“العلاج السري”.. التأريخ المتخيل كحيلة فنية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أكرم محمد

إنها تلك الحيلة التي يمارسها الفن، كعادته، حين يتحقق بمحاكاة الواقع، أو ربما، ما يتعدى فعل المحاكاة للمطابقة، الاقتباس، نجدها في رواية “العلاج السري”، الصادرة حديثاً عن دار “ريشة” للكاتب والصحفي معتز نادي، حيث يتحقق النص وفضاؤه الدلالي بمطابقة الواقع، ومحاولة ممارسة ما يشبه فعل التأريخ متخطيًا، حتى، مفهوم الإسقاط والرمز، معتنقًا ما يناسب واقعا موحشا لا يتناسب معه إلا المطابقة والتأريخ للعصر.

هنا نص يحتفي بالكتابة السينمائية، يحاكي، بتواز لمحاكاته الدلالية للواقع، السيناريو، فيجعل من تعريف البنية الروائية لذلك النص، العلاج السري، طرحًا لبنية السيناريو؛ فالسينمائية لا تقتصر بذلك النص على ممارسة المشهدية، فقط، بل تتخطى ذلك، لتصبح محاكاة روائية للسيناريو، محاكاة تعتنق، أيضًا، البنية القصصية بتكثيفها المعتاد، ليس تبنيًا للبنية القصصية، بالأساس، بقدر ما هو تبني للإيقاع السينمائي السريع، المكثف بالضرورة، فيسرق الكاتب معتز نادي شخوص روايته الصادرة حديثًا حكاياتهم، يضعهم بالبنية الدرامية مباشرةً، معبرًا بذلك عن أحد أسس البنية الدلالية لذلك النص، حيث شخوص بلا هوية، كل ما يشغلها هو الرواج الافتراضي دون جدوى أو أساس، أيضًا، النص، كونه تأريخًا موازيًا للعصر، يحتفي بسرعة الايقاع كمحاكاة للعصر، وبالأحداث التي تمثل فضاءات مكانية محددة بعينها، تماماً كالمسرح والسيناريو، الذين يمثلوا البنية الروائية للنص.

تلك الشخوص، على تباينها، تمثل بعيدًا واحداً هو ذاته بناء النص، حيث الواقع والتأريخ له بمحاكاته بواقع موازي مستقبلي. تنطلق المحكية، السينمائية سرديًا، بالأساس، من صالح الصحفي، الذي يبدو، ضمنياً، ضجر من الواقع، والمتتبع لمروية تؤاخي مهنته كصحفي، يتتبع الواقع كما رواه الراوي العليم، الذي ينظر للأحداث الكبرى للمحكية رائيًا منها البعد الهامشي  لها، الهامش غير المروي، حيث الحيوان المنهوبة بفعل العصر وما يفعله، والمتلقين المشابهين بشدة للمركز، جميعهم في عصر واحد يبحثون عن الرواج الافتراضي، ذلك الصحفي يتتبع انتشار العديد من النظريات حول مرض ما، لا يذكره النص مؤكدا رمزه؛ فالمرض هو ذاته العصر وما يجري به في المروية، فيطرح الكاتب تأكيدًا لرمزية محكيته ومرضها بأحد المقاطع السردية بالنص:” يعتقد أن العلاج السري الذي يحتاجه العالم أو بالأحرى محيطه الذي يعيش فيه هو إعطاء الأمر لأهله من المتخصصين دون المحاسيب أو معدومي الموهبة أو أنصاف الشخصيات التي لا تجيد سوى التطبيل، وأثرها السلبي يظهر مع مرور الوقت، فهي تغرق سفينة النجاة بفشلها، ولا تدرك عواقب كارثتها إلا بعد فوات الأوان.”

في بالبداية يلحف العشق ذلك التتبع للعلاج، فيقدم أحد المذيعين المشهورين حلا وهميا استوحاه من حبيبة قابلها لمرة وحيدة، ولما أحدثه ذلك اللقاء، الذي طرح به نظريته للعلاج، التي هي ذاتها رؤية النص لمفهوم الحب ببعد دلالي والتعبير عن العصر في بعد دلالي آخر، تبدأ المنصات الإعلامية تتهافت على ذلك الرواج الوهمي، وهو ما يتابعه النص، منطلقاً من صالح، البطل الأوحد لنص بلا أبطال، وبالضرورة، عصر بلا أبطال.

بذلك النص، يتحقق للكاتب الضمني بعد ساخر يؤسس للبنية الروائية للنص، يتحول لطبقة سردية منفصلة هي ذاتها الصوت الضمني الساخر للنص، الصوت المبتعث، بالأغلب، من مونولوجات حوارية سينمائية يطرحها الراوي العليم مغطيًا الأحداث المركزية للنص والعصر ببناء سينمائي يحاكي السيناريو، وبشغف صحفي عند الكاتب الضمني، مقدمًا بتلك السخرية الفضاء الدلالي للنص، ومقدما عزاء للوقائع الهامشية، التي لا يرويها النص مقتبسا أحد سمات العصر.. ذلك البعد الساخر يتحقق بتحقق محاكاة الواقع، فيصبح الواقع ذاته مرجعاً لذلك الحس الساخر، الذي يجتر فضاءً دلاليا يبتعث بالأساس من مفهوم الرواج الوهمي، ليقدم رؤية لمفاهيم والسلطة والهوية والعشق والرأسمالية الأمريكية وثنائية الشرق/الغرب، تلك الثنائية التي تضفر إعادة بناء رؤية سياسية للواقع الغربي وتلك الثنائية الممتدة، الشرق/الغرب، ومنطلقا منها لثنائية أشد عمومية هي الهامش/المركز، طارحًا الفن سمة بنية النص، التأريخ المتخيل، الذي هو حيلة أخيرة للفن لممارسة التأريخ الواقعي، فيتماهى المتخيل، المستقبلي طبقاً للبنية الدرامية للنص، مع التأريخ الحاضر، تلك، بالضبط، هي الحيلة التي يمارسها النص، وكلمة السر في بنيته.

إعادة رؤية الرأسمالية الأمريكية وعلاقتها بالشرق، وهو ما ينطوي على ثنائية عامة، الهامش/المركز، ينطلق من محكية أقرب للمرويات الشعبية؛ فيحتضن النص الأضحوكة، هكذا يروي محكيته الأقرب للبناء القصصي في توالي الأحداث، حيث يمثل كل حدث تكثيفًا سينمائيًا لأضحوكة وحيدة، فيروي ما يحاكي الأضحوكة عن ابنة رجل هامشي، بالنسبة للعالم، يدعى “أبو وردة السكري”، تخترع ابنته “فلة”، متوالية لإرهاصات اختراعات شخوص النص على مدار مرويات الأضحوكة الكبرى، النص ذاته، علاجًا للمرض يتمثل في خلطة توضع في جهاز يشبه الفرن مع “الكشري”، تتبنى الاختراع السلطات الأمريكية، لكن خلافاً على شرف الابنة بين السفير الأمريكي و”أبو وردة السكري”، حيث يريد السفير فرض سلطته على الابنة، “فلة”، يخلق خلافاً عالمياً، هنا تتحول الأضحوكة، كعادتها وكعادة النص، لترميز يفكك تلك العلاقة الحائرة بين الشرق والغرب، وتعيد بناءها وتقديمها والتأريخ لها، بتأريخ يبدو متخيلًا، تأريخ يصلح، بتلك الكتابة السينمائية، للتحول لعمل بصري.

تماماً، كفعل السخرية واستنطاق الكوميديا باستنطاق الواقع، يمارس النص طرح عبثية بناءه الدرامي وتابعه لوقائع الحدث المركزي، المعلن ككل الأحداث المركزية بالفن والذي يواري وراءه هامشا ضخماً غير مروي إلا في رقع محدودة من النص، تلك العبثية تستنطق الواقع، تصوغه بفعل الحكي البدائي المبسط، كما هو، بلا تجميل، متأثرةً بالسيناريو، حيث الدراما هي البطل، وفقط، وبالتالي العبثية وما تستنطقه هي، أيضًا، البطل وكلمة السر ببنية ذلك النص.

مقالات من نفس القسم