فاطمة الشرنوبي
خرج ولم يعُد
“ابنٌ مكانه المسخ في زمنه المسخ” – دار خولة
تساقط جلد ابنها البكر وانمسخ، ليس إلى حشرة مثل سامسا، بل إلى كائن بهوية مشوّهة، أما خولة التي حاولت أن تعيد ابنها البكر إلى يرقته الأم، انقلبت محاولاتها ضد التيار الذي تقصد، فقد أضحت علاقتهما قائمة على “الرفض المتبادل والنفور المتبادل وتاريخ طويل من الخيبات المتبادلة.” وبذلك فقد تمزق الرابط بين الأم والابن منذ خمسة عشر عاما. حتى أن الابن – في محاولة يائسة لإيجاد حلقة مفقودة بينه وبين أمه – بحث مليّا في زوايا ذاكرته غير أنه لم يجد إلا النذر اليسير ليقتات منه ريثما يمر الوقت في دار أمه – دار خولة. وتكشّفت أمام صاحبة الدار حقيقة واحدة: ابنك يا خولة صار ممسوخا إلى نسخة أخرى من نفسه بعد أن قذفتِه وقذفه المجتمع، ولم يجد قطعة البازل المجاورة كي تكتمل لوحته.
أستاذة الفلكلور، التي ترغب في صقل ابنها ليكون قارئا نهما لفوكنر ووايتمان وإدغار ألان بو ومستمعا ذواقا لبوب ديلان، سلّمت ابنها لأمريكا حتى فقدته إلى الأبد، “آمنّا كلنا بالرجل الأبيض، آمنا بأمريكا وسلمناها أطفالنا: خذوهم واجعلوهم بيضاً بقدر الإمكان!” فالرجل الأبيض، الذي في الحقيقة قد سوّد عليهم عيشتهم، أحال ناصر إلى كائن مسخ غريب عن خولة التي باتت ترى فيه خيباتها وفشلها كأم.
ومن هنا، تربّت داخل خولة خصومة شخصية مع أمريكا تبدّت لنا من السطور الأولى، “التّصابي والتّأمرك أمران متلازمان.” الانمساخ في صورة التّصابي يتجلى في شخص ناصر الذي ربما كان فأر تجارب أمومة وليدة.
لم نحتج وقتا طويلا كي نفهم أن التصابي هنا إنما هو إشارة للابن الذي تجسّدت فيه عيوب الرجل الأبيض ومعايير الغرب المزدوجة والتحضّر الكاذب والانفتاح الزائف؛ وامتدت الخيبات وتجلّى الاحتدام بين جيل الآباء الهادئ وجيل الأبناء الصاخب، تفاقمت وكبُرت الهوّة حتى كان الهجران هو الفيصل، وانغلق بذلك البيت موحشا على خولة؛ أما وقد مات زوجها في زمن خارج حدود السردية، فإن سيرته مثل “أطلال” تحنو خولة على شواهدها.
خيوط متقاطعة بين الحارس والسندباد ودار خولة
“حارس سطح العالم”، “السندباد الأعمى”، “دار خولة”، ثمة خيط رفيع يربط بين الروايات الثلاث، تجري أحداث “السندباد الأعمى” في فترة الاحتلال العراقي للكويت، أما “دار خولة”، فلولا الاحتلال لما وُلدت، و”حارس سطح العالم” – أولها نشرا وكتابة – تطوّق كلتاهما داخل نظامها الديستوبي الخانق رغم أن النظام في أي منها لا يشبه الآخر.
بكلمات أخرى … الفصل الرابع من “دار خولة” قفز بي إلى “السندباد الأعمى” حيث قوات التحالف تجوب الشوارع بترحيب وضيافة كريمة من أهل الكويت بعد عناء شهور تحت الاحتلال الصدّامي، وفيها أيضا قد سلّمت الأم ابنها للرجل الأبيض، أقصد الرجل الأمريكي، “آمنا كلنا بالرجل الأبيض، آمنا بأمريكا وسلمناها أطفالنا: خذوهم واجعلوهم بيضا بقدر الإمكان!”؛ وذلك لأن “النظام ]كان[ مشغولا بجمع الغنائم: أطفالها الثلاث… غوير وزوير والي مافيه خير!” أما “حارس سطح العالم” فهناك النظام الديستوبي الخانق الذي لا يحق لأبوين تحت حكمه أن يربوا أبناءهم وفقا لما يرونه مناسبا، بل كل صغير وكبير يسري وفقا لعقيدة النظام ولا شيء آخر غيرها. وكنتجية غير متوقعة، فقد جاء أدق وصف لناصر – الشخصية في “دار خولة” – وفقا لما ترتئيه خولة هو ما ذُكر في “حارس سطح العالم”: “أنت فارغ وبلا معنى”.
المرأة المستوحشة
“حوضَ أسماك بلا أسماك” مثل بيت ينخر فيه السوس
البيت فارغ والأمومة فارغة وحوض الأسماك فارغ والكلام فارغ، ينبش جرح عميق في قلب خولة، مغذيا امتعاضها من جيل فارغ “يسمي النزق تفكيرا نقديا”.
إن كان في العنوان “خولة” (مضاف إليه) – بحكم قواعد النحو – فالدار هي (المضاف) وهي البطل وليست خولة صاحبة الدار، فالحقّ أن خولة نفسها تابعة لدارها، تدور في فلكها وليس العكس؛ البيت موحش جدا، صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا زرع، حتى الأسماك هلكت، وخرج الأبناء ولم يعودوا، وتُركت خولة وحيدة حتى استوحشتها الغربة والوحدة والشيخوخة التي ترى في جوهرها “إذلال وئيد”، كل شيء في البيت يوحي بالوحشة، البيت قديم و “الإضاءة الأرضية تبثّ نورا واهنا”، تركها الزمن تخرمش جراحا كثيرة في وجوهنا دون تضميد، حتى لطمتها الحقيقة التي تدور في ذهن أكثر أبنائها تجسيداً لخيبتها، حين صفعها بسؤاله مستنكراً “إنتي ليش مصدقة إنـﭻ أم؟”
أما عن حوض الأسماك الفارغ فذلك هو الموت وإن استمرت الحياة، وهذا هو الهجران بعينه.
“قرَّرت أن تُبقي على الحوض، وتملأه بالأحجارِ والنباتاتِ المائية والطحالب القزحية، وأن تكون قنوعة بما يمنحه إياها الحوضُ الفارغُ من إحساسٍ مهدِّئٍ وفقاقيع، رغم كل ما يوحي به من هجران.”
الإخوة الأعداء … “غوير وزوير والي مافيه خير”
“لقد رأت نفسها في المنام ليلة أمس تنزع عنها قرطيها.” – دار خولة
ولأن القرطين هنا – في ظنّي – هما الولدان ناصر ويوسف، فقد عنى المنام أنهما سيطفِئان ما تبقى لدى خولة من بصيص أمل في أن تجري المياه الراكدة في القنوات التي تربطهما بها؛ وقد كان، حتى وإن جاء الابن الثالث حاملا الأمل في يده: سمكة، غير أن “السمكة (وُجدت) طافية على بطنها، ميتة جدا.”
اقرأ أيضاً:
“دار خولة” لبثينة العيسى.. حوض أسماك تملؤه اليابسة