أمجد ناصر عن محمود درويش: سحر القصيدة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أمجد ناصر

 

*كتب الشاعر أمجد ناصر هذه المقدمة في  2016 بناء على طلب من الشاعرة المصرية رنا التونسي لتكون مقدمة مشروع لتقديم قصائد محمود درويش للأطفال، ولم تنشر من قبل.

 

تصوروا أنكم في السادسة، أو السابعة، من أعماركم وتضطرون للهرب ليلاً، في أرضٍ وعرة، بين تلالٍ ووديانٍ، مشياً على الاقدام، ولا شيء يدلَّكم على الطريق سوى خطى أفراد العائلة الأكبر سناً التي تتقدمكم، ولا تعرفون إلى أين أنتم ذاهبون، ولكنكم تعرفون أنكم تهربون من الرصاص والقنابل التي تنزل على مدنكم وبلداتكم وقراكم كالمطر. هل يمكن أن تتصور ذلك؟ هناك، اليوم، من بإمكانه أن يتخيل ذلك، بل من بوسعه أن يروي لنا قصصاً مخيفةً عن الحروب والتهجير كما يحصلُ في بلدانٍ عربيةٍ عديدة. لكن مع ذلك يظلُّ التهجيرُ واللجوءُ إلى بلدانٍ قريبةٍ وبعيدةٍ أمراً عسيراً على الكبار، فكيف على الصغار، فهو مثل اقتلاع شجرةٍ من أرضها الأولى وزرعها في أرض جديدة. لن تكون الأرض هي الأرض نفسها ولا الهواء هو نفسه، ولا مَنْ يرعون تلك الشجرة بأنفاسهم وأيديهم.. وربما بأرواحهم.. هم أنفسهم.

في ربيع عام 1948 كان يتوجَّبُ على طفلٍ، في السادسة، أو السابعة، من عمره يدعى محمود، يقيم مع ذويه في قريبة تسمى “البروة”، في منطقة الجليل الغربي في فلسطين،  أن يهرب مع أفراد عائلته إلى لبنان، فراراً بأرواحهم من مليشيات صهيونية مسلحة احتلَّت بيوتهم وبساتينهم ومدارسهم وساحات لعبهم. أقام هذا الطفل الذي يدعى محمود، مع عائلته، بمخيم في لبنان شيَّد على عجلٍ لإيواء اللاجئين المتدفقين من فلسطين التي احتلتها تلك المليشيات وشكلت كياناً على أنقاض البلاد التي كانت تسمَّى فلسطين.  

يتمكَّن الطفل محمود، الذي تركت هذه التجربة أثراً لن ينتهي على حياته، من العودة متسللاً، مع أهله، إلى بلدتهم “البروة” فيجدها ركاماً. فقد فجَّرتها المليشيات الصهوينية تماماً، ثم محتها من الخارطة.. ولم يعد لها وجود سوى في ذاكرة أهلها.

لن يعود محمود الى بيته وقريته، وهما الوطن الأول للإنسان، فيصبح لاجئاً في بلاده التي صارت بلاداً لأناس آخرين قادمين من كل أنحاء العالم باسم وعدٍ دينيٍّ خرافي. فلسطين صارت تسمَّى اسرائيل، ومحمود، الذي كان أكبر من كيان اسرائيل، بسبع سنين، عندما تمّ إعلانه، صار شاعراً سيعرفه العالم العربي لاحقاً باسم الكامل: محمود درويش.

كان على درويش، الذي بدأ بكتابة الشعر مُبكِّراً، أن يعبِّر عن مأساة أهل بلاده الذين فقدوا، بين يوم وليلة، كلَّ ما كانوا يملكون: أرضهم، أشجارهم، لغتهم، جنسيتهم. تصوروا صعوبة هذه المهمة؟ لقد صار على القصيدة أن تعيدَ بناء وطنٍ مفقودٍ وحياةٍ فقدت معناها بفقدان الوطن. صار على القصيدة أن تكون وطناً لكلِّ ما هو مفقود، ولكلِّ ما يحلم به شعب تبعثر في اللجوء. هذه مهام صعبة جداً على الكلمات. كيف تعيد الكلمات، غير الملموسة، بناء عالمٍ ملموس؟ ولكن هذا هو سحر الكلمات. وهذا هو سرِّ القصيدة. غير أنَّ على القصيدة أن تكون قصيدة. أيَّ أن يتحقَّق فيها الشرط الفنيّ لكي تستحق المعنى العميق لهذه التسمية. وفنية القصيدة، أو جماليتها، ليست ترفاً حتى لقصيدة تتصدّى لمهمة إعادة بناء وطن مفقود، بل هي واجب شعري. وهذا ما فعله، بجدارة، محمود درويش الذي حوَّل قضية شعبه الوطنية، والقومية، إلى قضيةٍ انسانيةٍ تلامسُ الأجنبيَّ البعيد مثلما تلامسُ العربيَّ القريب.

بجمال القصيدة وصدقها وحرارتها الإنسانية، وليس بالشعارات والزعيق السياسي، أسهم درويش في إعادةِ صياغةِ قضية فلسطين في الوجدان العالمي.

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم