د. عزة مازن
على مدى مشروعها السردي اختارت القاصة والروائية سمر نور أن تمزج الواقع بالفانتازيا. في مجموعتها القصصية الثالثة “في بيت مصاص دماء” (2017) تقف سمر نور على التخوم بين الواقع والخيال. فعلى مدى اثنى عشر قصة قصيرة تغزل الكاتبة نسجية تسخر من الواقع وتدينه بمرارة، ولكنها تغزلها بخيوط من الفانتازيا، فتمتزج الحقيقة بالخيال، وتخرج العوالم الحقيقية ممتزجة وملونة بعوالم اللاوعي والأحلام. شخوص مهزومة تهرب إلى عوالمها الخاصة في عالم يضغط فيه زحام البشر على النفس ويخنق الروح. تدور معظم قصص المجموعة حول شخوص ترى خلاصها في الوحدة والعزلة، وعندما تصل إليها لا تسعد بها. لعلها تسعى إلى ذلك التواصل الإنساني الذي يحفظ الخصوصية ولا يذيب الناس في كتلة واحدة تغيب فيها الملامح. وعلى مدى روايتها القصيرة (نوفيلا) “الست” (2018 ) تغزل سمر نور خيوطًا جديدة في نسجيتها الواقعية المعجونة بالفانتازيا. يتمحور السرد حول شخصية الساردة التي ترى خلاصها في الوحدة والعزلة، وتتصدى لوحوش أسطورية تهدد رغبتها في الاستقلال. يمتزج الواقع بالخيال في وحدات سردية، أقرب إلى المتتالية القصصية منها إلى الرواية، إلا أن تمحورها حول شخصية الساردة ينظمها في خيط سردي روائي. أما في روايتها القصيرة الأحدث “آشا.. الجعران والقمر” تواصل الكاتبة مزج الفانتازيا بالواقع، فتغوص في أعماق التراث النوبي الشعبي وتعود إلى القرن التاسع عشر، تمزج أحداث التاريخ بالحكايات والمنمنمات التراثية الشعبية، لتؤكد على خصوصية الثقافة الشعبية النوبية، تستجمع الخطوط المتوارية لذلك التراث، وفي القلب منها الحكايات والأساطير. تعود إلى الجذور حيث الحكايات والمرويات الشعبية وحضورها الطاغي في نفوس أبناء النوبة والتحكم في حياتهم ومصائرهم. تتخذ الرواية من منهج الأسطورة إطارا للحكاية، وتتكئ على التراث النوبي الشفهي والحكائي لتلقي بظلالها على الواقع الحديث. تتشابك الأحداث التاريخية مع الخيال والحكايات الشعبية التراثية. تعود الكاتبة إلى الماضي البعيد، القرن التاسع عشر، لتؤكد مكانة المرأة ومالها من قدرات، تفوق كثيرا من الرجال، مقارنة بما حدث لها في أزمان حديثة تدعي التحضر.
في مفتتح الرواية أو عتبة النص تلقي الكاتبة بخيوط السرد، فهي حكاية نوبية لا تحمل من الواقع سوى الأسماء، أما تفاصيل الحكاية فمن خيال الكاتبة وما قرأته عن خصوصية ذلك التراث :
“تقول الراوية النوبية: – “حكاية.. حكاية من الله”.
يرد قارئ الرواية: – “خير.. خير من الله”.
تحكي الراوية النوبية: روى جدي عثمان، نقلا عن أسلاف عائلتي، أن كل شىء بدأ بزواج كرم باش، جدي التاسع، بجدتي التاسعة، لم يكن لديه شىء يُذكر عن جدي التاسع سوى أصله الأجنبي، ولم يروِ شيئًا عن جدتي أو يذكر اسمها، وربما لم يكن يعرفه، لم يراوده خيال آشا مثلي، ولم يكن يعلم أن كل شىء بدأ بميلاد آشا نوري في مغارة الجعارين” (7). بهذا المفتتح تطرح الكاتبة روايتها من منظور الراوية النوبية، المتحكمة في خيوط السرد، العليمة ببواطن الأمور. في الفقرة السردية الأولى “المغارة” تقف فاتي ونوري أمام الجبل يتمنيان الموت بعد أن فقد نوري آخر أولاده الخمسة، في الحرب بين محمد علي والمماليك. وكانت قرية الشباك النوبية قد أصيبت بلعنة أن تخلو ذريتهم من البنين. ولكن بدلا من الموت في كهف الجعارين تولد لهما آشا، وكان نوري يقارب الستين وفاتي تجاوزت الخمسين وجف رحمها.
ولدت آشا وعاشت محاطة بالأساطير والحكايات في قرية الشباك النوبية. فأمها فاتي راوية الحكايات في القرية: “بعد غياب الشمس، في بعض الليالي، كان أطفال القرية وكبارها يتجمعون حول مصطبة فاتي لسماع حكايات الأقدمين وخرافاتهم وأساطيرهم، وتاريخ القرية كما حملته فاتي من والدتها…. تلقي عليهم استهلالة متوارثة: “حكاية.. حكاية من الله” ويرد عليها الجمع بقول متوارث أيضًا: “خير.. خير من الله”، فتبدأ الحكي” (19). كان جمال، ابن إسحاق، خادم فاتي ونوري، يطلب من فاتي دائما حكاية “الجعران والقمر”، وهي الحكاية التي تلقي بظلاها على السرد. تحكي فاتي: “كان القمر والشمس معًا في السماء، يطلان على البشر طوال اليوم معا، في كل الفصول وفي كل أنحاء الأرض، فلا يعرف البشر ليلًا من نهار، وكانت الخنفساء مغرمة بالقمر، تسرح مع طلته المتعالية، وتتمنى أن تصعد إلى سمائه، حتى طلبت الخنفساء يد القمر…. قرر القمر الماكر أن يستغل حب المسكينة، واتفق معها على الزواج بشرط أن تطهر الخنفساء الأرض من فضلات الإنسان والحيوان قبل أن يُقدم على الزواج بها، دأبت الخنفساء سنوات طويلة على جمع الفضلات حتى انتهت منها، وعادت إلى القمر…. فطلب منها أن تجمع أولا آثام البشر وخطاياهم، ظلت الخنفساء تعمل بدأب ليلاً ونهارًا حتى جمعت كل آثام البشر، وعادت إلى القمر…. فطلب منها القمر… أن تدفع قرص الشمس بعيدًا عنه كل يوم، حتى يستطيع رفعها إلى السماء بجواره، وظلت الخنفساء المحبة تدفع قرص الشمس بعيدًا عن القمر حتى اختلف الليل والنهار، وفاز القمر باكتماله ونقصه وحيدًا في سمائه، ولم يلتق الشمس ولا الخنفساء حتى يومنا هذا” (19-20). كان جمال محبا وعاشقًا لسيدته آشا في صمت يخدمها بتفاني حتى بعد أن تزوجت كرم باش، ابن القائد البوسني الغريب عن القرية، وكان النهر ألقى به غريقا على ضفاف قرية الشباك.
عاشت آشا مسكونة بالحكايات وبعوالمها الخاصة التي لا يراها سواها: “عاشت آشا نوري بين الحكايات، لكل حجر حكاية في قرية الشباك، تُذكر فاتي أن الأطلال التي تقع جنوب القرية كانت قصرًا للملك النوبي شاباكا، الذي تُنسب القرية إليه، لكنها حكت في ليلة أخرى عن الشبابيك التي تُطل على أضرحة الأولياء، التي تعود إليها تسمية القرية. كانت فاتي تحكي وتنسى، وتعود لتحكي حكاية أخرى، للعالم تفسيرات مختلفة وكذلك لتسمية قريتها، فكان لآشا حكاياتها الخاصة التي تتخيلها من بين ثنايا ما ترويه فاتي، تتخيل الجبل كشباك يطل على الجنة، كشرفة قصر شاباكا التي تطل على حديقة، كأن الأسلاف الذين سكنوا التل يومًا يهابون النهر قبل أن ينسحب وتخضر الأرض ويسكن سماءها الطيور، يراقبون الحياة تسكن أسفل التل فينزلون إلى مستقرهم، ويطلقون عليه اسم الشباك، وكانت آشا تتخيل بيتها كشباك يطل على السماء، كان عالمها شباكًا يطل على عوالم أخرى لا يراها سواها” (24). سكن الخيال والحكايات قلب آشا وعقلها: “الخيال يتبع آشا في كل مكان، تحب آشا الرعي مع الأطفال، تعامل حيواناتها بحنو، تتحدث إليها سرًا حتى لا يتهمها أحد بالجنون، تحكي لها حكايات فاتي التي سمعتها مرارًا وتكرارًا حتى حفظتها عن ظهر قلب. كانت تسمع الأطفال يقولون سرًا: آشا (دوشة)، آشا تتحدث إلى الخراف والماعز والعصافير والدوري والقمري، كائنات النهر آذت آشا، مخلوقات الحكايات الخيالية التي ترويها فاتي سكنت المسكينة. حين بلغت العاشرة أيقنت أن علاقتها بالكائنات لابد أن تكون سرًا، تحتضن التي تسميها نوري وتسر إليها بسر صغير، لا تحرك شفتيها، بل تدير الحوار داخل رأسها حتى لا يتهمها أحد بالجنون” (25). بعد أمسية حكي دافئة لفاتي ينشق النهر أمام آشا لترى أمام عينيها أماني ريناس: “انشق النهر عن أماني ريناس أمام عيني آشا، كأنها تحلم بعد أمسية حكي دافئة، تسلقت الملكة الصخور بفستان قصير يُظهر فخذيها وتفاصيل جسدها الممشوق، لم يبتل قماشه الكتاني كأن الماء لم يمسسه، خرجت الملكة من النهر دون أن تعلق بها قطرة ماء واحدة، تمر الدوامات المتربة من حولها كأنها تتجنبها من تلقاء نفسها، صعدت الصخور الجرانيتية وجلست بجوار آشا، كانت عينها السليمة تومض تحت أشعة الشمس الصاخبة” (31). ففي تلك الليلة كانت فاتي قد حكت عن “كنداكة، ملكة كوش، التي حكمت أراضي النوبة حتى حصن إبريم شمالًا، وكانت قرية الشباك تحت سيطرتها”. فقدت كنداكة إحدى عينيها في حرب مع عدوها استمرت أربع سنوات، ولم تستطع كسرها. ظلت آشا مسكونة بخيالاتها وأحلامها عن أماني ريماس.
يتصاعد الصراع بعد زواج آشا من كرم باش، الذي عاش معها في قرية الشباك، ولكنه تمرد على سلطة أبيها، وضمر نية التخلص منه، فسرق عبده خنجره لينفذ ما انطوت عليه سريرة سيده. يؤكد كرم لآشا براءته من قتل أبيها، ولكنها تطلب منه الرحيل والعودة إلى كورسكو حيث ولد وعاش. فتطلب من جمال أن يصحب كرم في طوف عبر النهر إلى كورسكو. يغرق الطوف بالغريمين في النهر. وتنفك اللعنة بموت نوري، الذي تقول الحكايات أنه قتل أحد كائنات النهر، فعاقبوا أهل القرية بحرمانها من إنجاب الذكور، وتنجب آشا ابنها أحمد، فيحمل إسمها ليكون “أحمد آشا حفيد نوري وفاتي (115)” وتورثه الحكايات. يتشظى السرد عبر فقرات سردية يتشابك فيها الحكي مع منمنمات من موروث الحكايات الشفهية وطقوس الحياة النوبية في المناسبات المختلفة. تستغرق الكاتبة في سرد طقوس الأفراح والجنازات والبيع والشراء، وتُطعم حكيها بأغاني من التراث النوبي، كما تستخدم بعض المفردات اللغوية النوبية التي تجد تفسيرها عبر السرد الحكائي، دون الحاجة إلى هوامش تفسيرية. ففي فقرة سردية بعنوان “تورة” ينفرج السرد عن معنى الكلمة وهي “حفنات من البلح يطلقون عليها تورة؛ عملة النوبين. وكل عدد من الحبات يساوي قطعة من منتجات الغرباء متفق عليها” (48).
تأتي لغة الرواية شفافة رقراقة تتماوج بين هدهدة الحكي والمشهدية وجمال التصوير. ففي فصل بعنوان “القمر” تصف الراوية رحلة نوري، مصطحبًا جمال وآشا في طفولتهما، معه في إحدى سفرياته للقرى المجاورة، وكأنما ترسم لوحة تشكيلية:
“ابتعد الطوف، المصنوع من سيقان الذرة والبوص، عن ضفة نهر قرية الشباك في اتجاه توشكى غرب في الضفة الأخرى، جدف إسحاق وغنى بمصاحبة جمال ذي التاسعة، بينما جلست آشا فوق ركبة نوري، تؤرجح قدميها من فوق كتفيه، فانحسر جلبابها ذو الورد الملون الصغير عن قصبتيها الصغيرتين اللتين لوحتهما الشمس، وعلى الرغم من فصل الشتاء لم تفقد أشعتها قوتها، فتحولت بشرة آشا من اللون البني الفاتح إلى درجات مختلفة من البني. كانت تراقب مع نوري المشهد على الضفة الشرقية التي يودعها المركب خلفه، تختلط الألوان والأشكال كأنها من إبداع فنان، حيث تبدو على مرمى بصريهما قرية الشباك تتوسط بين قريتي إبريم شمالها وتوشكى شرق في جنوبها. شمس عصاري الشتاء البرتقالية تكلل جبالًا في الخلفية كأنها أبنية هرمية منتظمة، مستوية في قمتها. في الوسط تبدو بيوت الشباك واضحة فوق مرتفع، بألوانها الطينية والبيضاء ورسوماتها الخارجية كمنمنمات من على بُعد، أسفلها الوادي، حيث السهل الفيضي تغطيه المزروعات الخضراء بثمارها الملونة على ارتفاعات مختلفة، ثم الكتل الصخرية الُبنية التي حولتها الشمس إلى سواد لامع، لكنها لا تصل إلى درجة سواد إسحاق أو جمال، وهما لا يرتديان سوى مئزر يستر عورتيهما، وقد زاد بريق لونهما تناقضه مع بياض جلباب نوري الناصع، ثم ماء النهر الأزرق الرقراق بدرجاته المختلفة، الذي لا تشوبه شائبة في الشتاء سوى حركة الريح وتموجاتها الناعمة. في اتجاه إبريم تبدو الكتل الصخرية لحصن إبريم واضحة وأكثر سمرة، وحافتها تتلألأ تحت أشعة الشمس، وتتابع لوحات المقصورات الملكية فتبدو من بعيد الملكة حتشبسوت وهي تسلم القرابين للإله حورس بينعام، إله عنيبة، عاصمة النوبة القديمة، وإله إبريم، حيث يفصل إبريم عن الشباك “شج فرن” أو ممر صخري في الجبل كأنه شق دفين قطعه سيف نصفين، أما ما يفصل الشباك عن قرية توشكى شرق فهو منحدر رملي واطئ، وتتحول الضفتان الشرقية والغربية لقرية توشكى إلى الطابع الرملي، حيث الأعشاب البرية ونخيل البلح والدوم وشجر السنط” (15-16).
يدور السرد دورته وتنهي الراوية النوبية حكايتها بالعبارة التراثية المألوفة: “الخضراء.. الخضراء لنا، واليابسة.. اليابسة لكم، يا سكان عوالم السحر، فلكم عالمكم، ولنا عالمنا، فلتنصرفوا إلى عوالمكم من دون إيذائنا، كومان، كوماه” (118). فلم تكن آشا وفاتي ونوري وعوالمهم إلا شخوصًا في حكاية تحكيها راوية نوبية تنسج حكايتها من التراث الشعبي للنوبة القديمة.
بروايتها الأحدث “آشا.. الجعران والقمر” تنضم سمر نور إلى كبار أدباء النوبة، يحى مختار وحجاج أدول، فتضع بصمتها الخاصة على مشروع استجماع الخطوط المتوارية لخصوصية ذلك التراث، وإستدعاء ذلك الجزء الأصيل من الثقافة المصرية، ثقافة أهل النوبة.