المستنقع

محمد فيض خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فيض خالد

مذ وطأت أقدامنا هذا البيت الكئيب، وتحديدا غرفته الرطبة تلك، وأشياء غريبة تحصل من حولي لا أجد لها تفسيرا، تركت كل شيء عادتي للصدفة، ولتقدير الزمن، تصرفات مريبة تستفزني أحيانا، وتحرجني عن طوري، يختفي أصدقاء السكن مع دخول المساء، يتضاءل وجودهم مع آخر لقمة، اخبر نفسي وأنا أطالع حوض الغسيل الذي تراكمت فيه الأواني، وخليط زنخ لبقايا الطبيخ يعكر صفو المكان أين يذهب هؤلاء؟!، في البداية لم ألق بالا، حاولت تجاوز المسألة، امسكت بكتاب أقرأه، مترجمات يحيى حقي الفرنسية، لكن زحام أسئلة محيرة، لا تتركني وشأني، هبت على رأسي، هبوب اللهب ظهيرة يوم صائف، رحت افترض بعض الفرضيات؛ ربما التواصل مع الأهل، أو التمشي قليلا؛ كحل ناجز لتسريع عمل البطون، والتخفيف من أحمالها، لم اقطع برأي، وفي كل مساء أصبحت انتظر تلك الابتسامات الهزيلة، والأسارير المنبسطة في تشاغب سمج، خيط الصفير المزعج على وقع لحن ركيك، غلالة الصمت التي تعقبها حالة غير منتهية من الذهول، مصمصة الشفاه ، اعلم يقينا بأن خبيئة ما هنا، فأبناء الطين لا يجتمعون إلا على مغنم، تخنقني تعبيرات الوجوه تلك المصطنعة، الملطخة بالدهاء، المتشابهة كنسخ الكاربون بتفاصيلها المملة، الأفواه نصف المفتوحة في استغراب، العيون الجاحظة، الأضراس التي تتعطل دون إنذار عن الطحن، النظرات المتبادلة في بله، وهذا الهروب المفاجئ، ذات يوم عربد الفضول برأسي، حاولت كبح جماحه أكثر من مرة دون فائدة، نبتت في رأسي خاطرة، بعد لأي انسللت من خلفهم ، هالني مرآهم، في مكان ضيق حشروا أنفسهم في سكينة ، وكأن على رؤوسهم الطير، تطفر وجوههم بسكرى رمادية تكسوها نوبة ثقيلة من التلذذ، لم يشعر أحد لوجودي، وقد شخصوا بأبصارهم، يلتفتون بثراء ناحية الباب المغلق، ومن الداخل تتأتى الأصوات في اندفاع مثير، تنتظم في عنف ، حركات سريعة، لهاث متواصل، وغمغمة ما إن تنقطع حتى تتفجر ثانية، انقطع فجأة الفحيح، بدت الوجوه مدثرة بابتسامة مرحة، في تشهي، تلعق عيونهم الباب قبل انصرافهم، لم يدر ببالي أن تلك الحجرة التي تقرحت جدرانها ، وفاحت منها رائحة الرطوبة والعفن، يمكنها اجتذاب الرجال بهذا الكيف، طوال أسبوع كامل وجارنا الهندي في وصلة غرامية مع صديقته، شابة في مفتتح عقدها الثالث، نحيفة القوام، نحاسية البشرة، ذات شعر طويل معقوف كقرص خبز الشعير، وفم واسع تشع منه أضواء أسنان بيض، تخب في خرق ملفوفة من حولها بعناية، خليط مثير من الألوان، بين الأحمر والأصفر والبرتقالي، وفوق هذا ، ابتسامة غائمة تذوب وسط عينين واسعتين، يتحرك قرصهما الأسود وسط محاق أبيض متسع، بعد يومين بالتمام ظهر جارنا كاسف البال حزينا، قد أربد وجهه يلم شعث نفسه في ضعف وتخاذل، يمضغ الصبر والشرر يتطاير من حوله، هربت صديقته بلا رجعة، وقبيل انتهاء الأسبوع رأيته مجددا، وطيف ابتسامة يجول بوجهه اليابس، يدندن بلحن مرح، حياني بهزة رأس خفيفة ، في هذا المكان البائس؛ لم يتبق للغريب إلا أن يهدهد أحلامه حتى وإن كانت مجنونة، يستجدي أمانيه الشاردة حتى وإن كانت مستحيلة، يمد يده ما وسعه ليكتشف الوجود من حوله، يدور في فلكه، حتى جسده الذي يملكه، يخشى يوما أن ينكره، فهنا حتما سينطفئ الحلم، ويخلد الوهم، وتطوي سجلات الأيام وتلك عادتها التي لا حيلة للإنسان في دفعها.

مقالات من نفس القسم