عن علي حورية.. صائد الصور في الظلام

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جمعة الموفق

مقدمة أولى ومنفرة

شاعر غيور على مادته، نعلم مسبقا أنها مادته مشاعة، ابتذلت بأفعال التطفل وكثرة وسوء الاستعمال، في محترفه غير المرئي، يحول علي حورية المادة المشاعة إلى عمل خلاق شأن كل شاعر يعرف كيف يصطاد فكرته، يحول الكلمات إلى صور.

ربما، في الظلام يسهل اصطياد الصور والأفكار. لماذا يخطر ببالي غرفة تحميض الصور؟ أسأل نفسي ما هي الفخاخ التي ينصبها في ذلك الظلام، وأجيب: يجعل من نفسه فخا.

بدت نصوصه الأولى مثل نبوءة مرعبة، تضرب نصوصه بشراسة لا هوادة فيها، نصوص لعينة فريدة من نوعها، يقول في أحد نصوصه مهددا:

أنا المطاف الأخير/ أنا نهاركم الأسود.

القارئ في هذا النص يجد نفسه، غصبا، أمام مخيلة سوداء، تفرضها كلمات نبوءة تنذر بمولد الشاعر، شاعر غير معتاد، فهو يبشر بيوم أسود يقول:

/لطالما تنبأت بي الكائنات/ لطالما تمتم اسمي العرافون/ لطالما ردده السحرة مع عفاريتهم/ لطالما هدد به الآباء في الزمن الغابر أطفالهم المشاغبين/

 نعرف أن الفوضى هي زمن النص، الفوضى والخوف، زمن داعش والإرهاب، زمن قطع الرؤوس، إذن هذه نبوءة شر. مواجهة الشر بالشر.

في آخر النص يقول:

ها أنا أخرج كأمة من عقارب

ممزقا الفرج الذي لفظني

قاطعا حبل سرتي بأسناني.

هذا تعريف أولي بالشاعر وتقديم منفر لمن يرى في الشعر أحزان وشجن وحب، فشاعرنا يلعب في منطقة مفخخة وخطرة، يقول في نص آخر:

 إنا بائع المسك / ونافخ الكير

يحذرنا أن:

الجلوس بجانبي / شبهة كبيرة / جنحة / إثم عظيم.

لكن هذا ليس كل شي، فعلي عندما يمسك بالكلمة فهو يعرف ما يريد منها، يعرف تماما أن يضعها، يعرف موضعها الصحيح في النص.

يخبرنا في أحد نصوصه :

أنا ممثل جيد/ كاذب بارع/ لذلك صرت أكتب بروح الكثيرين/ صرت أتقمص أي شيء / وأمثل كل الأدوار/ حتى أنه يمكنني أن أمثل فيلما كاملا بمفردي.

 

مقدمة ثانية

دعوني أقدمه على نحو آخر، فهو شاعر بأكثر من وجه ولون، شاعر مختال ومتواضع، وأيما كان الوجه أو اللون الذي يكتب فروح الإبداع لن تغادره.

روحه العظمى، فهو حين يكتب يخبرنا شعريا بالطريقة التي يكتب بها

حين أكتب/ حين أمسك النص بين يدي/ وأشرع في خلقه/ أشعر أن عينيّ تتقدان/ كفتيلتين في الظلمة/ وان بصري نافذ كالشعاع.

 تخيلته في ركن خارج المقهى، ركن يحتفي بغروب الشمس حيث يجلس علي ويكتب، يفصله عن صمت المقبرة المهيب، سور واطئ.

إن كلمة حزن تخص عادة إنسان فقد عزيزا، أو إنسان لم يفلح في فهم هذا العالم، علي الحاج علي(علي حورية) لا يبدو حزينا بقدر ما يبدو متوجها في طقس خاص نحو فهم لغة الموتى..الموتى هم الأجدر بالحزن.

 

 يكتب للملأ الأعلى

كتبت مع علي حورية، الذي تربطني به صداقة متينة، نصا مشتركا عن الشعر، أظنه، بعد هذا النص، قد وصل إلى فهم واضح عن تجربته، ورأى أنها يجب أن تتوقف، كم هذا محزن بالنسبة لمن يتذوق الشعر؛ أن يتوقف فجأة هذا الزخم الهائل من الصور الخلاقة؛ فعلي حورية، شاعر حقيقي، يدرك تماما حجم المسؤولية التي يكتب بها الشعر، وأخاله يكتب للصفوة، للملأ الأعلى، أو ربما للموتى. سأتذكر وصفا مهما لجان جينيه عن تماثيل جياكوميتي، إنها موجهة لعالم الموتى.

 في نصوص تالية غير نهجه واعتمد البساطة كأسلوب في كتابة الشعر، يعرف أن البساطة ليست أمرا سهلا. البساطة التي يفهم أنها هي الأخرى، شأنها شأن كل شيء جدير بالاحترام، مساء إليها، فالبساطة لا تحتمل التكلف، النص العفوي هو نص مشرق مثل أي شيء طبيعي، مثل شجرة تعطيك ثمرا، أو وردا ورائحة، فهذا صميم عملها. في نصوصه الجديدة والمبتكرة نجح أن يقدم عينة من صور غاية في البساطة، حتى أنك لا تكاد تبكي وأنت تقرأ. هذه مهمة كبيرة ومبجلة

يقول متحسرا في نص:

آه لو أنكم ترون النص الذي أصبو إليه

النص الذي أكافح من أجله

إنه أبسط مما تتصورن

أوجز من أن يحفظ

وأقرب من أن يرى.

هذه غاية كل شاعر حقيقي، الايجاز.

لماذا توقف؟ أطرح هذا السؤال هنا ولم أطرحه عليه.

أعرف مقدما أنه سيعمد إلى المراوغة في حال طرحت عليه هذا السؤال. لذا أكتفي بطرحه في هذه المساحة.

أآثر الصمت؟ هذا ما أخمنه، فعلي ليس ثرثارا، وحتى في حسابه على الفيسبوك لم يكتب شيئا آخر غير الشعر. أؤكد مرة أخرى ليس ثرثارا. ولا يخري نصوصا مثلما يحدث الآن في العالم الأزرق. عالم به من نصوص الخراء أكثر من خراء الصرف الصحي.

دائما أتذكر أفضل كاتب بالنسبة لي وأعني خليفة الفاخري، الذي آثر الصمت على الدخول في جوقة المداحين والخرائيين.

يتخذ شعر علي حورية شكل الصدمة، وهذا ما فلعه بي في أول نص قرأته له. طاغ في الصور، مسرف الجمال، يأخذك إلى الذهول مباشرة خلال مشهد درامي متصاعد ومتوتر، حينها يكون على الشاعر أن يحزم أمتعته ويتركك لألم لذيذ، لا يأخذك أبدا لمنطقة الراحة.

علي ولد شاعرا وكبيرا. واحسبوها عليّ

سأترك لكم هذا النص المرهف والعالي

نهار اليوم

صادفت صيادا على الشاطئ

كان مسنا وبائسا

وهزيلا لدرجة مثيرة للشفقة

ظللت أراقب ترقبه

أراقب تأمله وصمته

أخذت الساعات تمر

وهو يحدق في خيط السنارة

وحين يرتعش الخيط ولو قليلا

ربما لموجة عابرة

كان يرتعش هو الآخر من الفرح

وحين اقتربت الشمس من الماء

وأخذت في الغروب

أخذ يرمي بسنارته

بكل ما أوتي من قوة

ظل يحاول ويحاول

لكن دون جدوى

آه لو أنكم رأيتم عينيه

وهما تتقدان لهفة ورجاء

أقسم أنني تمنيت في هذه اللحظة

أن أكون سمكة ليصطادني.

 

ليس هناك كلمة زائدة

يستشهد جان جينيه، في حديثه عن تماثيل جياكوميتي، بحديث قصير بين الملك فريدريك الثاني والموسيقي العظيم موزارت

مفترضا أن الملك يستمع إلى الناي السحري (وهي آخر أوبرا كتبها موزارت)

الملك مخاطبا موزارت: ما أكثر النوتات، ما أكثرها!

موزارت: مولاي، ليست هناك واحدة زائدة

نصرخ يا للجمال!

كان ذلك موزارت، وكان على ثقة من عمله. فهو لن يسمح لمخيلته بزلة كهذه تسجل عليه. أعني أن تكون ثم نوتة زائدة في عمله.

جان جينيه كان يعني الدقة.

وعلي حورية ، أيضا، دقيق ولا يقول كلمة زائدة.

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم