب في الإفصاح عنها بشكل مباشر؛ اعتمدها الكاتب؛ لأنها الصيغة الفنية الأنسب للتعبير عن العواطف المتصلة بسلسلة من الأحداث، وهى أيضًا الأداة الإبداعية التي استخدمها حتى لا يقع في فخ الإخبار.

*الاتجاهات النفسية وممارسة لعبة الإيحاء:
تنتظم خبرات الإنسان وتكون ذات تأثير من خلال اتجاهاته الوجدانية القائمة وراء اعتقاداته فيما يتعلق بموضوعات معينة، ربما لذلك يخبرنا بطل الجزء الأول من العمل محل القراءة عن موقفه من العالم والأنظمة التي تحكمه قائلًا: “لا أحب الحرب، ولا أحب من يحبها، كل الحروب التي أخذونا من أجلها لم تكن حروبنا”.

ليأتي الجزء الثاني تحت عنوان: باب الوصول مشيرا إلى مرحلة الميل نحو شيء معين، وهذه المرحلة تستند إلى خليط من المشاعر الذاتية وبعض المنطق، وتتضح فيها وظائف الاتجاهات في الحياة النفسية للبطل حيث الحاجة إلى الانتساب لجماعة معينة، يقول “وبين تلك الجموع تعرفت على زوجتي وظللنا نطلب المدد كل عام حتى كبرنا بين الأحلام والرؤى والانتظار” والحاجة إلى إعطاء الحوادث معنى ودلالة خاصة في فترات الهزائم، من أجل إعطاء دور جديد للأفراد تسمح به المعتقدات، يقول “سأتوجه إلى حارتنا المهدمة، سأتبول على الأطلال والأشباح، وسأكتشف أنني صرت عجوزا” والحاجة إلى الاحتماء الوجداني “صاحت امرأة جالسة على أعلى الدرج موجهة حديثها إلى زوجتي: مدد، وأشارت لنا بالدخول”.

ثم يأتي اتجاه: ميمون الثابت نسبيًا والمستقر نحو: مادلين، في الجزء الثالث الذي يحمل عنوان: أبواب مادلين والذي يمكننا اعتبار الإيحاء من أكثر عوامل تكوينه؛ ربما يرجع ذلك لاعتبارها امتداد_ فرضه منطق الكتابة_ لشخصية: صفية فرج، وهنا أيضًا تتجلى رمزية الأم التي لا تموت، معنى ذلك أن اتجاهه حددته المعايير الاجتماعية العامة التي امتصها في مراحل طفولته دون نقد؛ فأصبحت جزءًا نمطيًا من شخصيته يصعب عليه التخلص منه؛ فاختلاف شخصية: مادلين وتمايزها عن غيرها عمل على تأكيدها حتى وإن أشار البطل لكونها نسخة مكررة من أمه: صفية، يمكننا تفسير ذلك إذا افترضنا عمق خبرته بشخصية: صفية نفسها وارتباطها بسلوكيات محددة في المواقف الاجتماعية المختلفة، نضيف إلى ذلك انفعاله الحاد بشخصية: مادلين التي ارتكز عليها في عاطفته، يقول ميمون “كانت أمي صفية فرج ترى أن المنتصرين لا يكتبون التاريخ، لكن مادلين الملعونة ترى أن التاريخ الحقيقي هو حكايات الناجين من أتون الحرب”.

ربما لذلك كله استعان: ميمون بخبراته الماضية وعمل على ربطها بحاضره في الجزء الرابع الذي حمل عنوان: سيدة الحجب تزور مادلين في المنام هذا الجزء الذي نلاحظ من خلاله أن تكوين الاتجاه النفسي للبطل: ميمون بدأ بالمرحلة المعرفية التي تضمنت إدراكه لعناصر البيئة الاجتماعية كالأماكن والشوارع والبيوت وما يتصل بها من بعض القيم الاجتماعية، إذ لا يتمكن الإنسان من تكوين اتجاهات إلا إذا كانت في محيط إدراكه، تمكن الكاتب أيضًا من توظيف الأشياء المادية في واقع البطل المكاني للإيحاء للمتلقي بعمومية الحدث، مع ملاحظة أن الميل إلى التعميم تم من خلال آليات التبرير والاستقصاء.

في الجزء الأخير من النوفيلا والذي جاء بعنوان: الحوض المرصود تفاعل الكاتب مع الأماكن متخذًا منها معادلًا موضوعيًا للضياع؛ فنراه جعل الأبواب رموزا لما يطلبه الإنسان من ستر واستقرار وخصوصية، تتضح أيضًا وظائف الاتجاهات؛ فالوظيفة المنفعية ساعدت الأبطال في تحقيق الأهداف حتى لو من خلال اللمحات الغرائبية، يقول ميمون “نظرت حولي فلم أجد أحدًا، بكيت وظللت أبكي حتى انفتحت جميع الأبواب”، والوظيفة التنظيمية التي ساهمت في تكوين شخصيات مستقلة تستجيب للمواقف بطريقة ثابتة، ولا تحتاج إلى اتخاذ موقف خاص بكل خبرة جديدة، “ابتسمنا واعتبرنا أن الأمر بسيط، فلم يعد هناك إلا حوالي أربعين دقيقة حتى يفتحوا الأبواب”، والوظيفة الدفاعية التي ساعدت الشخصيات على تبرير صراعاتها الداخلية حتى تحتفظ باحترامها لنفسها من خلال آليات: المشاركة والتأييد في حال ميمون، والتعبير اللفظي عن الاختيار والتأمل والاختبار العملي وخوض التجربة باتجاه الموضوع في حال مادلين التي نتج اتجاهها عن ثبوت صورة ما تراه ضمنيًا في نفسها وتجسيده حسيًا؛ فالعيون هي القادرة على الاحتفاظ بصور الأشياء وتبدلاتها من خلال المعاينة والمشاهدات.

*خاتمة:
العمل ككل معادل موضوعي لواقع المجتمع وقضاياه السياسية، في الجزء الأول منه اتضح المكون الوجداني للاتجاه، الذي نعني به شعور البطل العام نحو العالم بأنظمته الحاكمة وبؤس البشر، والمعلومات التي تتفاوت في وضوحها. وبالتالي تأثير ذلك في قبوله أو رفضه، ربما لذلك ارتبط المكون الوجداني بمثيرات ومواقف اجتماعية، واتضح في الجزئين الثالث والرابع المكون المعرفي في اتجاه: ميمون الإيجابي نحو: مادلين/ روزا و: صفية وهو المكون الذي يرجع لمعرفة كل ما يتعلق بهما من تفاصيل حياتية، بالتالي يتم التعبير عن هذه المعرفة بعبارات تشير إلى نزعات انفعالية اتضح أيضًا في الجزئين الثاني والخامس المكون السلوكي للاتجاه الذي نعني به الترجمة العملية لاتجاهات: ميمون/ مادلين نحو الأشخاص والأفكار؛ على اعتبار المكون السلوكي للاتجاه مكتسب، مع ملاحظة أن هذا المكون ليس من الضروري أن يكون منطقيًا.

ارتكز العمل على استلهام التراث الديني وما يحويه من معطيات جمالية وصور فنية؛ لأن التراث الديني له مكانته في الوجدان الجمعي ودلالة ذلك تكرار مفردة “مدد يا أم اليتامى”، وحلم اليقظة الغرائبي إلى أن يصل البطل والبطلة إلى كنيسة العذراء بالزيتون، يقول البطل: “لا أدري إلى الآن من كنت أنتظر من السيدتين أم النور أَمْ أُم اليتامى”، وكأن الدين هو الملجأ الروحي؛ فنجد الرموز الصوفية التي أدرجها الكاتب معتمدًا على الإيحاء بالمشاعر بدلًا من التعبير المباشر عنها.

نجح الكاتب في ممارسة لعبة الترميز والإيحاء من خلال تجسيد انفعاله بالأماكن المختلفة والمتعددة، إلا أن الانفعالات التي رغم اتخاذها صفة الاستمرار النسبي والثبات أمكن تعديلها تحت وطأة الظروف، فكانت غرائبية الصعود- في ختام العمل- بمثابة المعادل الموضوعي لفكرة الخلاص من الزحام والروتين والقذارة: “قادنا الممر إلى ممر أوسع، ثم انفتح باب على ساحة أوسع بكثير، وسمعت صوت خرير ماء من كل الزوايا والأركان.
…………………..
خيري دومة “تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة”، الهيئة المصرية العامة للكتاب (١٩٨٨).

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم