أجرى الحوار : مريات طوم
ترجمة : الحسن علاج
يطرح تنامي النزعات الشعبوية على صعيد الديموقراطيات أسئلة عدة في ذلك الدور المتفاقم للمشاعر في انتشارها. هل ذلك مضر بالعقلانية أم مكمل لها؟
إيفا إيلوز Eva Illouz ) ( عالمة اجتماع وتشغل مديرا للدراسات بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية . لقد جعلت من علم اجتماع العواطف مجال بحوثها الرئيس . لها العديد من الأعمال ومنها كتاب : العواطف ضد الديموقراطية (premier parallèle,2022)
مريات طوم : ما هو الحيز الذي تحتله المشاعر في الوقت الراهن في الحياة السياسية ؟
تلعب العواطف حتما دورا في الخطاب السياسي ، الذي يكون هدفه هو الإقناع . تجدر الإشارة إلى أن البلاغة هي استعمال اللغة لأغراض عاطفية . فإذا كان ذلك يطرح مشكلة في الديموقراطية ، فبسبب الافتراضات العقلانية التي يتم العثور عليها فيها . أول افتراض من تلك الافتراضات ، فإن شخصا ما قد يدلي بصوته دفاعا عن مصالحه: يتعلق الأمر بالعقلانية في معناها الاقتصادي . الافتراض الثاني، يكمن في الفكرة التي تتركها كافة الآراء التي يتم التعبير عنها ، وينتهي الأمر بالرأي الجيد إلى الانبثاق عبر فعل العقل . وإلا فإن ذلك لن يكون له أي معنى في اعتبار التعدد في التعبير أمرا جيدا ! ويكمن الافتراض الثالث في فرضية يورغن هابرماس : بإمكان جماعات بشرية تنافس بعضها بعضا التوصل إلى إجماع عقلاني . سيكون بإمكان أفرادها أن يضعوا جانبا مصالحهم بغية الاتفاق على حل أفضل من أجل المصلحة العامة .
وذلك لأن الديموقراطيات تفترض أشكالا ثلاثة للعقلانية التي يطرح فيها سؤال العواطف بشكل حاد . لكن أيضا لأن السياسة طورت وسائل التواصل والتلاعب التي تصدر مباشرة عن أساليب دعائية . وفي الوقت الراهن ، ثمة حشد كامل من المستشارين يصنع العرض السياسي تبعا لأساليب التسليع العاطفي التي هي خاصة الاستهلاك .
مريات طوم : هل يمكن لتلك المشاعر أن تشكل خطرا على الديموقراطية ؟
بالنسبة لي ، كعالمة اجتماع ، لا توجد عاطفة جيدة أو سيئة في ذاتها . وبهذا فأنا أختلف عن الفيلسوف أو عالم النفس . تمتلك كافة العواطف وظيفة اجتماعية . إنها تظهر ، في السياق السياسي ، داخل بنيات سردية ، قصص ومخططات سببية . يتمثل الخطاب السياسي في تقديم تفسير لماذا توجد الأمور على هذا النحو ، وفتح إمكانية التغيير . انطلاقا من هذا التمفصل السردي تنشأ عاطفة مركزية ، رافعة عاطفية دائمة .
لذلك فأنا لا أعتقد أنه يمكن التخلص من المشاعر . يذهب المرء للاقتراع لأنه غاضب من الظلم ، مثلا : إنه حافز على التصويت يتم اعتباره مشروعا والذي نعتبر أنه لا يمثل تهديدا في حد ذاته للديموقراطية ، لذلك فليست العاطفة في ذاتها ، وإنما نمط العاطفة الذي يتم استحضاره هو الذي يكون شرعيا أو لا شرعيا .
بمعنى؟
تم إقصاء عاطفتين من الفكر الديموقراطي : الخوف والاشمئزاز . تعود صياغة فكرة ليبرالية الخوف إلى عالمة السياسة الأمريكية جوديث شكلار Judith Schklar) ( . وبالنسبة إليها ، فابتداء من اللحظة التي يحس فيها أحد أفراد الجماعة بالخوف ، باعتباره فردا من أفراد تلك الجماعة ، فإن المرء لم يعد بعد موجودا في نظام ليبرالي ـ أعني نظام تقوم فيه الدولة بحماية الأقليات ( السود ، المثليين ، اليهود ، إلخ . ) من الاضطهادات . لا يلجأ نظام ليبرالي ما ، بالنسبة إليها ،إلى الخوف لإثبات شرعية الحاكم . خلافا لذلك ، فإنه يتم اعتبار الخوف في كتاب الأمير لنكولا ميكيافلي (1532) ، وسيلة شرعية للحكم . إنها الطريقة لأكثر نجاعة ، بالنسبة إليه لمراقبة مواطني الجمهورية ولاستتباب النظام الاجتماعي . وبالمقابل ، يفترض في الحاكم ، في العصر الحديث ، أن يكون على ارتباط بالمحكوم بواسطة عقد اجتماعي : يتم فرض شكل تماثلي يكون كل منهما يكرس نفسه من أجله . لم يعد حضور الخوف منطقيا بعد . وعلى الرغم من ذلك ، فإن علماء الاجتماع قد أدركوا أن الأنظمة الليبرالية يتم تعريفها من خلال حمايتها وميلها أيضا إلى مضاعفة موضوعات الخوف : إرهاب ، تفشي الأوبئة ، إلخ . لم يختف الخوف البتة من أفقنا السياسي .
كما أنه لا يفترض في المرء ، في ظل الديموقراطية ، التعبير عن الاشمئزاز إزاء مجموعة بشرية ما . وبالنسبة لي ، فإن دونالد ترامب الذي يعتبر خارج المعايير الديموقراطية تماما ، يلجأ باستمرار إلى توظيف الاشمئزاز . لقد تحدث ، في الآونة الأخيرة ،عن المهاجرين الهايتيين الذين يأكلون الكلاب والقطط بمدينة سبريفيلد ، في ولاية أوهايو . والمقصود من هذه القصة هو خلق الاشمئزاز . ويشكل الخوف والاشمئزاز من المهاجرين الذين يغتصبون ويسرقون آليات قوية للغاية لحملته . وتعتبر عاطفتا الخوف والاشمئزاز ، اللتين تم توظيفهما مرارا بواسطة الشعبويين ـ سواء كان جيرت فيلدرز (Geert Wilders) ، إريك زمور أو دونالد ترامب ـ متعارضة للغاية مع الديموقراطية.
لكن ألا يستغل المعسكر المناوئ الاشمئزاز الذي يمكن لتلك التصريحات الشعبوية التسبب في التحريض عليه؟
أعتقد ، أنه في حالة الاشمئزاز ، ثمة تفاوت بين توجهين سياسيين . تذكروا هيلاري كلينتون ، في عام 2016 : لقد نعتت الذين صوتوا لصالح ترامب ب” سلة يائسين ” : ولقد شكل ذلك فضيحة حقيقية ؛ وكان ينبغي عليها تقديم اعتذار في اليوم الموالي ويعتقد العديد من الناس أن ذلك كلفها الانتخابات . عندما يتم التفكير في عدد التصريحات المخزية التي تلفظ بها ترامب حول الجنود القدامى ، ذوي الاحتياجات الخاصة ، النساء ، المهاجرين : ليس هذا أنه لم يكلفه شيئا فقط ، وإنما علاوة على ذلك ، فإن ذلك كان يرضي قاعدته ويعززها ضمن تأييده .
الخوف والاشمئزاز ، عاطفتان قمتم باستعمالهما في سنة 2022 بهدف تحليل خطاب نتانياهو بإسرائيل . ألا تزال شبكة التحليل تلك سارية المفعول في الوقت الحاضر ، ضمن سياق الصراع الحالي مع حماس وحزب الله؟
عندما قمت بكتابة كتاب المشاعر ضد الديموقراطية ، في عام 2021 ، كنت أسعى إلى فهم كيف تمكن بنيامين نتانياهو من البقاء في السلطة ـ وهو ما يبدو شيئا غير قابل للفهم . ولتحقيق هذا الغرض طورت شبكة قراءة للشعبوية الإسرائيلية . وقد بدا لي أني أمتلك القدرة على فهم تلك الشعبوية عبر ممارسة عواطف أربع : الخوف ، الاشمئزاز ، الكراهية وعشق الوطن . إن تلك البنيات السردية ، التي تشتغل معا، تسمح بتفسير سلطة نتانياهو ـ كما يكون بإمكان المرء العثور عليها لدى ترامب وآخرين .لقد تفاقمت كل تلك المشاعر ،في سياق الحرب : محبة الوطن، الخوف والاشمئزاز من العدو ، بطبيعة الحال . على أنه في معظم الأحوال ، فإن ذلك الاشمئزاز المعبر عنه من قبل حفنة من المتطرفين ، يركز على أمور متنوعة داخل المجتمع : إنهم النسويون ، اليساريون ، المثليون ، العرب ، العلمانيون . وبالرغم من ذلك ، ثمة في الوقت الراهن خطاب مماثل للتضامن القومي حيث تم التكتم عن الاختلافات بين الجماعات داخل المجتمع ، بهدف تعزيز التضامن الداخلي حيال العدو .
هل تعتبر كل من الضغينة وحب الوطن ، شأنهما في ذلك شأن الخوف والاشمئزاز متناقضتين مع الديموقراطية ؟
لا . بإمكان المرء أيضا أن يلاحظ في الضغينة شعورا ديموقراطيا تماما. وقد يتساءل ” لماذا يمتلك هذا الشخص هذا الشيء وأنا لا ؟ ” ، هذا شيء مشروع . ليس الحسد عرضا من أعراض الديموقراطية وفي تقديري ، إنه جوهرها . ولقد سبق لألكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville) الإشارة إلى ذلك . فانطلاقا من اللحظة التي يتم الإعلان فيها عن أن كل الرجال والنساء متساوون ، فلا مفر من أن يتم التقريب بين بعضهم البعض .
وبالنسبة لحب الوطن فهو ليس متناقضا البتة مع الديموقراطية . فلطالما كان اليسار وطنيا . فالحرب العالمية الثانية هي التي جعلت هذه العلاقة مع الأمة والوطن علاقة أكثر إشكالية . في المقابل ، من الممكن وضع تمييز بين الحب الشامل للوطن ، الذي يتوقع آليات من أجل القبول وإدماج الأجانب ، وبين حب حصري للوطن يرغب في الاحتفاظ بهذا الحب لمجموعة معينة .
في ماذا يمكن للعواطف التأثير على التصويت ؟
أول خاصية للعواطف ، هو أنه بإمكانها الطغيان على مصلحتناـ فلو تفوه ، مثلا ، رئيسي بشيء وقح ، أن أغضب ، وأن يتم إعفائي من العمل ، فإني أفضل ، في تلك اللحظة بالذات ، غضبي على مصلحتي . نفس الأمر ، يستطيع المرء الاختيار أن يصوت لصالح شخص ما ضد مصالحنا، مادام هذا الشخص يعبر عن كراهيتنا وسخطنا. خاصيتها الثانية ، هو أن المشاعر تجعلنا أكثر صمودا إزاء الواقع . فإذا كنت أكن كثيرا من الحب لشخص ما فبإمكاني معرفة أنه يتصرف بشيء سيئ حيال الغير دون أن يغير ذلك من الحب الذي أكنه له .
بإمكان تينك الخاصيتين تفسير استقرار القاعد الانتخابية لترامب ،بالرغم من الشكاوى أو اكتشاف خيانته لزوجته أثناء حملها . كل تلك الوقائع ليس لها أي تأثير حقيقي على قاعدته الانتخابية . أعتقد أن كل ذلك يمكن تبريره من كون أن الحث على التصويت لصالح ترامب ناتج عن مصدر عاطفي . إنها تندرج في بنية سردية ، قصة ، نسق يسمح بتفسير العالم : ” يرغب ناس واشنطن في انتزاع كل شيء منا ” ، ” إن المهاجرين هم بصدد الحلول محلنا” ، ” لقدعملت ثورة اليقظة على اغتيال كافة قيمنا “ ، إلخ .
ولإنهاء النقاش حول الشعبوية ، هل سيكون من الممكن محاولة التخلص من تلك المشاعر وذلك لوضع الثقة في التكنوقراطية ؟
لا أعتقد في وجود وصفة سحرية للتخلص من الشعبوية . يتوجب الشروع في إعادة بناء يسار يتسم بالمصداقية نوعا ما ، أكثر قربا من العمال . وبالفعل ، فإن الشعبوية تتأتى من كون أن جزءا كبيرا من خطاب اليسار ، لم يتمكن من تقديم جواب عن الاستياء ، الذي تشعر به قاعدة كبيرة من العمال من الطبقات العمالية والمتوسطة ، والذين يعتريهم إحساس بعدم إحكام السيطرة على حياتهم اليومية . ويتأتى ذلك أيضا من كون أن السياسي أحبطه التعقيد الاجتماعي ،الاقتصادي والتكنولوجي المتنامي . على الخطاب السياسي أن يعكس القضايا الاجتماعية ، البنيات الاجتماعية ، العلاقات الاجتماعية ؛ إلا أن هذه الأخيرة أصبحت أكثر تعقيدا لدرجة لم تعد معها ممكنة . الميزانية ، التضخم الاقتصادي ، البطالة : فحتى علماء الاقتصاد لم يفهموا محدداتها بصفة دائمة . تحولت السياسة إلى قضية خبرة لا يتقنها حتى الخبراء أنفسهم . إن جواب السياسي لم يكن فقط في تبسيط خطابه ، بل ، إضافة إلى ذلك ، الانسلاخ عن ذلك التعقيد .
كذلك فإن بنيات السلطة أصبحت منتشرة ومعقدة وخاصة مع الشركات التكنولوجية الكبرى ، عمالقة الإنترنت ، الذين بحوزتهم ثروات أكثر من تلك التي لدى الدولة وسلطة إيديولوجية قوية للغاية . إن النظام الثنائي للفكر الماركسي ، على سبيل المثال ، حيث ثمة مالكون ومملوكون ، لم يعد يشتغل البتة . نحن كلنا عمال ـ متطوعون وطوعيون ـ لفكر غوغل والفيس بوك ، الشيء الذي يعقد كثيرا مجال الفكر والعمل السياسي .
أمام تعقيد السياسي والاقتصادي ، يفتقد المرء إلى سلطة حقيقية للفعل .وحدها السلطة الي تدوم ، هي سلطة خيالية يتم تسريعها بواسطة العواطف . تدوم العواطف أكثر في الخيال ـ إن فوبيا الموت الأسود مثلا ، هو تشغيل المرء لخياله .والمجازفة ، من خلال اللجوء المبالغ فيه للعواطف ، هي أن تعيش في عالم متخيل ، ألا تعود في اتصال بعد مع الواقع . خلق فضاءات رحبة خيالية ، مترعة بالإسقاطات والسيناريوهات العاطفية التي تغذي تأويلات مصابة بجنون العظمة للحياة الاجتماعية والسياسية . يسهم هذا في تعزيز الصراعات الداخلية في المجتمع .
هل ثمة عواطف يمكن اللجوء إليها في بناء أفكار ديموقراطية جديدة ، لمعارضة العواطف التي يتحكم فيها الشعبويون ؟
الجواب التقليدي لسؤالكم هو الأمل الذي يعتبر عاطفة مركزية في فكر الأنوار . على أنه بالنسبة لي، الأخوة أولا وقبل كل شيء . إنها عاطفة تربط بين اللاهوتي والسياسي ؛ إنها التعبير العاطفي وذات أساس قوي للمثال الأخلاقي والسياسي للنزعة الكونية . إنها التجسد الملموس لتلك الفكرة المجردة . ليست الأخوة في حاجة إلى أن تموضع الآخر في مجموعته الخاصة في ذاتها . بإمكانها أيضا أن تتخذ من الأجنبي موضوعا لها، ذلك الذي لا ينتمي إلى جماعتي . وليس نقطة وصول ، بل نقطة انطلاق ، ولا يتعلق الأمر بابتكار مؤسسات أخوية ، بل بامتلاك وجهة نظر أخوية حول المجتمع وحول الآخر عند إنشاء مؤسسات .
………………………
مصدر النص : Les Grands Dossiers Sciences Humaines n 77 Décembre 2024 – janvier- février2025.