ياسين غالب
“ذلك الذي يغمرُ حَرَمي السِّريَّ الذي ابتنيتُهُ، من يحرِمُني النومَ، من يسحبُني ويُلقيِني أرضًا، طيفُهُ هو النشوةُ التي أنطقُ بها.”
— جلال الدين الرومي
خَلْفَ سِتَارَةٍ من سَدِيم، يتراءى لي وجهُهُ، مفعمًا بالغيابِ حدَّ ارتشافِ النُّجوم. ينأى فأقتربُ، يَزْهَدُ فأتوقُ إليهِ بشغفٍ لا يُوصَف. ما العشق؟ إنَّه درجةٌ من اللامنطق، عودةٌ إلى طُفولةِ السَّعاداتِ القَصِيَّة، حيث النقاءُ الذي يسبقُ كلَّ الاكتشافاتِ الجسديةِ المُثْقَلَةِ بالتجاربِ الحسيَّة، تِلْكَ التي تُحرِّضُ النفسَ على الشعورِ بالذنب. ما العشق؟
لقد امتلأ التاريخُ البشريُّ بتوصيفاتٍ دقيقةٍ وحسَّاسة، تأتي في صورٍ شعريَّةٍ وسرديَّةٍ لتصفَ هذا الإحساسَ المُجَرَّد. أحيانًا يظهرُ العشقُ كخَدَرٍ عَذْب، وأحيانًا كقلقٍ مُضطرب، ومراتٍ كثيرةٍ يتجلَّى كراحةٍ غامضةٍ وغيرِ مفهومة.
من يُشعِلُ هذا المصباحَ في مساءاتِ الوحدة؟ من يسحبُني من ثوبي كطفلٍ يَعْبُرُ أمامَ قِطارٍ مُسرعٍ ليُنقذَني من غفلتي وتَهَوُّري على حافةِ النهاية؟
هل تعلمُ كم يَنبتُ من القمحِ في قلبي حينَ أراك؟ أعلمُ أنَّكَ لا تعلم، لأنَّكَ لم تتذوَّقْ شرابَ العشق. هل تعلمُ ما العشق؟
يقولُ أهلُ العلمِ إنَّ مشاعرَنا ما هي إلَّا هرموناتٌ وأحماضٌ أمينيَّةٌ تَصْعَدُ وتهبطُ في شرايينِ الدم. هل يُعقَلُ هذا؟
أراك تتوسَّطُ شرفاتٍ سبعًا، منشغلًا بضبطِ مواقِيتِ الكون. هل جئتُكَ بلا موعد؟ من يطرقُ بابَهُ ليُدْخِلَ بيتَه؟ أنتَ البيتُ وأنتَ الباب، وأنا أحدُ ضيوفِكَ.
أحيانًا يرتدي العشقُ ثوبًا “طُهرانيًّا”، يُستَخدَمُ في خدمةِ رسالةٍ دينيَّةٍ أو أيديولوجيَّة، كالعشقِ الإلهيِّ، حيث يُعاملُ الربُّ أو الرمزُ كمعشوقٍ، لِكَسرِ حواجزِ الرَّهْبَة. أعتقدُ أنَّ الغايةَ الأسمى هي تحقيقُ التوازنِ بين قُطبين؛ الأعلى والأسفل، حيث يكونُ العشقُ هو الرابطَ المُوَحِّدَ والمُعادلَ بينهما. البعضُ يتطرَّفُ في عشقِهِ إلى درجةِ العبادة، والبعضُ الآخرُ يصلُ إلى حدِّ الجنون، سواءٌ كانَ مُفتعَلًا أو حقيقيًّا. ما العشق؟
في هذا الزمنِ الذي يُعاني من الكسلِ الجسديِّ والروحيِّ، حيث تُنجزُ الآلاتُ المهامَّ، وتَتَقَزَّمُ المفاهيمُ الغيبيَّةُ بفعلِ الماديَّاتِ والعلومِ الحديثة، يمرُّ العالمُ بفقرٍ روحيٍّ ونفسيٍّ. التقدُّمُ العلميُّ قضى على حقولِ الخيالِ التي كُنَّا نرتادُها كمؤمنينَ بأكاذيبِ الميتافيزيقيا المُدهِشةِ التي تَغَذَّيْنَا عليها يوميًّا لمواجهةِ الواقعِ الصَّارم. شيئًا فشيئًا، نُضَحِّي دونَ أن نشعرَ بحُزْمَةٍ من المشاعرِ الجمعيَّةِ مع الآخر، وأوَّلُها العشق.
فلتكنْ مُدَرَّجًا من ضبابٍ ونشوةٍ إلى سماواتِ الروح. لِتَخْضَرَّ كلُّ السَّنابلِ تحتَ صوتِكَ المُمطِرِ الآن. لِتَأْتِ بِسُلطانِكَ وتَفْتَرِشَ القلب.
الخبزُ الذي وَهَبْتَ لن يَنتهي. الزيتُ الذي أشعلَتْهُ يداكَ لن ينطفئ.
اغمُرْنا باسمِكَ، واقبَلْنَا، وإن كُنَّا زجاجةً وأنتَ مُحيطًا.
…………….
*كاتب من المغرب