“سايكوسينما”.. أن تحيا كفنان أن تموت كمضطرب نفسياً

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أكرم محمد

يمثل كتاب “سايكوسينما” لإسماعيل إبراهيم، والصادر حديثاً عن دار “المحرر” موسوعة سينمائية مبسطة، برؤية خاصة تنطلق من الأمراض النفسية في السينما ومدى تماسها مع الواقع العلمي لتلك الاضطرابات النفسية، وتتناول المرض النفسي.

لكن الكتاب مع الطرح النفسي، يمارس ثنائية العام/الخاص في تقديمه، عكس الطرح السينمائي الخاص، فيؤرخ لتاريخ الطب النفسي، ويتناول أهم محطات الطب النفسي حديثا ككتاب Dsm الذي يطلق عليه “الإنجيل” في الطلب النفسي، والصادر عن “الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين”، وصدرت منه عدة نسخ آخرهم نسخة منقحة في ٢٠٢٢، كما يتناول الكتاب في تقديمه للطب النفسي أمراضا مثل الذهاب والعصاب، التي تحولت لمفردات طبية معطلة بعد أن تطور الطب النفسي، وكيف يصنف الطب النفسي الحديث الاضطرابات النفسية، عبر طرق مؤثرة للعلاج في تاريخ الطب النفسي مثل اختبار رورشاخ، ويطرح، أخيرا، تعريفًا للمحطة الأخيرة من التأريخ لتقديم الطب النفسي ومحطاته العلاجية بكشف طرق العلاج المستخدمة حالياً، مثل العلاج النفسي، الذي ينظم الكيمياء النفسية للدماغ.

ويستكمل الكاتب حديثه عن الطب النفسي بطرحه تأريخا له بين ثنائية الإبداعي/ التقريري، من تلك المنطقة المعنية بالبحث الموسوعي، يضفر البنية القصصية المكثفة مع التأريخ العلمي للأمراض النفسية، بدايةً من إنسان ما قبل التاريخ، الذي اكتشف العلماء الكثير من الجماجم له بها ثقوب كمحاولة؛ لطرد الأرواح الشريرة المسببة للأمراض النفسية، ويطرح، بموسوعية تأريخية، تاريخ الطب النفسي في الحضارات القديمة بين الدين والعلم والموروث الشعبي، والتغييرات المختلفة له، فيتناول بلاد ما بين النهرين، التي رأت في الأمراض النفسية عقابًا إلهيًا، ومصر القديمة، التي تناولت “بردية إيبرس” تعرف المصريين القدماء على أمراض مثل الخرف والاكتئاب الحاد، وتعاملهم العلمي معها، كذلك حضارات شرقية كالصين والهند وديانتها الهندوسية، التي فسرت المرض النفسي كخطايا سابقة.

تلك الدراسة التأريخية، التي تلي التقديم العلمي المختصر والمبسط للطب النفسي، تجتر بنيتها الموضوعية من التأريخ لثنائية الشرق/الغرب، فمع عصور ما قبل الميلاد تؤرخ أيضًا للحضارات اليونانية والرومانية منطلقةً من تعاملهم مع المرض النفسي، ومع تأريخها للعصور الوسطى، أيضًا، تطرح ثنائية تأريخية بين أوروبا، الغرب، والحضارة الإسلامية، الشرق، وكيف تعاملت أوروبا تعاملا أصوليا مع المرضى النفسيين، فعذبوهم وقتلوهم، وأغلبهم من النساء، اللائي قتلن لأتفه الأسباب، بسبب تمردهن على الأعراف الأصولية المجتمعية السائدة، وألقي بهن في سفن للمرضى النفسيين لا رحلة لها سوى الموت.

يقدم الكاتب والطبيب النفسي اسماعيل إبراهيم في دراسته التأريخية، المصاغة بين ثنائية التقريري/الابداعي، من عصور ما قبل التاريخ حتى الطب النفسي الحديث وأهم محطاته بين ثنائية الشرق/الغرب، وبين الأطباء والمرضى والجهل والفقر والصدف والسلطة، التي تخرج من تلك الأطروحة ما يوازي فعل الفن ذاته، فيعيد ذلك التأريخ العلمي تقديم مفاهيم عديدة من خلال اجترار التاريخ العلمي للطب النفسي، أساسًا لمادة الكتاب الأهم، افصل “سكوت.. حنصور”، الذي يتناول من النقد الطب النفسي مركزًا، يدور حوله الفن، يخضع له أحيانًا، وبما يليق بالفن، يتمرد عليه أحيانًا، وهو ما يمارسه الكاتب ذاته، كأنه يحقق الفن بتحقيقه لفعله المتمرد، يتناول الأفلام من زاوية موحدة هي زاوية الطب النفسي، ذلك التحقق الذي يمارسه الكاتب من عتبة الفصل الموازي لكتابه الموسوعي، الذي يعد مركزًا للأطروحة ذاتها وما قبلها من أطروحة تأريخية هو تأسيس لتلك الأطروحة التجريبية ما بين النقد الفني والبحث العلمي، فالفصل المعنون ب”سكوت.. حنصور” يجتر رمزه من فيلم المخرج المصري الراحل، الذي يقدم به إعادة تعريف الفن، كمفهوم انساني عام، ويعيد تعريفه الراحل يوسف شاهين مستغنيًا عن تجريبه المعتاد، كذلك يفعل إسماعيل ابراهيم، يعيد تعريف الفن من منطقة خاصة ومحددة، الطب النفسي، لكنه يقدمه بتبسيط سواء نقديًا وفنياً أو علمياً، ما يعطي ذلك النقد طابع انطباعي، فيما عدا تحليل شخوص الأفلام المضطربين نفسيا.

تظهر السينما للنور بتوقيت خروج الطب النفسي لمنطقة علمية بعيدًا عن الجهل، يذكر الكاتب ذلك بفصل “من العيادة النفسية إلى الشاشة الفضية”، الذي يؤكد، تأريخيًا، العلاقة الوثيقة بين السينما والأمراض النفسية، قبل أن يؤكدها نقديًا، على مستوى آخر للطرح، بفصل “سكوت.. حنصور”، ذلك الذي ينفي به الكاتب مركزية الفيلم السينمائي والمستوى النقدي لتقديم الأطروحة الموسوعية للطب النفسي وعلاقته بالسينما، والتي تعدها عتبة الفصل، عنوان “سكوت.. حنصور”، تلك المركزية، ويعطي الكب النفسي تلك المركزية، منطلقًا من ثنائية الإبداعي/التقريري، يقدم الكاتب بنية وهيكلا ثابتين لفصول الأطروحة الموازية للكتاب، والتي تعد مركز الكتاب ذاته، فصل “سكوت.. حنصور”، فيقدم ملخصا سرديا للبنية الدرامية للفيلم، يجار منه الاضطراب النفسي الذي يعانيه شخوص الفيلم، ثم يبدأ بتقديم نص تأريخي موازي للمرض، ثم يعرض الأعراض والجوانب العلمية للمرض، ويعود لتطبيق المرض النفسي على شخوص الفيلم، كنقد موازي خاص، ويوضح إن كان الفيلم قد قدمه بشكل صحيح أم تمرد على الواقع العلمي، يبدأ الفصل بفيلم A beautiful mind/ذو عقل جميل الصادر عام ٢٠٠١، والذي يعاني بطله من مرض الشيزوفيرينا، ثم يستكمل الكاتب طرحه لعدد من الأفلام العالمية تتناول أمراضا نفسية عديدة، مستخدمًا عنصري التقريري/ الابداعي، الذي ينحاز كل منهما لواقع، فالإبداعي يقدم ملخصا سرديا للبنية الدرامية، والتقريري يقدم الوقائع العلمية للاضطراب النفسي.

مقالات من نفس القسم