قَوَّادو نجيب محفوظ ومصير “نفيسة” بين “إيمَّا بوفاري” و”أنَّا كارينينا”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

نجيب محفوظ مفكرا اجتماعيا (2-3)

قَوَّادو نجيب محفوظ ومصير “نفيسة” بين “إيمَّا بوفاري” و”أنَّا كارينينا”

هناك مساحة مهمة في عالم الكاتب المصري نجيب محفوظ (نوبل 1988) مخصصة للقوادين، ولعالم القوادة، والتركيبة الذهنية والنفسية والاجتماعية للقواد.

والقواد في عالم نجيب محفوظ الروائي ليس مريضا نفسيا أو قاتلا مغتصبا متسلسلا مثل القاتل المتسلسل، وإنما شخصية يمكن تفهمها وتفهم دوافعها النفسية والاجتماعية، ولكن لا يمكن التعاطف معها.

هناك بعض نماذج القوادين الصارخة في عالم نجيب محفوظ. لكل منها طريقته ودوافعه وتركيبته الذهنية والنفسية والاجتماعية. تبدأ هذه النماذج بالشخصية الأهم والأخطر في رواية “القاهرة الجديدة”، والتي دخلت إلى الميثيولوجيا المصرية وأصبحت صفة أو “سمة” معبرة دلاليا عن المهنة والهوية والوظيفة وطريقة التفكير. وهي شخصية محجوب عبد الدايم الأكثر تعقيدا، نظرا لتعقد تركيبتها ونشأتها وتاريخها الاجتماعي ومسارها في الحياة وتشابكها مع السياسة. أي أن شخصية محجوب عبد الدايم تقف على رأس قائمة القوادين في عالم نجيب محفوظ.

وتنتهي هذه القائمة بشخصية حسنين في رواية “بداية ونهاية” وهي الأكثر التباسا، ومدعاة للتفهم، وربما التعاطف أيضا. فحسنين المغرور والمتعالي، والمتعجرف نسبيا، لديه جوانب تثير التعاطف والشفقة. ولكن في نهاية المطاف، من الصعب أن يتحول هذا التعاطف وهذه الشفقة إلى شكل من أشكال الدعم.

هناك عوامل مشتركة بين محجوب عبد الدايم وحسنين. ففكرة القوادة ترتبط عند الأول بزوجته سميحة، وعند الثاني بأخته نفيسة. أي أننا هنا أمام مسألة أكثر من أخلاقية وأعمق من كونها مشكلة نفسية أو مرتبطة بالنشأة وبالوضع الاجتماعي. ولكن لا ينبغي أن نقع في فخ إصدار الأحكام بسبب العامل الأخلاقي، لأن التكوين النفسي والذهني لا يمكن فصله عن النشأة والوضع الاجتماعي. وهناك بطبيعة الحال استثناءات، لكنها تلك الاستثناءات التي تؤكد القاعدة ولا تنقضها أو تهدمها.

هناك أيضا نموذج كل من فرج إبراهيم في رواية “زقاق المدق”، وشخصية رجب القاضي في “ثرثرة فوق النيل”. الأول قواد حقيقي من حيث المهنة والوظيفة وطريقة التفكير والسلوك. والثاني قواد وفق طبيعة الأمور وتطور علاقاته النسائية ونظرته للمرأة ورؤيته للمعاير التي يمكن أن تكون أساسا للعلاقة بين أي رجل وأي امرأة. وربما يكون رجب القاضي هو الوحيد من قوادي نجيب محفوظ الذي يمتلك رؤية وثقافة وقدرة على الإقناع، وإمكانية مادية على ممارسة القوادة كفعل طبيعي وسلوك يبدو أنه من طبائع الأمور.

على الجانب الآخر، نجد نموذج “إحسان” زوجة محجوب عبد الدايم، ونفيسة أخت حسنين، وحميدة اليتيمة الفقيرة ابنة زقاق المدق التي تنادي خالتها بأمها، وتبدي رغبتها واستعدادها بكل الأشكال والصور لمغادرة الزقاق اللعين إلى أضواء وسط القاهرة. ثم ثلاث أو أربع شخصيات نسائية أخرى في عوامة رجب القاضي يتم التعامل معهن كسقط متاع، ويجري استبدالهن أو الاستغناء عن خدماتهن في أي وقت بعد أن يشبع منهن رجب القاضي، أو التناوب عليهن وتسليمهن من رجب إلى أصدقائه. بينما هن في حقيقة الأمر يمارسن حياتهن بشكل طبيعي مثل بقية رجال العوامة، ويحاولن اكتشاف العالم مثل أي كائن بشري.

هذه النماذج النسائية لافتة للغاية، ويبدو أن لديها “حرية الاختيار”. هكذا يبدو الأمر فقط، مجرد احتمال. ولكن من الصعب الاتفاق مع هذه الرؤية في ظل أوضاع اجتماعية متردية ورغبة في الصعود الاجتماعي والطبقي، أو في ظل أوضاع اجتماعية سيئة للغاية ورغبة في الحفاظ على الصورة الاجتماعية ورونق الوظيفة والنظافة الأخلاقية. هناك أيضا جانب يظهر بحدة في نساء عوامة رجب القاضي اللاتي لا يعانين من مشاكل اجتماعية أو احتياجات مادية. بل على العكس، لديهن حرية حركة وحرية اختيار وثقافة نوعية وشبكة علاقات، وربما وظائف تمكنهن من الحياة بشكل جيد وتسمح لهن حتى بالاختلاف مع أزواجهن أو رؤسائهن في العمل. على عكس إحسان التلميذة ونفيسة الخياطة اللتين تعيشان في أسرتين من أسر الطبقة الوسطى الزئبقية، ويدفعن ثمن ذلك أكثر بكثير من الرجال أنفسهم. وبل ومن الممكن القول بأن اختياراتهن مبنية على فعل الرجال وتصرفاتهم أو الطموحات الأسرية الطبقية وعملية الترقي الوظيفي.

في الحقيقة، يمكن الحديث عن محجوب عبد الدايم وفرج إبراهيم ورجب القاضي كثيرا من حيث التركيبة الذهنية والنفسية والوضع الاجتماعي، والمجال العام السياسي والثقافي. ولكن شخصية حسنين التي تعتبر أكثر شخصيات القوادين التباسا في عالم نجيب محفوظ، تستحق نظرة أكثر عمقا وتأملا، لأن حسنين ليس قوادا واضحا ومحدد السمات، وإنما متواطئ برغبته أو قسرا. غير أن هذا التواطؤ يندرج بشكل مباشر، وبدرجة أو بأخرى، تحت بند القوادة، سواء كان حسنين يتعامل بحسن نية مع ما تقدمه له أخته من دعم ومساعدات وأموال وهدايا، أو “يطرمخ” عن مصادر هذه الأموال، متصورا أن مهنة الخياطة يمكنها أن تدر عليها كل هذه الأرباح التي تنفق منها عليه وعلى أخيه حسين. في نهاية الأمر، لم يتوقف حسنين لحظة ويتأمل الوضع ويسأل نفسه: “من أين تأتي نفيسة بكل هذه الفلوس؟!”.. لم يكلف حسنين نفسه ولو حتى التوقف لعدة ثواني لكي يطرح هذا السؤال على نفسه. فهو في الحقيقة، مشغول جدا بنفسه وباعتداده بكرامته ومظهره، وبصعوده الوظيفي وترقيه وأحلامه في الانتقال إلى طبقة أرقى، بل ومنشغل تماما بحياته وبالمستقبل الباهر الذي ينتظره.

إن شخصية نفيسة في “بداية ونهاية” واحدة من الشخصيات النسائية اللافتة في الأدب العالمي، التي تطرح تساؤلات أخلاقية واجتماعية كاشفة ومحرجة وجارحة للمجتمع ولمؤسساته وللنخب عموما، بعيدا عن الأحكام الأخلاقية التي تضر بالأدب وبتأثيره وبدوره الجمالي والإبداعي والاجتماعي. شخصية نفيسة بتداعياتها النفسية والذهنية وطموحاتها غير المباشرة، التي ترى إمكانية تحقيقها عن طريق أخيها حسنين، تضعها بين شخصية إيما بوفاري في رواية “مدام بوفاري” للكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير، وبين شخصية أنَّا كارينينا في رواية “أنَّا كارينينا” للكاتب الروسي ليف تولستوي.

إن انتحار كل من “إيما” و”أنَّا” لم يزلزل فقط كيان الطبقات الأرستقراطية في كل من فرنسا وروسيا، ولم يهز مشاعرها الأخلاقية فقط، بل فتَّح عيون النخب وعقول النقاد والمشرِّعين على أهمية الأدب ودوره الاجتماعي من جهة، وضرورة نقل الأفكار الأخلاقية والقوانين التي تخدم الشرائح الأرستقراطية إلى مستوى آخر، بل وضرورة إجراء إصلاحات اجتماعية وثقافية وقانونية في المجتمع من جهة أخرى. وذلك رغم الاستنكار الأخلاقي الواسع الذي قوبلت به الروايتان، والشخصيتان: إيما وأنَّا.

جاء انتحار نفيسة بعد انتحار “إيمَّا” بحوالي 100 سنة، وبعد انتحار “أنَّا” بحوالي 70 سنة. وهو زمن صدور الروايات على وجه التقريب. انتحار نفيسة جاء ليس في القرن التاسع عشر حيث المجتمعات الأرستقراطية المحافظة والقوانين الرجعية بحق المرأة، وإنما في النصف الثاني من القرن العشرين في مجتمع لا يزال يعيش بنفس عقلية القرن التاسع عشر، بل والثامن عشر. قد يكون هذا الانتحار- انتحار نفيسة- أثار تساؤلات لدى النقاد والمتابعين. واتسعت دائرة التساؤلات نسبيا بعد أن تحولت الرواية إلى فيلم بنفس الاسم. لكنها في مجملها كانت تساؤلات أخلاقية بالدرجة الأولى، لم يقدَّر لها أن ترقَ من الأخلاقي وتتجاوز الأحكام الأخلاقية والعاطفية، إلى النطاقين الاجتماعي والقانوني. والمقصود هنا بالنطاق الاجتماعي، هو النظر بعمق إلى الأوضاع الاجتماعية، والاجتماعية- الثقافية والاقتصادية. أما النطاق القانوني فهو تطوير التشريعات وتوطينها اجتماعيا وثقافيا وتعليميا بشأن وضع المرأة وحقوقها الطبيعية الحتمية، بعيدا عن الديني والأخلاقي والعاطفي.

في الفصل الأخير من رواية “بداية ونهاية” للكاتب المصري نجيب محفوظ، تظهر ليس فقط قوة السرد والبناء، وتسييد الدوافع الدرامية وتفعليها إلى أقصى درجات التوتر، بل يتم تكثيف السرد ليجسد الوجه الآخر الحقيقي لحسنين، ويبرز التناقض الذي يوضح بحدة مذهلة وموجعة بين وجه القسوة والتواطؤ، وبين الضعف والهشاشة وتأنيب الضمير، في لحظة لا يمكن أن ينفع معها أي تراجع أو يؤثر فيها أي وجع أو تأنيب ضمير أو إحساس بالذنب. لقد انتهت للتو حياة إنسان كان يقدم كل شيء بنفس راضية لجلاديه، بل واختار هو نفسه الموت لكي يفديهم ويجنبهم سوء السمعة ويحافظ على هيبتهم. هنا أيضا يظهر الوجه القبيح للتواطؤ والتخلي والإنكار وعبثية الحياة وهشاشة المصير الإنساني. لكن حسنين بقسوته في البداية، وبندمه في النهاية، لا يمكنه أن يعيد الحياة إلى أخته نفيسة التي لم تهبه في واقع الأمر النقود والدعم والهدايا فحسب، بل وهبته حياتها نفسها كآخر حائط صد لحمايته من جهة، ومن أجل حفاظه على “شرفه” من جهة أخرى. هنا لا يمكن لأي ندم أن يعيد الحياة لنفيسة. لكن التأرجح بين الندم والوجع من جهة، وبين الإنكار والتخلي من جهة أخرى، يبرز التواطؤ والخسة اللتين تعكسان إحدى أحط صور القوادة وأكثرها التباسا.

إن أخطر قواد في عالم نجيب محفوظ، من حيث الشهرة والانتشار والتناول، هو محجوب عبد الدايم في رواية “القاهرة الجديدة”. يليه في المرتبة الثانية حسنين في رواية “بداية ونهاية”. فمحجوب كان يعرف أنه قواد عتيد، بينما حسنين أدرك فقط أنه قواد بعد أن أنكر أنه يعرف جثة أخته نفيسة.. محجوب كان يدرك أنه يمارس القوادة على جميع المستويات من دون أن يرف له جفن. بينما حسنين الذي طلب من أخته أن تنهي حياتها لم يدرك أنه بهذا الأمر وضع قدمه على أول طريق القوادة بدم بارد وقلب من حجر. لكن إذا دققنا بعمق، قد نجد أن حسنين هو أخطر قواد وفق طبيعة شخصيته “الملتبسة” حيث يرتدي بدلة البوليس الأنيقة التي تخفي الكثير من جوانب حقارته ووضاعته.

إن شخصية “حسنين”، تحتاج ليس فقط إلى مجرد مقال، بل لكتاب كامل من أجل تشريحها نفسيا وذهنيا وسلوكيا. فهو فعلا قواد أخطر بكثير من محجوب عبد الدايم. ومن الواضح أن نجيب محفوظ طرحه بعبقرية فذة، وبشكل “ملتبس”، على مستوى البناء، يتوافق مع متطلبات ومعايير النماذج الأدبية العالمية الخالدة في ذاكرة التاريخ الأدبي. والالتباس هنا ليس في كتابة الشخصية، وإنما في تركيبتها الإنسانية وتصرفاتها ودوافعها. هكذا يكشف الفصل الأخير في “بداية ونهاية”، والذي لا يمكن أن يكتبه إلا كاتب من العيار الثقيل.

هنا يمكن أن نكتشف أن موضوع “المرأة عند نجيب محفوظ” أو “المرأة في عالم نجيب محفوظ” مجرد عناوين عامة وفضفاضة للغاية لا يمكنها الإفصاح عن اهتمام هذا الكاتب بالمرأة. لكن تسمية مثل “نساء نجيب محفوظ” تُعّد أكثر دلالة ودقة، لأن نماذج نجيب محفوظ النسائية تكاد تقف على نفس مستوى النماذج النسائية لدى فلوبير وتولستوي من حيث التفرد والتوغل ليس فقط في الروح الأنثوية، بل وأيضا في تشريح منظومة العلاقات الاجتماعية.

وفي الواقع فباحثو الأدب تعرضوا لشخصيات “إيمَّا بوفاري” عند فلوبير في روايته “مدام بوفاري”، ولشخصية “أنَّا كارينينا” عند تولستوي في روايته “أنَّا كارينينا”. وهناك من تعرَّض لكل منهما على انفراد، وهناك من حاول تناول الشخصيتين في سياقات جمالية واجتماعية وتاريخية معينة. وبظهور نساء الكاتب المصري نجيب محفوظ في منتصف القرن العشرين، بات لدينا نماذج نسائية إضافية متفردة من حيث الوجود والحضور والمصير. وكان من بين هذه النماذج “حميدة” في “زقاق المدق” و”نفيسة” في “بداية ونهاية”، و”إحسان” في “القاهرة الجديدة”، ونساء عوامة “ثرثرة فوق النيل”. واتضح أن نموذج “نفيسة” على وجه التحديد يقف إلى جوار نموذجي كل من “إيمَّا بوفاري” و”أنَّا كارينينا” لأسباب كثيرة جمالية وسردية ونفسية واجتماعية.

إن القوادة في عالم نجيب محفوظ لم تقتصر على عالم الجنس والنساء وتجارة البشر، بل امتدت لتشمل العاملين في مجالي السياسة والإعلام وأدعياء الثورة والتقدم، وعالم المثقفين لتتفتح أعيننا على مفهوم “المثقف القواد”، وليتحرك المفهوم العام للقوادة والقوادين إلى دوائر وموجات أوسع من حيث الدلالة والتحديد، وينتقل بعد ذلك إلى المفاهيم العامة المتداولة للميثيولوجيا الشعبية. غير أن اللافت هنا أن غالبية أعمال نجيب محفوظ، إن لم يكن كلها تقريبا، تنطلق من فضاء مفتوح وتذهب إلى فضاء مفتوح آخر، من دون أحكام مسبقة أو طرح فرضيات يقينية تحدد مسار الشخصيات بناء على حسابات نفسية أو ذهنية مسبقة أيضا.. إن عالم نجيب محفوظ مشرع الأبواب والنوافذ وغير محدد بأحكام وفرضيات ودوافع حتمية تحدد الشخصية أو تتحكم في مساراتها وتفرض عليها تصرفات معينة. فكل الاحتمالات مفتوحة في عالم مليء بالتناقضات والاحتمالات والتوقعات.

 

اقرأ أيضاً:

نجيب محفوظ مفكرا اجتماعيا (1ـ 3)

نجيب محفوظ مفكرا اجتماعيا (1ـ 3)

مقالات من نفس القسم