نورهان أحمد عبد المجيد
في حديث جمعنا الساعة الثانية فجرًا، تكسر حلقة السكون الممزوجة بصوت أشجان بعيدة منبعثة من الراديو، وتخبرني غفران وقد حدقت لأعلى تتأمل اصطفاف نجوم ديسمبر خلف قبة المبنى الشفافة:
“مجرد تخيل السعادة يجعلني سعيدة، لكنها سعادة لا تلبث أن تتحول إلى حزن صامت عندما تقابل بواقع تعيس كهذا”
استرسلت، وما زالت محدقة في نجوم ديسمبر المصطفة، تصف لي خيالات تجعلها سعيدة:
“أتخيل أني أنجب طفلتين جميلتين، وفي خيالاتي تكبران وتنضجان كبتلات أزهار، في خيال آخر، أقابل أصدقاء قدامى”
ولنوع آخر من السعادة، ممزوج بدموع الحنين، ألتقي بأرواح غابت، أتساءل حين ألمس الدموع السائلة عن هكذا سعادة، وكيف أنها في الحقيقة حزن عميق ينتشر كالغبار عند نفض ذكرى قديمة كهذه. هذا العبث ونفض الذكريات مؤلم، عقلي يؤذيني حين يحتفظ بالحزين منها.
تخيل أن تمشي بجهاز عرض محمل بشرائط تسجيل لمعاناتك طوال حياتك، ولا تملك تدمير تلك الشرائط، لأن فيها أنت، أو لأنك بدونها فقدت معنى كبيرًا منك، ومواساة عن هفوات نفس تلقي اللوم بها على المعاناة.
صمتت طويلًا، ثم سارت بهدوء ناحية السلم تهبط الدرج، وقد غابت في تأملات عميقة وأحزان. لم أملك سوى السير وراءها كظل، لعلمي أنها بدوني تقع فريسة للأحزان، والواقع يمزقها.
أخبرتني يومًا أني درع واقٍ لها، تجد نوعًا من الأمان والعزاء فيّ.
كنت أتحرك على خطاها، تغوص في معترك حياتها، وأقف في زاوية أراقب مشهد الاعتراك كاملًا… وفي الليل الساكن، أفتح لها منافذ الأمل في الانتصار.
مرة، في اعتراك شديد، استدعتني وأخبرتني باكية أنها فقدت جناحًا.
نظرتُ إليها متفحصًا، ومتَعجبًا من شعورها بالنقص والألم، وجسدها معافى تمامًا.
وجهت عينيها نحوي معاتبة، تخبرني:
“الألم الداخلي هو ما يجرحني… الألم الخارجي سراب يُنسى.”
توسلت إليها أن تعلمني ما جرى، لكنها صرفتني بعيدًا كخيال عابر. في اليوم التالي، وصلتني منها رسالة تقول فيها:
“في ذلك اليوم، آثرتُ الكتابة عن حديث يكشف انكسار نفسي وضعفها، وإن كنت أُظهر لك دون خجل أشد حالات ضعفي، لكن في ذلك الوقت لم أُرد أن أرى نفسي ضعيفة، آه، يا هذا، لو تعرف كم كنتُ مغفلة ومُغيبة في كل تعاملاتي، لا أُضمر شيئًا، ولا أَمكر، حتى قابلتُ نوعًا من البشر، حتى الآن أتساءل عن كمّ ذلك المكر والتضليل والكذب الذي يشوب أرواحهم، أنت لا تعرف ماهية أن تصرف مشاعر لقلب صلد كهؤلاء، الأمر يشبه موجات ترتد نحوك فتقتلك، والأغرب من هذا، أنك ترى هؤلاء الذئاب في ثياب خِراف، ذلك اليوم، قابلتُ صديقة لم أرها منذ فترة، فإذا بها تنقل لي خبرًا غريبًا عن مُذنِب من هؤلاء المذنبين خلف رداء البراءة، لقد ذُهلتُ قليلًا وقتها، كيف يدّعي شخص شيئًا، ويريده، ويسعى لغيره في نفس الوقت، أخذتُ نظرة جديدة عن نوع من الأشخاص يهين نفسه، ونوع يمتهن النفاق.”
تخيلتُ بعد هذه الرسالة أنها ستسلك طريقًا لمواجهة حقيقة الآخرين، لكني اكتشفتُ أنها تحارب نفسها… وتخوض عراكًا معها.
عندما حان ذلك العراك، فتحت مذكراتها لأجد السؤال الأبدي:
“كيف تتخلص مني؟”
كانت تجلس في الشرفة، ترتدي فستانًا بلون السماء، وقد جمعت شعرها للخلف على شكل ضفيرة، وترتدي أقراطًا ذهبية تشبه الشمس، وأسندت رأسها على ذراعيها الممتدة على الطاولة.
جلستُ بهدوء قبالتها، أخبرتني دون أن ترفع رأسها:
“تخيل السعادة لم يعد يشعرني بأنني سعيدة”
أتذكر صدى صوت عبارتها تلك:
“الخيال أنهكني بسعادة زائفة”
طلبتْ مني الرحيل، ولم تَليها بجملة “دون عودة”، لأنها لا تريد أن تفقد نفسها كليًا، ما زالت تراني جزءًا منها، عزاءً وأملًا، وإن كنتُ أُنهكها بسعادة زائفة.
وما أنا الآن سوى خيال منفي… وظل منفصل عن صاحبه.