نورهان أحمد
من خريف ١٩٩٩
عندما جلسنا في حلقة في إحدى الحدائق الجميلة المجاورة لجامعتنا، أشارت إحدى الصديقات إلى خاتم جميل هدية من والدتها. قصّت علينا صفات تلك الأم وحكاية الخاتم، الذي اعتبرته حلقة الوصل بين هذه اللحظة الحاضرة والماضي المغيّب في الذاكرة كمشاهد باهتة.
وصارت كل صديقة بدورها تذكر حلقة الوصل التي تركتها لها والدتها. ما حفظته في ذاكرتي من حكاياتهن هو قول فاطم إن ما تركته والدتها هو أختها الصغيرة زينة، وكيف أنها تحب النظر في وجهها كثيرًا، لأن انعكاسها في بريق عينيها يذكرها بذلك الانعكاس القديم في عيون والدتها…
بعدما تفرقنا، سرنا أنا وفاطم في طريق طويل، وأخذت تكمل لي تلك الحكاية. أخبرتني وهي ترفع نظرها إلى السماء وقد تجمعت بعض الدموع على جفنيها: “إنها تقبّل عيون أختها كل يوم قبل نومها”، وأنها لا تخفي ذلك الشعور الغريب داخلها، أن الذكرى الوحيدة لأقرب شخص في حياتها ليست شيئًا تمتلكه؛ لا سِمة موروثة في ملامحها، ولا شيء مادي تعلّقه في عنقها أو رسغها. إنه فقط شيء لا تملك سوى النظر إليه والحسرة على كون عينيها بعيدة كل البعد عن أن تكون كعيون أمها. ثم وجّهت نظرها إليّ، وقد تساقطت الدموع على وجنتيها، وسألتني: “هل تدرك زينة قيمة ما تمتلكه حقًا؟ أم أن الأشياء، وإن كانت عادية، تملك قيمة عالية بما ترتبط به من ذكريات، وقد كانت ذكريات زينة بأمها قليلة؟!”
وصلت شقتي ذلك اليوم، محملة بشعور من الحيرة والحزن من الفقد، جلست على فراشي ذلك المساء متلحفة بأصوات الوحدة التي قد بدأت أعتاد عليها. بجواري كوب الشاي الساخن. أمسكت قلمي وخطَطْتُ في دفتري، وقد بدا أن قلبي ممتلئ بشعور شفقة على فاطم. عندما نظرت إلى ما كتبه قلمي: “أمي لم تعطني شيئًا واحدًا”، كأن دموعي كانت ساخطة على تلك الجملة عندما بدأت تنهمر فوقها، تزيلها وتخلط حروفها معًا…
أصابني شيء من الخوف والقلق، فأخذت أقلب الأدراج والرفوف في عصبية وبكاء، أبحث عن حلقات وصل ربما أهملتها…
على الأرضية، وضعت السوار الأزرق، القلادة على شكل قلب، خاتم ورق الشجر، ودبوس الفراشة الأبيض الذي أثبته على ملابسي في بعض الأمسيات، والذي كانت أمي تقوم بتثبيته لي أحيانًا. السوار الأزرق وحديثنا عن الحب… أتذكر جملتها تلك: “لا تلقي بقلبك إلى محيط واسع وتنتظري العثور عليه على الشط، هذا درب من المعجزات قد يكلفك قلبًا…”
انهرت ببطء أمام تلك الأشياء الأربع، جالسة على تلك الأرضية، تسكب عينيّ الدموع، مستندة على ذراعي المرتعشين…
فتحت عيني أنظر إلى المرآة المثبتة في مقابلتي…
الصورة الكاملة التي حاولت التهرب منها. أنظر أمامي إلى أضعف نسخة مني… وإلى نسخة أخرى غادرتني أو تجاهلتها…
تخيلت في تلك الصورة المنعكسة أن عيناي تبكي دمًا، وعينين أخريين حزينتين لأجلي، تضمني بنظراتها الرقيقة…
تناسيت، وفشلت في ذلك هذه اللحظة، حقيقة أن أمي زرعت داخلي ذاتًا أخرى ترفق بي وتحميني…
تلك الذات التي حاولت طمسها وتغييبها عن واقع حياتي تحت وطأة الندم والحزن والمحاسبة العسيرة… كانت موجودة لتطمئنني أني لست وحيدة، وأن كل الأخطاء قابلة للإصلاح، والآلام تُنسى… والذكريات ليست في شيء مادي فانٍ… إن أمي ليست ذكريات، بل شيء زُرع داخلي، وإن فقدته من حولي، لا أفقده داخلي.
…
من شتاء ديسمبر 2007
أثناء انشغال كل واحدة منا في حياتها الخاصة، عرفت من صديقة أن فاطم فقدت أختها الصغيرة العام الماضي…
لم أنتبه لما أفعله إلا عندما وجدت نفسي في القطار المتجه إلى بلدتها. كان الجو مكفهرًا، والطرق زلقة إثر سقوط المطر. كنت أراقب الطبيعة من نافذة القطار، أحاول ترتيب وتجميع ما سأقوله لفاطم. لم أكن بارعة في قول عبارات المواساة، لكني أحمل هذا القدر من مشاركة المشاعر في قلبي، الذي يعينني على فهم ما تشعر به حقًا.
عندما وصلت منزلها، كان المطر يهطل بغزارة. كان سيري بسرعة في الشوارع أشبه بالجري. حمدت الله على أني ما زلت أذكر عنوانها جيدًا، رغم أن ذاكرتي لا يُعَوَّل عليها…
في ذلك الجانب المستظل بفروع أشجار كثيفة، صعدت درجات منزلها الرخامية وطرقت الباب عدة مرات، وقد كان قلبي ينبض بشدة بين جنبيه، خوفًا من جفاء قد ألقاه لغيبتي الطويلة عنها، في ظروف كان يجب أن أوجد فيها، خاصة وقد أفضت لي بقدر أختها عندها. لم أنشغل في البحث عن تبريرات، كلها ستكون سخيفة… استسلمت تلك اللحظة، وتركت الأمور تأخذ مسارها الطبيعي كما هو مقدر لها…
سمعت صوت أقدام تتحرك ناحية الباب. في تلك اللحظة بالذات، كنت أقترب من سماع صوت الدماء المتحركة في عروقي…
كان مقبض الباب يتحرك عندما ظهر لي والدها الشيخ. سألته عن فاطم، فأخبرني أنها قد خرجت لزيارة والدتها وأختها، وأنه لو علم بسقوط المطر بهذا الشكل، لكان منعها من الخروج.
أخذت منه عنوان المدافن. دعاني لانتظارها بالداخل بدلًا من السير في تلك الأجواء، لكني شكرته ورحلت…
لم أكن أمشي مسرعة تلك المرة، سرت ببطء نحو العنوان، وكأني استنفدت كل طاقتي في الخوف الذي اعتراني أمام الباب…
عندما وصلت، كان المطر قد توقف، وبدأت الشمس ترسل أشعتها في وهن من خلف الغيوم المتراكمة… قادني الحارس إلى مقابر زينة ووالدتها، ثم غادر. على مسافة ليست كبيرة، كانت تقف هناك، ترتدي معطفها الأسود، متوشحة بإيشارب بني جميل. وقد بدت بشكل ما منكسرة، وصعب علي معرفة إن كان ما على وجنتيها بقايا من دمع أم مطر. تقدمت نحوها في صمت حتى التفتت نحوي، وكانت نظرتها كأنها تتوقعني، وعلى نحو لم أتخيله، عانقتني بشدة، كأنها وجدت النجدة من تلك الحلقة من الوحشة التي تشعر بها…
كانت تعانقني وتبكي، وقد علا صوت بكائها، وكنت أبكي معها.
انتهى الأمر بجلوسنا على أحد المقاعد الخشبية في حديقة تخلو إلا منا نحن الاثنتين. كنا ننظر إلى السماء المفتوحة فوقنا، وقوس قزح يوشك أن يرتسم فيها. والأشجار حولنا، والعشب تحتنا، قد اكتسب لونه الأخضر الجميل محملًا بقطرات المطر…
أشارت إلى إيشاربها البني الذي يغطي رأسها مبتسمة، وأخبرتني أنه هدية من أختها زينة قدمته لها في عيد ميلادها السابع والعشرين.
قبل وفاتها، أقسمت أن أعانقها وأقبّلها على أنها زينة، وليس لأنها تحمل شيئًا ثمينًا في ملامحها. عندما كانت تنظر إليّ، كنت أطمئن أن أمي هناك، في تلك العينين، تراقبني وتبتسم لي. أخبرتني ذات مرة أني أشبه أمي أكثر، وإن كنا مختلفتين من حيث الملامح، لكنها تشعر في روحي وطبيعتي جانبًا آخر من أمي ممزوجًا معي، جانبًا لا يغزوه الهرم، لا يتلف، ولا يعمى.
“الذكريات ليست في شيء مادي نحتفظ به، بل شيء يكوننا.”
ارتفع قوس قزح في السماء الواسعة، وما زالت الشمس ترسل أشعتها الواهنة عبر الغيوم. في ظل ذلك الصمت الجميل، نظرت نظرة طويلة إلى السوار الأزرق في يدي و كنت أقول لنفسي: …
“إن ذلك الأمان لوجود شيء مادي تتمثل فيه الذكريات، هو لظننا أن بإمكاننا الاحتفاظ بهذا الشيء دون تغيير… أما نفوسنا وعقولنا، فلا نملكها، ولا نملك الاحتفاظ بها دون تغيير…”