جمال أمّاش*
1 -حانة الجَبل:
أمامَ حانةِ الجبلِ، أرضٌ مسروقةٌ، نوافذُ مُكسَّرةٌ، وهواءٌ يبحثُ عن ذرّاتِ الملحِ في سَبخاتٍ على الطريق..
رجلٌ يخرج اللحظةَ مخموراً، تركَ رصيدَه على طاولة، ترك كتابَ المقامات، وترَكَ امرأةً فقدتْ لُعبتَها بين ثنايا الدَّرجِ، وبين قناةٍ لا تفضي إلى غُرفةٍ، تُحاكُ فيها مؤامرةٌ. وحدهُ مُربِيُّ الأبقارِ يحبكُ خيوطَها في صمتٍ..
الأرضُ كلُّ واحدٍ يعرفُ مهدَها
الأرضُ تحملُ سِرَّها في أجِنَّة الليل،
والفجرُ بِلِحيتِه الكثيفةِ، يخرجُ مُتسللاً، وفي عُنقِه أجراسٌ تهدي الأبقارَ إلى مرعى الحَواسِّ؛ حيثُ الرائحةُ عينٌ نحو سمادِ الجذور، والأذُنُ التي خضعتْ لعملية تنظيفٍ، بواسطة مِبضعٍ ذكيٍّ، دليلٌ إلى ليلةٍ لا تسمعُ النجومُ قمراً أشعثَ سَرقتهُ الموسيقى،
إلى صمتٍ أكثرَ عُمقاً
مِنْ موجاتٍ
ضاعتْ في غرفةٍ، تنامُ بِتخديرٍ كاملٍ..
**
2 -بقعةٌ حمراءُ مليئةٌ بالنُّدوبِ:
بقعةٌ حمراء ينهبها الكلابُ، وكأنَّها قطعةُ لحمٍ مستورَدَةٍ، منْ مُدنٍ لا تَنالها الشمسُ. لا أسمعُ كثيراً نُباحها، ولكنِّي أُحِسُّهُ في مفاصلي، في أعصابي، التي نشأتْ على ثديٍ يخافُ منَ الضوءُ، ويهجرُ العتمةَ إلى خندقٍ آخرَ.
هناكَ تركتُ صرخةً تسقي أراضٍ بلا مساءٍ، وانصرفتُ كأنِّي أُشيِّعُ ظِلاًّ إلى مقبرةٍ جماعيةٍ. لا أرثي أحداً، ولكنِّي أبحثُ في الأنقاضِ عنْ ديوانٍ للمُتنبّي، يكشِفُ فيهِ أسرارَ الموسيقى، في حروفٍ، في كلماتٍ، في بقعةٍ حمراءَ، كانتْ تجمعُنا مليئةً بالنُّدوبِ.
**
3 -ما الذي يفعلُهُ الغائبُ هناكَ؟:
الغرفةُ البيضاءُ هاجرتْ غطاءَها، وخرجتْ عاريةً.
الهواءُ باردٌ جدّاً، والطيورُ الثمانيةُ التي كانتْ تنامُ في قفصٍ واحدٍ،
تفرقتْ بها الرياحُ، بأجنحةٍ لا ريشَ فيها أوْ رسالةً.
أمّا الدمُ فمازالَ يحضُنُ ما تبقّى من شرايينَ تتوارى كَظلالِ أشباحٍ ليلاً.
الغُرفةُ مازالتْ مُغلقةً. والغائبٌ مازالَ يحضُرُ ظِلُّهُ،
كنهرٍ حفَرَ مجراهُ وغابَ في إطارٍ على الحائطِ.
هلْ نسيَ قطارَ الفحمِ في أمعائِها جائعاً،
أمْ أنَّ الحَبلَ السريَّ، الذي كان ينشرُ عليه غسيلَه كل صباحٍ، فقدَ الوِجهةَ؟
الدرَجُ نزلَ منه برصيدٍ فارغٍ، وسيرةِ غيابٍ مُتواليةٍ عن أخبارٍ كاذبةٍ،
أمّا قنديلُه فمازالَ يشيرُ إلى سفينةٍ مجهولةٍ فقدتْ بابَ الميناءِ.
فجْأةً يعودُ الغائِبُ إلى الطاولةِ
كطائرٍ ترَكَ عُشَّهُ قسراً
تَفرقتْ به الأجنحةُ في بِحارٍ ينقصُها
المِلحُ!
**
4 -خرابٌ في الدرجِ:
في الحُلمِ الذي أسْكنُه، بدون عنوانٍ أوْ رُخصةِ إقامةٍ؛
في اليقظةِ التي تأتي أحياناً كملاكٍ، يذكرني بأشباحِ الخريف؛
في المُخيلةِ صديقتي معاً، تحتَ درجٍ ينامُ فيهِ قطّ الغابةِ، يعاني من مَرَضٍ مُزمِنٍ،
ويحبُّ ركوبَ السياراتِ الفاخِرةِ،
ننتقلُ بين ولايةٍ وأخرى، كما في مَخفرٍ بِدونِ أبوابٍ..
هناكَ، كأنَّنا نعيشُ في خرابٍ خفيٍّ؛
هناكَ فتحتُ صفحةً بيضاءَ، وبقيتُ أنتظِرُ نِصفَ نائمٍ،
كمخمورٍ يقرأُ ما يشبهُ المقامةَ،
ويطردُ منْ حلمهِ أوراقاً، وكلماتٍ لا شكلَ لها، وحروفَ علةٍ، تتلعثمُ
في حنجرةِ الليلِ..
هُناكَ، يلاحقني الحُلمُ، ولا أكثرتُ لِخدشٍ في وَترِ الكَمانِ.
**
5 -تُخومٌ لا تصلُها المُوسيقى:
كنَّا نَظنُّها سفينةً مُحمَّلةً بجنودٍ شبابٍ، وجندياتٍ حورياتٍ من عرائسِ البحرِ؛
الأحجارُ التي وطِأتْها أقدامُنا، أسماكٌ لا تتحرَّكُ إلاّ بأوامرِ وحيدِ القرنِ، رُبّانُ تقودُهُ عاطفتهُ نَحو تخومٍ لا تصِلُها المُوسيقى، يفهمُ في توليدِ الكلابِ، ويسقُطُ في التقاطِ صورةٍ على قِمَّة، لمْ تصلْ فيها امرأةٌ ذروَتَها.
في الصبّاحِ الذي تحرَّكتْ فيهِ سفينتُنا، نحوَ بحيرةٍ زَرقاءَ،
كانتِ الأحْجارُ فُرَصاً لا تتكرَّرُ؛
وكلَّما تقدَّمنا تهرَبُ مِنّا، كجِنِيَاتٍ في جبلِ تعرفهُ النِّساءُ فقطْ.
كلُّ نظرَةٍ دمعةٌ، وكلُّ دمعةٍ فرصةٌ ضائِعةٌ بَيننا؛
السَّفينةُ تتحرَّكُ إلى الخلفِ، والغَيْمَةُ التي تظهرُ بينَ مُنعَطَفٍ وآخَرَ،
هواءٌ لرِئةِ الصَّمتِ فِينا؛
-أنا سليلُ الحَجَرِ في خَيمتِنا،
وهيَ وتِدٌ في العَراءِ-..
لِأرواحٍ تبحثُ عنْ بصْمتِها في شجرةٍ، تسقُطُ أوراقُها؛
خرجنا قليلاً، الأمواجُ في جَزْرٍ، والمساءُ
لا موجَ فيهِ، يهدي الغرباءَ إلى خليجٍ،
في صدرٍ يتقلَّصُ نبضُهُ؛
القمرُ، أيضاِ تتقلَّصُ دائرتُهُ،
وشُعاعُهُ يخمُدُ كجَمرةٍ لا يُحرّكُها هواءٌ..
……………..
*شاعر من المغرب