امرأة ومدن خفيّة: عن تجارب اغتراب الشاعرات والانتقال

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هاجر يوسف

كرهت كل شيء في سن صغيرة، شعري، جسدي، مخي الصغير كدجاجة، وكلمة “نعم وحاضر” والمدينة التي أنتمي إليها. طفلة تنحدر من عائلةٍ كبيرةٍ لها نسبٌ ممتد حتى السعودية، متدينون للغاية. ولكن لم يدفعني والدي على العبادة عمدًا ولم أُقبل على الصلاة إلا إذا أردت شيئًا من الله كأن يتركني أبي أُفكّر في الخروج من حدود المدينة مثلًا! أسرة كبيرة العدد، حيث لا وقت لديهم أن يركزوا فيما أقول أو آكل يفترض أن كلٌ مشغولٌ في ذاته، ولكن كان العكس تمامًا كأن يفكرون مكانك من الأساس وكثيرًا كثيرًا يختارون ماذا تأكل وأين تعيش وتجلس. وكأن الأكل يحبسني خلف باب الحمام حتى للتغوط، وكأن التفكير في الانتقال يغلق عليك باب عقلك قبل بوابة المدينة.  حيث أبواب هذه المدينة دائمًا ما تُغلق في هذه السن الصغيرة ولأسبابٍ خفيّة.

كل ما تعرفه والدتي أن القاهرة في القناة الأولى على التلفاز حيث إقامة شعائر خطبة الجمعة من مسجد المشير طنطاوي من ثم يسافر أبي ليومين عمل ويعود، يحكي لي عن الشِعر والشعراء وأوساطهم الأدبية وعن طبقٍ من حبايب السيدة. كنت أتخيل نفسي أجلس في أحد مقاهي وسط البلد أمسك كتابًا وفي اليد الأخرى فنجال قهوة حرة التعبير والشخصية تمامًا ثم أضحك وأقول إنها مسألة وقت لأخطف نفسي والهرب نحو ما يدعي “القاهرة للأفكار قبل الأعداء“.

كنت أرقص فعليًا أمام المرآةِ، حول جسدي، داخل جسدي وخارجه، لأكوّن أكبر كمية شعر يمكنني أخذها في السَّفر كأنها خزين للمطبخ، كنت كالبالرينا أرقص على قدمٍ واحدة وأسحب كل ما يتحرك حولي كأنني مكنسة كهربائية وأبلوره لقصائد تُشبه القاهرة. الانتقال من قرية صغيرة إلى قرية أكبر لن يشكل فارقًا سوى انني تركت أهلي في صندوق مقيّد ورقصت على القفل. لذا كانت القاهرة الوجهة الثاقبة.

كنت أتخيل نفسي أشياء كثيرة للهرب، كل أدوات الهرب، كل ظروفه،

تخيلت أنني شنطة يد صغيرة لأم تذهب للسوق وليس لديها حيز من الفراغ يشغلني، كنت أتخيلني عصفور، كنت عندما أخرج للشارع مرة أتخيلني سيارة تسلا لكي لا يطاردني أحد.

كنت أتخيل أنني حالات كثيرة عدا نفسي، لدرجة أنه نشأت غيرة بيني وبين النافذة، بين الفراغ الذي لا يقربه أحد. كنت أقلّد الطيران، أقلّد الزحف، أجرّب القفز فوق كل شيء وحين تحين اللحظة سأنقلب طيرًا جارحًا حيث خطف نفسي والهرب.

رفض والدي كان قاطعا في انتقالي إلى القاهرة، بحجة أنني فتاةٌ وناعمة ويدي تنفلت من حمل أكياس القمامة ولا أقوى على فعل شيء سوى التفنّن في البكاء.

 أرى أمي تحمل المفاتيح، متجهةً نحو الباب، تخرج عادة للسوق بعد المبرر الوحيد لخروجها وهو أبي، الزوج، القامة، والحائط، الذي يستر المرأة ولا اعرف كيف سأقوى على أن أكون مفتاحًا لكالون مدينة. تمنيت أن أكون مفتاحًا بالفعل، أن أنغرس في كالون الباب وأهرب، أن أنكسر ف القفل ويضطروا لتغييره واقع أنا في معدات التصليح القديمة وأهرب من هناك أيضًا، لدرجة أنني تمنّيت أن أكون هواء لامر من ثُقب الباب دون هرب، او عصفور لديه القرار الدائم أن يقف على النافذة ويطير حيثما شاء هذا معنى الحرية ان تفعل ما شئت وقتما تكون قادرًا على فعله ولا تفعله

”رأسي حُر كالطائر  

جسدي مغطى بالملابس،

 ككعكة شيكولاتة

 في حوائط لا عُلبة هدايا

منزلٌ،

 كالحبس الانفرادي

  أنظر لسماء أسمنتية

ومن النافذة التي تطل على العالم،

تنبشني  

أصابع الحُرية

ككومة القشّ

  تلمس أفكاري كالجسد

في ليلٍ خريفي

أكون فيه شمعةً

ولا أجد من يُشعلني“

 

لمسني الشعر كلسعة برد في الثانية عشر، أمسكت الطين وشكلته، خلقت قصيدة طينية، وهرعت نحو الباب أقدّمها لأبي.

قطع الشعر يدي لمدة عشر سنوات ثم عاد ينخر في جسدي كالسكين، وكنت قطعة لحم نيئة. كتبت كثيرًا جدًا، تقطّرت على الأوراق حبرًا لكي أرسم بالكلمات مساحة آمنة للهرب. وعلى غرار الشِعر كان الانتقال هو النسيم وراء الجدار ولم يعد جرحًا واسعًا

 

“الشِعر،

هو الحرية،

 الطيران،

 الطائر،

 الذي يحطّ على كتفك،

 والقطة، التي تأكل عقلك كالتونة دون توقف“

 

مدينة في عقلي فقط أسوارها الشِعر

أحلم شعرًا، آكل شعرًا، أتغوط شعرًا

ألعب بالأوراق، أقص الملابس كالستائر وأضعها على الكراسي واقلبها على شكل بيت وادخله“

 

فكرت طويلًا في المأوى، في البيت، وفي القاهرة كنت أجلس فوق بيوت الشعر وعندما تسقط القافية، أكتب دون كبت.

كانت أمي تهد كل ما أبنيه بالألعاب الافتراضية التي تمثل المنزل والحياة الخاصة، كانت تعدل الكرسي، وتكنس الأرضية وتلملم الورق وتلقيه في القمامة قبل أن آخذ كفايتي من الطمأنينة وتخيل شكل المدينة. لم يكن لعبًا، كانت مشاعري

كل ما ألمسه يغضب أمي، كل ما أفكر به يستنفر منه أبي، فتوجهت للشِعر، ولم تعد قدمي ثابتة على الأرض ودائمًا ما أحلم أنني أطير.

 

تحسستُ قائمة معارفي الالكترونية، عالمي الافتراضي، منصَّة الشعر الحديثة، كنت أكتب وأنا أحلم بالمساحة للكتابة، ومدينة لأستمد منها الإلهام، لتفاصيل كثيرة للكتابة، لمدينة أتفاعل معها وتتفاعل معي كالحبيب. كنت أعيش في بيت ليس لدي فيه مساحة لأكتب، أتسائل إن لم أكن أعرف الشعر، هل كنت سأعرف المساحة؟

تعرفت على الكثير من الأصدقاء، كوّنت روابط قوية، أرى الشاعرات تهاجرن، يمتلكن مكانة في الشعر وفي البلاد، لديهن كتب، لديهن شيئا خاصًا وأنا لا أملك حتى غرفتي وأحلم دائمًا أنني أملك مدينة.

أتت الفكرة من الضيق، من انعدام الخصوصية، من المكان الصغير للمكان الحُر، من القيد العائلي إلى الهجرة الجسدية لمكانٍ آخر كي أعيش وأكتب.

 

”أحسست بالحزن وازداد الأمر سوءًا، ضجيجٌ عالٍ، تيلفزيون، ستة إخوه، ومنضدة وقلمي ينام هناك. ذهبت لأبي أشكوه ضجري، “بابا أنا مش عارفه اكتب، صوتكوا بيقطع حبل أفكاري بسكينة تالمة”. “ضحك وكان رده، هي دي حياتنا“

 لم أجد فرصة أفضل من هذه لكي أفاتحه في موضوع الانتقال، انتفض من مكانه لمجرد الحديث، وأخبرني أن أكمل غسيل الصحون لكي أساعد أمي. بعد يوم شاق وطويل وضعت رأسي على الوسادة ونظرت للسقف اقلّب صفحاته البيضاء دون كتابة عقلية على غير العادة.

 

بعد عدة أيام شعرت أن الجو تحول لبراد كهربائي، ولم أعد أنسجم مع وجود الأشياء من حولي، ولم أتقبل الشعر مثلما أتقبل حرارة الجو، وكيف يمكن للرفض والسلطة الأبوية أن تعمل في نطاقها الصغير هذا وما الأوراق الرسمية التي تزرع في الأشخاص الاستحقاقية في إعطاء موافقتهم للآخرين حتى لو كانوا أبنائهم؟ وماذا يعني ان الكائن البشري الحر ملكية خاصة لأحدهم أو إحداهن؟ وكيف لا ينبت للشِّعر أجنحةٌ في هذه الأوقات؟

تقبلتُ الأيام الهائلة كجزءٍ من شخصيتي، وقاطعت أهلي كوجبة غير صحية واشتريت شرائط فارغة وصرت أسجل ما أكتب بكراهية لتقليل الجودة السيئة للأيام.

لم أستوعب كيف يمكن أن أظل طيلة حياتي في مدينة واحدة، وأنا لدي حذائين؟ وأحلم برأسين؟ ماذا يعرف أبي عن المسافة والاستقلال وعزلة النفس وكتابة ما تشعر وأكل ما تكتب ومن ثم تغوطه؟ ماذا يعرف أبي عن عملية الكتابة ومراحلها وطقوسها؟ أما عن أمي ، أفقدتني الأمل تمامًا

فأصبحت أنظر لها كالسمين الضار وإلى أبي كالحساء المالح الذي يمكن إصلاحه بعصرة ليمونة.

بعد أربع سنوات متواصلة من الدراسة، أيام هائلة وتقلبات مزاجية صغيرة وأهداف مشتتة ومجال عمل لا أطيقه وبعد سنوات أدرس وأكتب أدرس وأكتب أدرس وأكتب،

وقفت لأبي كقصيدة نثر وسط ديوان مقفى، كخناقة بين شعراء الوزن والقافية أمام النثر، كنت أترجاه كأنه آخر يوم في العمر للمحاولة، أريد أن أسافر لمكان مفتوح، مساحة عريضة للتفكير والمحاولة، أريد حياتي يا أبي، ظل يرفض مرارًا وتكرارًا وينظر ليدي التي ترتعش وأنا أمسك القلم ماذا ستفعل في شوارع القاهرة؟ وبعد كتابة أول ديوان تركني أبي أذهب كاعترافٍ واضحٍ بنثريتي وسط الشِعر.

 

 

 

مقالات من نفس القسم