السكير

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فرانك أوكونور

ترجمة: ممدوح رزق

 مثّل موت السيد دولي صدمة قاسية لأبي. كان مسافرًا تجاريًا وله ابنان في الدومينيكان، ويمتلك سيارة؛ لذا كان يتفوق علينا اجتماعيًا بكثير، ومع ذلك لم يكن موصومًا بالكبرياء الزائف. عُرف السيد دولي كرجل مثقف، ومثل جميع المثقفين، أحب الكلام أكثر من أي شيء آخر. بصورة محدودة كان أبي مثقفًا أيضًا؛ يقرأ جيدًا، ويمكنه تقدير المتحدث الذكي. تميّز السيد دولي بذكاء ملحوظ، ومع علاقاته المهنية واتصالاته الكنسية؛ بدا كما لو أنه لا شيء يخفى عليه. تعوّد كل مساء أن يعبر الشارع إلى بوابة بيتنا كي يسرد لأبي خبرًا تلو الآخر، بصوت منخفض ونبرة عميقة وابتسامة واثقة. كان أبي ينصت إليه مندهشًا، ويُظهر من حين لآخر دليلًا على استيعابه لموضوع المحادثة ثم يدخل إلى أمي وزهو الانتصار يتوهج على ملامحه قائلًا: “هل تعرفين ما الذي أخبرني به السيد دولي؟”.

منذ ذلك الحين، وكلما أبلغني شخص ما بمعلومة غير متداولة؛ كنت أجد نفسي على وشك سؤاله “هل أخبرك بذلك السيد دولي؟”.  

حتى اللحظة التي رأيته خلالها ممددًا بالفعل في كفنه البني مع حبات المسبحة متشابكة بين أصابعه الشمعية؛ لم أعتبر خبر موته جادًا. حتى في ذلك الحين شعرت أنه حتمًا ثمة شيء غير عادي، وأنه في إحدى الأمسيات الصيفية سوف يظهر السيد دولي مرة أخرى عند بوابة بيتنا ليخبرنا عن العالم الآخر.

كان أبي متأثرًا للغاية لأن السيد دولي يماثله في العمر، وهو ما يعطي دائمًا طابعًا شخصيًا لموت رجل آخر، وأيضًا لأنه لم يعد لديه الآن من يخبره عن الأعمال القذرة التي تدور في الخفاء. كان يمكنك أن تعد على أصابعك عدد الرجال في شارع بلارني الذين يقرؤون الصحف كما اعتاد السيد دولي أن يفعل، ولم يكن أي من هؤلاء ليغفل عن حقيقة أن أبي مجرد عامل. حتى النجار سوليفان، وهو شخص عادي، كان يعتبر نفسه أفضل من أبي. وفاة السيد دولي كانت بالتأكيد خسارة فادحة.

“الساعة الثانية والنصف في كوراغ” قال أبي في شرود وهو يزيح الصحيفة.

“لكن، هل تفكر في الذهاب إلى الجنازة؟” سألت أمي بقلق.

“هذا بديهي” قال أبي مشتمًا المعارضة. “لن أترك لأحد فرصة الانتقاد”.

“أعتقد أن ذهابك للكنيسة أكثر مما يتوقع أي شخص” قالت أمي بتوجس مكبوت.

كان الذهاب إلى الجنازة يعني شيئًا واحدًا بالنسبة لأمي: خسارة أجر نصف يوم.

“الناس بالكاد يعرفوننا” أضافت.

“الله يحول بيننا وبين كل ضرر” أجاب أبي بسمو. “سنكون سعداء حين نؤدي دورنا”.

للحق؛ كان أبي مستعدًا للتنازل عن أجر نصف يوم من أجل جاره القديم. لم يكن الأمر متعلقًا بحبه للجنازات بقدر ما يرجع لضميره الذي يقود أفعاله، وما كان هناك أكثر عزاءً لموته المحتمل مثل الاطمئنان إلى جنازة تليق به. للحق أيضًا؛ لم يكن ما يؤرق أمي هو أجر نصف اليوم بحد ذاته، بالرغم من وضعنا المالي السيء، وإنما كانت المسألة ترتبط بنقطة ضعف أبي الكبرى وهي الشُرب.

كان باستطاعته أن يبقى صامدًا لشهور عدة، بل حتى لسنوات متتالية، وأثناء ذلك يتحوّل إلى جوهرة بشرية؛ يستيقظ صباحًا قبل الجميع، ويجلب لأمي فنجان الشاي في السرير، ويبقى بالمنزل مساءً ليقرأ الصحيفة. كان يدخر المال ويشتري لنفسه بدلة جديدة من القماش الأزرق وقبعة بولر، ساخرًا من حماقة الرجال الذين يهدرون أموالهم التي كسبوها بعناء أسبوعًا تلو الآخر عند أصحاب الحانات. أحيانًا، ولكي يمرر ساعة من وقت فراغه؛ كان يُحضر ورقة وقلمًا ويحسب بدقة ما وفره كل أسبوع أثناء امتناعه عن شرب الكحول. بإغواء من طبيعته المتفائلة؛ كان يستمر أحيانًا في إجراء هذه الحسابات قياسًا بفترة وجوده المتوقعة بالمنزل ليحصل في النهاية على نتيجة مذهلة. كانت لحظة موته ستأتي وفي رصيده مئات الألوف من الجنيهات.

لم أكن أعلم أن ذلك نذير شؤم؛ فقد أكسبه الامتناع عن الكحول وادخار المال تشبعًا بالكبرياء الروحي فبدأ يتخيل نفسه أفضل من جيرانه، وسريعًا تضاعفت حدة هذا الكبرياء مما استدعى شكلًا من الاحتفال. تناول كأسًا من البيرة ـ مشروب غير ضار بعكس الويسكي ـ وتلك كانت هي النهاية. شعر بأنه أحمق؛ فتناول الكأس الثاني لينسى ذلك، ثم تناول الثالث لينسى أنه لا يمكنه النسيان، وفي آخر الليل عاد إلى المنزل ثملًا.

من هذه اللحظة فصاعدًا كان “انهيار السكير” كما يٌكتب في المطبوعات الأخلاقية. في اليوم التالي مكث بالمنزل بسبب صداع شديد بينما ذهبت أمي لتقدم اعتذاره في العمل. خلال أسبوعين ظل فقيرًا ومكتئبًا ومتوحشًا مرة أخرى. بمجرد أن يبدأ الشُرب لا يكون بوسعه التوقف، وكانت أمي وأنا نعرف جميع المراحل اللاحقة، ونخشى مخاطرها كافة. الجنازات كانت واحدة من تلك المخاطر. 

“عليّ الذهاب إلى دنفي للعمل نصف يوم” قالت أمي بقلق. “من سيرعى لاري؟”

“سأعتني بلاري”، قال أبي بلطف. “قليل من المشي سيفيده”.

لم يكن هناك المزيد ليقال. على الرغم من معرفة الجميع بأني لست في حاجة لعناية أي شخص، وأن بمقدوري البقاء في المنزل ورعاية سوني، لكنني كنت متورطًا في الحرب كلجام لأبي. ككابح لم يحرز نجاحًا في مهمته على الإطلاق. لكن، مع ذلك، كانت أمي تؤمن بي كثيرًا.

في اليوم التالي، وعندما عدت من المدرسة، وجدت أبي وقد أعد لنا كوبين من الشاي. كان بارعًا في تحضير الشاي، ولكنه ثقيل اليد في أي أمر آخر، مثل طريقته الصادمة في تقطيع الخبز. بعد ذلك توجهنا إلى الكنيسة، وكان أبي يرتدي أفضل بدلة زرقاء لديه، وقبعة دائرية مائلة إلى جانب رأسه مع أقل قدر من الخيلاء. لفرحته الكبيرة اكتشف وجود بيتر كراولي بين المعزين. كان بيتر إشارة خطر أخرى كما علمتني جيدًا بعض تجارب ما بعد قداس الأحد الصباحي. رجل لئيم، مثلما تقول أمي، يذهب إلى الجنائز فقط من أجل الحصول على المشروبات المجانية. تبين أنه لم يكن يعرف السيد دولي أصلًا! وكان أبي ينظر إليه بنوع من الازدراء باعتباره أحد السذّج الذين يبددون أموالهم الثمينة في الحانات بدلًا من توفيرها. لم يهدر بيتر كراولي الكثير من أمواله!

كانت الجنازة ممتازة من وجهة نظر أبي. درس كل شيء جيدًا قبل أن ننطلق خلف النعش في شمس الظهيرة. “خمس عربات!” صاح. “خمس عربات وست عشرة عربة مغطاة! هناك عضو مجلس محلي، واثنان من المستشارين، وبالطبع الكثير من الكهنة. لم أر جنازة كهذه منذ أن توفى ويلي ماك الحانوتي”.

“آه، لقد كان محبوبًا جدًا” قال كراولي بصوته الشاحب.

“يا إلهي، ألا أعرف ذلك!” قال أبي. “ألم يكن أفضل أصدقائي! قبل ليلتين من وفاته ـ فقط ليلتين ـ كان هنا يخبرني بما يحدث بشأن عقد الإسكان. هؤلاء الرجال في البلدية لصوص ليلًا ونهارًا. لكن حتى أنا لم أتخيل أبدًا أنه كان معروفًا بهذا الشكل”.

كان أبي يخطو كصبي صغير، مبهورًا بكل شيء: المشيّعون والبيوت الجميلة على الطريق. كنت منتبهًا إلى إشارات الخطر الحاضرة جميعها بما يشبه التواطؤ: يوم مشمس، جنازة رائعة، ورفقة متميزة من رجال الدين والمسؤولين تستفز كل الغرور الطائش المعتاد في شخصية أبي. كان يبدو أن شيئًا من فرح حقيقي ينتابه حين رأى صديقه القديم ينزل إلى القبر مع إدراكه أنه قد أدى واجبه حقًا، وأنه مهما افتقد السيد دولي في أمسيات الصيف الطويلة فذلك أفضل من أن يكون السيد دولي المسكين هو الذي يفتقده.

“سنبدأ في الرحيل قبل أن يتفرقوا” همس أبي إلى كراولي بينما كان حفار القبور يلقي بالدفعات الأولى من الطين ثم انطلق بعيدًا يقفز مثل الماعز من نتوء عشبي إلى آخر. كان السائقون ـ الذين تتملكهم على الأرجح الحالة ذاتها رغم أنهم لم يمضوا شهورًا مثل أبي في الامتناع عن الشُرب ـ ينظرون إلى أعلى بشوق كبير.

“هل انتهوا تقريبًا، ميك؟” صاح أحدهم.

“انتهى كل شيء الآن، عدا الصلاة الأخيرة” أعلن أبي بنبرة من يجلب بشرى عظيمة.

مرت العربات بنا في سحابة من الغبار على بُعد مئات اليارادات من الحانة، وأبي، الذي كانت قدماه تسببان له المتاعب في الطقس الحار، راح يخطو سريعًا ويتلفت بشكل متوتر بحثًا عن أي علامة تشير إلى قدوم الجموع الرئيسية من المعزين عبر التل. في حشد مثل هذا، قد يُترك الرجل في انتظار بلا آخِر.

حين وصلنا إلى الحانة كانت العربات متوقفة في الخارج، ورجال تبدو عليهم الجدية يرتدون أربطة عنق سوداء يقدمون بحذر تعزياتهم إلى نساء مجهولات، تمتد فقط أيديهن بتواضع من وراء الستائر المسدلة داخل العربات. لم يكن في الحانة سوى السائقين وامرأتين ترتديان ملابس ضيقة وتغطيان رأسيهما بالشال. شعرت أنها اللحظة المناسبة إذا كان عليّ أن أكون كابحًا حاسمًا لأبي. بدأت أجذبه من ذيل معطفه…

“أبي، هل يمكننا العودة إلى المنزل الآن؟” سألت.

“دقيقتان فقط” قال مبتسمًا بمودة. “مجرد زجاجة عصير ليمون ونذهب إلى المنزل”.

كنت أعلم أنها رشوة، ولكنني في نفس الوقت كنت دائمًا طفلًا ضعيف الشخصية. طلب أبي عصير الليمون وكأسًا كبيرًا من البيرة. كنت عطشانًا فابتلعت شرابي دفعة واحدة. لكن ذلك لم يكن أسلوب أبي. كانت خلفه شهور طويلة من الامتناع، وأمامه أبدية من المتعة. أخرج غليونه، نفخ فيه، ملأه ثم أشعله بفرقعة عالية وعيناه تبرزان فوقه. بعد ذلك استدار عمدًا عن البيرة، ثم استند بمرفقيه على الطاولة في وضعية رجل لا يعرف أن ثمة بيرة خلفه، وبدأ ينظف يديه من التبغ.  لقد أصبح يومه جاهزًا كما يليق بخبرة جميع الجنازات المهمة التي حضرها من قبل بانتظام. غادرت العربات وتدفق المعزون حتى امتلأت الحانة إلى نصفها.

“أبي” قلت وأنا أجذب معطفه مرة أخرى. “هل يمكننا الذهاب إلى المنزل الآن؟”

“آه، أمك لن تعود قبل وقت طويل” قال بما يكفي من الود. “ألا تريد الخروج للعب في الشارع؟”.

بدا رائعًا جدًا أن يفترض الكبار إمكانية اللعب بمفردك في طريق غريب. بدأت أشعر بالملل مثلما شعرت به كثيرًا من قبل. كنت أعلم أن أبي يستطيع البقاء هناك حتى حلول الظلام، وأنني قد أضطر لإعادته إلى المنزل وهو في حالة سُكر أعمى أمام أعين جميع النساء المسنات في شارع بلارني، الجالسات عند أبواب منازلهن، واللاتي سيباركن خطواتنا بالجملة نفسها “ميك ديلاني في حالته مرة أخرى”.

كنت أعلم أن أمي ستكون نصف مجنونة من القلق، وأنه في اليوم التالي لن يذهب أبي إلى العمل، وقبل نهاية الأسبوع سوف تهرول إلى محل الرهن مع الساعة تحت شالها. لم أستطع أبدًا التغلب على الشعور بالوحدة داخل المطبخ وهو خال من الساعة.   

ظل العطش يلازمني بدرجة ما، ووجدت أنه إذا وقفت على أطراف أصابعي سوف أتمكن من الوصول إلى كأس أبي. راودتني فكرة أنه سيكون مثيرًا معرفة محتويات هذا الكأس. كان قد أدار ظهره بما يمنعه من ملاحظة الأمر. أخذت الكأس وتناولت رشفة بحذر. شعرت بخيبة أمل رهيبة مقترنة بالدهشة من أنه يمكن لأحد شُرب مثل هذا الشيء. بدا كما لو أن أبي لم يجرّب عصير الليمون مطلقًا، وكان ينبغي عليّ أن أنصحه بهذا الشأن، لكنني سمعته يتحدث بأسلوب رائع. كان يقول إن الفرق الموسيقية تمثل إضافة مميزة للجنازات. رفع ذراعيه على هيئة شخص يحمل بندقية بالمقلوب وتمتم ببعض نغمات المارش الجنائزي لشوبان”1″. أومأ كراولي برأسه تقديرًا. أخذت رشفة أكبر وبدأت أعتقد أن بيرة “بورتر””2” قد تكون لها مزاياها. شعرت بنشوة لطيفة كما لو أنها إشراق للحكمة. أخذ أبي يهمهم ببعض نغمات “المسيرة الميتة” من “شاول” “3”.

كانت حانة جميلة وجنازة رائعة، وكنت متأكدًا أن السيد دولي المسكين يجب أن يكون راضيًا للغاية في الجنة الآن. اعتقدت أيضًا أنه كان يجب عليهم إحضار فرقة موسيقية لجنازته. كما قال أبي: الفرق الموسيقية إضافة مميزة.

لكن الرائع في الـ “بورتر” هي الطريقة التي تجعلك تقف على جانبك، أو بالأحرى تطفو في الهواء مثل ملاك يتدحرج فوق سحابة، وتشاهد نفسك وأنت تعقد ساقيك، متكئًا على بار، دون القلق بشأن التوافه، بل بتفكير عميق في أمور جادة وناضجة حول الحياة والموت. عند النظر إلى نفسك بهذا الشكل لن يكون بوسعك بعد فترة سوى التفكير إلى أي مدى تبدو مضحكًا. فجأة شعرت بالخجل ورغبت في الضحك، لكن بمرور الوقت الذي انتهيت فيه من الشراب تجاوزت تلك المرحلة، ووجدت صعوبة في إعادة الكأس إلى مكانه. بدا أن الطاولة قد ارتفعت كثيرًا، وعاودت الكآبة هجومها.

“حسنًا” قال أبي بوقار وهو يلتفت ليأخذ مشروبه “لتسترح روح الرجل المسكين، أينما كانت!” ثم توقف محدقًا إلى الكأس ثم إلى الناس من حوله.

“مرحبًا” قالها بنبرة مرحة إلى حد ما، كما لو أنه جاهز لتقبّل مزحة حتى لو كانت سيئة. “من كان هنا؟”.

مرت لحظة صمت بعدها نظر الحانوتي والنساء المسنات إلى أبي أولًا ثم إلى كأسه.

“لم يكن هناك أحد يا سيدي الفاضل”. قالت إحدى النساء بنبرة مستنكرة. “هل تظن أننا لصوص؟”.

“آه، لا يوجد هنا من سيفعل شيئًا كهذا. ميك” قال الحانوتي مصدومًا.

“حسنًا، شخص ما فعلها” قال أبي وابتسامته تتلاشى.

“إذا حدث ذلك فهو من كان الأقرب” قالت المرأة بحنق وهي ترمقني بنظرة احتقار. في نفس اللحظة بدأت الحقيقة تنكشف لأبي. أفترض أنني بدوت كمن يحلم بصورة ما، انحنى وهزني …

“هل أنت بخير، لاري؟” سألني بقلق.

نظر بيتر كراولي إليّ وابتسم.

“هل يمكنك التغلب على ذلك؟” صاح بصوت خشن.

بدأت أشعر بالتعب. قفز أبي إلى الوراء برعب مقدس من أن أُفسد بدلته الجميلة ثم وجدته يفتح سريعًا الباب الخلفي للحانة …

“اهرب! اهرب! اهرب!” صرخ.

رأيت الجدار المضاء بأشعة الشمس في الخارج والمغطى بفروع اللبلاب المتدلية فركضت. كانت عزيمتي جيدة لكن أدائي كان مبالغًا فيه لأنني اصطدمت بالجدار وألحقت به ضررًا كبيرًا كما بدا لي، وبما أنني كنت مهذبًا للغاية؛ قلت “عذرًا” قبل أن تداهمني النوبة الثانية. جاء أبي ـ وهو لا يزال قلقًا بشأن بدلته ـ من خلفي بحذر ثم أمسك بي وشعرت بالأعراض تتفاقم.

“هذا ولد جيد!” قال مشجعًا. “ستكون رائعًا حينما تتخلص من ذلك”.

لكنني لم أكن رائعًا! كانت الروعة هي آخر ما يمكن أن أكون عليه. أطلقت صرخة واحدة بلا رحمة بينما كان يعيدني إلى الحانة ويجلسني على مقعد قريب من النساء اللاتي يرتدين الشالات. أشحن بوجوههن على نحو مهين، كن ما زلن غاضبات من تصوّره بأنهن شربن كأسه.

“يا إلهنا!” تمتمت واحدة منهن وهي تتطلع إليّ بشفقة. “أليس لأمثالهم آباء؟”.

“ميك”. قال صاحب الحانة بقلق وهو ينثر نشارة الخشب على آثار قدميّ. “ليس من المفترض أن يكون هذا الطفل هنا على الإطلاق، من الأفضل أن تأخذه إلى المنزل سريعًا قبل أن يراه شرطي”.

“يا إلهي الرحيم!” تذمر أبي رافعًا عينيه إلى السماء ثم صفق بيديه في صمت كما اعتاد أن يفعل حين يكون مضطربًا. “ما هذه المصيبة التي حلت بي؟ وماذا ستقول أمه؟ .. لو كان يمكن للنساء البقاء في المنزل والاعتناء بأطفالهن!” أضاف تلك الكلمات بنبرة غاضبة نحو النساء ذوات الشالات.

“هل رحلت العربات كلها، بيل؟”.

“العربات رحلت منذ زمن، ميك” رد صاحب الحانة.

“سآخذه إلى المنزل”. قال أبي في يأس. “لن أخرجك مرة أخرى”، مستطردًا بتهديد. أضاف وهو يعطيني المنديل النظيف من جيب صدره “ضع هذا على عينك”.

كانت الدماء على المنديل هي أول إشارة حصلت عليها بأنني قد جرحت، وفورًأ راح صدغي ينبض، وبدأت أصرخ ثانية.

“اسكت! اسكت! اسكت!” قال أبي بحدة وهو يخرجني من الباب. “يمكن لأحد أن يظن أنك قُتلت. هذا لا شيء، سنغسله عندما نصل إلى المنزل”.

“اهدأ الآن، يا صديقي القديم!” قال كراولي وهو يتحرك إلى جانبي الآخر. “ستكون بخير خلال دقيقة”.

كان برفقتي رجلان خبيران في تأثير الشًرب. أصابني دفء الشمس ونسمة الهواء النقي الأولى بالدوار أكثر من أي وقت مضى. رحت أتمايل مع الرياح وبين والمد الجزر حتى بدأ أبي يتذمر مجددًا.

“يا إلهي، ألا يمكنك السير مستقيمًا؟”.

لم أستطع، ورأيت بوضوح أن كل امرأة صغيرة وكبيرة في شارع بلارني كانت تتطلع من بابها نصف المفتوح، أو جالسة على عتبته. توقفن عن الثرثرة ليحدقن جميعًا إلى هذا المشهد الغريب لرجلين رصينين في منتصف العمر، يسندان ولدًا صغيرًا مخمورًا لديه جرح فوق عينه. كان أبي ممزقًا بين الرغبة الخجولة في إعادتي إلى المنزل بأسرع ما يمكن، والحاجة لتفسير الموقف أمام الجيران بأن ذلك لم يكن خطأه. توقف أخيرًا أمام منزل السيدة روش.

كانت هناك مجموعة من العجائز خارج باب أحد المنازل على الجانب الآخر من الشارع. لم تعجبني ملامحهن من البداية. بدت عليهن علامات الاهتمام المفرط بي. اتكأت على جدار كوخ السيدة روش ويداي في جيبي بنطالي، أفكر بحزن في السيد دولي المسكين الراقد في قبره البارد، والذي لن يخطو في هذا الشارع مرة أخرى أبدًا، وبحماس كبير بدأت أغني إحدى أغنيات أبي المفضلة.
“على الرغم من ضياعه في مونونيا وبرودة قبره

إلا أنه لن يعود إلى كينكورا مرة أخرى”.”4″

“ياللطفل المسكين!” قالت السيدة روش. “ألا يمتلك صوتًا رائعًا، الله يباركه”!

هذا ما اعتقدته أيضًا عن نفسي، لذا كنت أكثر دهشة عندما قال أبي “اصمت!” وهو يرفع إصبعه مهددًا. بدا لي أنه لم يدرك مدى ملاءمة الأغنية لهذه اللحظة فبدأت أعيد غناءها بصوت أعلى.

“اصمت، أقول لك!” صاح بحدة ثم حاول أن يُظهر ابتسامة للسيدة روش. “نحن قريبون من المنزل الآن. سأحملك بقية الطريق”.

رغم ثمالتي؛ كنت أدرك بأني لا يجب أن أُحمل بهذه الكيفية المهينة.

“الآن” قلت بجدية، “ألا يمكنك أن تتركني في حالي؟ أستطيع المشي جيدًا. المشكلة فقط في رأسي. كل ما أريده هو الراحة”.

“يمكنك أن ترتاح في سريرك” قال أبي معنّفًا وهو يحاول رفعي، وعرفت من احمرار وجهه أن غضبه قد وصل إلى الذروة.

“آه، ياللمسيح” قلت بغضب “لماذا أعود إلى المنزل؟ لماذا لا يمكنك أن تدعني وشأني؟”.

لسبب ما، اعتقدت مجموعة العجائز على الجانب الآخر من الشارع أن ذلك كوميديًا جدًا. كادت ضحكاتهن تنفجر. شعرت باستياء شديد يتصاعد بداخلي وأنا أفكر في أنه ليس بوسع المرء أن يتناول قطرة شراب دون أن يتجمع الجيران في الخارج للسخرية منه.

“على من تضحكون؟” صرخت، مشهرًا قبضتي نحوهن. “سأجعلكن تضحكون من الجانب الآخر لوجوهكن إذا لم تتركوني أمر”.

بدا أنهن وجدن ذلك أكثر مرحًا، لم أر أبدًا في حياتي أناسًا يفتقرون إلى التهذيب مثل هؤلاء.

“ابتعدن أيتها العاهرات اللعينات!” قلت.

“اسكت، اسكت، أقول لك اسكت!” زأر أبي متخليًا عن أي تظاهر بالمرح. سحبني من يدي، والضحكات الصارخة للعجائز تثير جنوني فضلًا عن بلطجته غير المبررة ضدي. حاولت تثبيت كعبيّ في الأرض لكنه كان قويًا جدًا بالنسبة لي، ولم أستطع النظر إلى العجائز إلا من فوق كتفي نحو الوراء.

“احذروا وإلا سأعود وأريكم!” صرخت. “سأعلمكن كيف تتركون الناس المحترمين يمرون. من الأفضل أن تبقوا في منازلكن وتغسلن وجوهكن القذرة”.

“لن يحدث ذلك مرة أخرى، ولو عشت ألف عام، لن يحدث ذلك مرة أخرى”.

حتى يومنا هذا لم أعرف هل كان أبي يقصدني أنا بهذا التعهد أم الشُرب، بينما رحت أردد بقوة أغنية “أولاد ويكسفورد””5” احتفالًا بمزاجي البطولي وهو يسحبني إلى داخل المنزل.

أسرع كراولي بالهرب مع شعوره بالتورط بينما قام أبي بتبديل ملابسي وأدخلني إلى السرير. منعني الدوار من النوم، وشعرت بالتعب ثانية. جاء أبي بقطعة قماش مبللة وراح يدلك رأسي بها. كنت محمومًا وأنا أنصت إليه يقطع الأغصان لإشعال النار ثم سمعت صوت تحضير المائدة.

فجأة، انفتح الباب الأمامي بعنف ودخلت أمي تحمل سوني ولم تكن كعادتها لطيفة وخجولة وإنما امرأة غاضبة وثائرة بشدة. كان واضحًا أنها عرفت من الجيران كل شيء.

“ميك ديلاني” صاحت بشكل هستيري. “ماذا فعلت بابني؟”

“اسكتي، اسكتي، اسكتي!” همس وهو يتأرجح من قدم لأخرى. “هل تريدين أن يسمع الشارع كله؟”.

“آه” صاحت بضحكة مروّعة. “الشارع يعرف كل شيء. الشارع يعرف كيف ملأت طفلك البريء المسكين بالشراب لتسلي نفسك أنت وذلك الوحش القذر”.

“لكنني لم أعطه أي مشروب” صرخ مذهولًا من التفسير المرعب الذي اختاره الجيران لمأساته. “لقد تناوله من وراء ظهري. ماذا تظنين عني؟”.

“آه” أجابت بمرارة. “الجميع الآن يعرف من أنت. الله يسامحك. تضيّع النقود القليلة التي نكسبها بشق الأنفس على الشراب، وتربي طفلك ليصبح سكيرًا مثلك”.

ثم دخلت غرفة النوم وركعت على ركبتيها بجانب سريري. كان أنينها واضحًا عندما رأت الجرح فوق عيني. في المطبخ، بدأ سوني يبكي بصوت عال من تلقاء نفسه، وبعد لحظة ظهر أبي عند باب الحجرة وقبعته تغطي عينيه بينما الشفقة على الذات تعتصر ملامحه لأقصى درجة.

“إنها طريقة جيدة لتتحدثي معي بعد كل ما مررت به” قال متذمرًا. “هذا اتهام لطيف بأنني كنت أشرب الخمر. لم تلمس قطرة شراب واحدة شفتي طوال اليوم. كيف كان يمكنني ذلك وهو قد شرب كل شيء؟ أنا من يستحق الرثاء بعدما دُمر يومي، وعُرضت مهانتي أمام الجميع في الشارع”.

في صباح اليوم التالي وبعد أن خرج أبي بهدوء إلى العمل مع سلة غذائه؛ اندفعت أمي نحوي في السرير وقبلتني. بدا أن كل ما حدث كان بسببي، وأنني قد مٌنحت أجازة حتى تتحسن عيني.

“يارجلي الصغير الشجاع!” قالت بعينين لامعتين. “الله هو من أراد أن تكون هناك. كنت الملاك الحارس لأبيك”.

…………………….

1ـ من أشهر الألحان في عالم الموسيقى الكلاسيكية، وهي الحركة الثالثة لـ “سوناتا البيانو الثانية” والمعروفة أيضًا بـ “السوناتا الجنائزية” التي انتهى فريدريك شوبان من كتابتها عام 1839 وعُزفت في مراسم جنازته.

2ـ  يُطلق عليها “الذهب الأسود” وهي نوع من البيرة غالبًا ما تكون داكنة اللون، وتتميز برغوتها السميكة ونكهتها القوية المالحة، وتُصنع عادة من حبوب الشعير المحمصة. يرجع أصلها إلى بريطانيا في القرن الثامن عشر حيث كانت مشروبًا مفضلًا لعمال المرافئ، لذا سُميت “بيرة البورتر” أي “بيرة الحمّال”.

3ـ أوراتوريو “مقطوعة موسيقية تحتوي نصًا دراميًا دينيًا” من ثلاثة فصول كتبها جورج فريدريك هاندل عام 1738، والنص لتشارلز جينينز مأخوذ من سفر صموئيل الأول. عُزفت “المسيرة الميتة” في الفصل الثالث، وأصبحت عنصرًا أساسيًا للجنازات الرسمية.

4ـ أغنية Remember The Glories Of Brien The Brave للكاتب والشاعر الغنائي الإيرلندي توماس مور.

5ـ المعروفة أيضًا باسم “رحلة الإيرلز” وهي قصيدة تُخلّد ذكرى الثورة الأيرلندية عام 1798، وتحديدًا ثورة ويكسفورد. كان هدف الثورة التخلص من السيطرة الإنجليزية على الشؤون الأيرلندية، وأسفرت عن قانون الاتحاد عام 1801.

 

 

مقالات من نفس القسم