الرمية

art
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد السيد زكريا

بيديه الصغيرتين، وضعني في جيب جلبابه الأمامي، مسح العرق من على وجهه، وانحنى إلى الأرض في صمت، يجمع الحصى.

يعرفان طريقهما جيدًا، انتقى الناعم والصغير، المنثور على طرف الترعة بوفرة، وهذا ما يلائمني. شمس الضهرية حارقة، وانعكاس النخيل علينا، لم يخفف من حدتها. أنهى تجميعه سريعًا لنبدأ. دسَّ ما تحصَّل عليه، في جيبيه الجانبيين، التفت ورائه، يوقف أصحابه في أنسب مكان، يمكنهم المشاهدة منه عن كثب. قال: “ركّزوا معي، وشوفوا ما سأفعله”. دومًا كنتُ رفيقته الأقرب، لا يتخلى عني، حتى أثناء لعبه في البيت يفضلني. اشتهر بين أصحابه، وزملائه، بمهارته في الرمي بالنبال، ودقته في الصيد، لا يعلمون أن الفضل يعود لي، ليس وحده فقط. أراهن أنه لو استعان بغيري، لما حقق ما يحققه في المعتاد.

هذه المرة، اتفق مع الأولاد، الذين شككوا في مغامرات صيده، ولم يصدقوا حكاياته، أتى بهم هنا، لكي يروا بأنفسهم ما نفعله، وينال انبهارهم، بأعداد العصافير، التي يحكي عن اصطيادها. تشكيكهم بنا ضايقني، لذا، راق لي الاتفاق، وانتظرته. الآن، وقفنا في منتصف الطريق، بينما هم أخذوا بضع خطوات إلى الوراء، لتكون خلفهم الترعة. أخرجني من جيبه، ثم حصوة صغيرة، دائمًا يردد أن ضربتها أقوى من الكبيرة، وضعها داخلي، ونظر نحوهم، هامسًا: “لنبدأ”.

رمى رميته الأولى، وأخطأت الهدف. أخرج حصوة ثانية، دقق نظراته في السماء، أشعة الشمس الساقطة عليه، لا تجعله يرى جيدًا، وضع يده أعلى عينيه، لمح ثلاث عصافير يطيرون حول النخلة المقابلة له، جهَّز الحصوة، رفعني قبالة عينه، ورمى. لتفشل أيضًا رميته الثانية، لأول مرة. ضحك عليه أصحابه من الخلف، يسخرون منه، لكنه عمل أذن من طين، وأخرى من عجين، ولم يرد. فقط اشتعلت عصبيته بداخله، شعرت بها، لمّا ضغط عليّ في المسك، كأنه يفعصني.

بلا تضييع للوقت، حطَّ فيَّ حصوة ثالثة، وسحبني إلى نهاية امتدادي، يعيد الكرَّة، بنرفزةٍ فتكت بعصفور مسكين، خرج عليه نتيجة هذه السخرية، دون ذنب. حينها، ابتسم ابتسامة صغيرة، معناها أن يومه قد بدأ للتو.

استغل اللحظة، أخرج حصاه تباعًا، بسرعةٍ غير مبررة، يرمي هنا، ويقذف هناك، بقوةٍ زائدة، ودقة معهودة، لكن بطريقة أرهقتني معه، لم يشفع لها سوى أن جميع الرميات تلك، أوقعت فوق العشر عصافير، في وقتٍ قصير، جعل أصحابه من الخلف، يُبلّمون، غير مصدقين. أخذنا أنفاسنا. التفت إليهم مجددًا، بابتسامة من زاوية فمه، ونظرات زهو، بعدما دلّل كلامه بفعلٍ حقيقي، لا يحتاج إلى شرح، الأمر واضح على وجوههم، وهذا كان المطلوب.

أعادني إلى جيب جلبابه الأمامي ثانيةً، وتحرَّك ناحيتهم، يسأل: “ما رأيكم؟”، مع هزَّة كتف لأعلى مفهومة. ليتفاجأ مثلي بالضبط، حين يقترب، بهرج الأولاد، وهم يفرون في لمح البصر، يصيحون بكلام غير مفهوم، أفزع كلانا. لم نفهم، التفَّينا حولنا، رأينا سيل من العصافير، خرج بغتة من بين النخيل، ملأ السماء أعلانا، خفَّف علينا حرّ الضهرية، بعد معاناة. شعرتُ بدقات قلبه الخائف ورائي، وقدم زُرعت في الأرض، يُنبئان بمعاناة. اجتمع السيل على مهاجمتنا، حاوطونا، يدورون بعشوائية، ولم نتحرك. سرقتني منه إحدى العصافير، طارت إلى أعلى، بسرعة هائلة، بعيدًا عنه، لكي أراه بينهم، ضعيف الحيلة، بلا مقاومة، تغطي زقزقاتهم صراخه، ينقرون رأسه الصغير، يجعلونه يُدمي.

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

طلة أمي