محمد جبريل
فتوات الإسكندرية جزء من ماضيها القريب، آخر أيامهم عقب الحرب العالمية الثانية، الأبو أحمدات هم الذين ينتسبون إلى المدينة، فتوتهم شطارة وجدعنة، وإغاثة للملهوف، وعمليات اقتحام لمعسكرات الإنجليز فى رأس التين ومصطفى كامل وكوم الدكة.
ثمة فتوات آخرون، قدموا إلى المدينة من حيث لا يعرف أبناؤها، فرضوا العنف والقسوة،ـ فلم يسلم من أذاهم أحد.
كان الأطفال يعبرون عن الغضب الذى يصخب فى نفوس آبائهم، فيقذفون الحجارة وما يصل إلى أيديهم على مواكب الفتوات، وهم ينطلقون فى طريق الكورنيش بالكارتة، أو البنز.
يعطى الفتوة أوامره إلى أعوانه، فيهاجمون البيوت والدكاكين والقهاوى وشاطئ البحر، ربما دخلوا المساجد، لا ينسحبون إلا بعد أن يتركوا تأثيرات مدمرة.
كانت تدخلات البوليس محدودة، تمنعها من تأديب الفتوات، ومحاولة إخراجهم من المدينة، عمالتهم للجاليات الأجنبية، ولجيش الاحتلال الإنجليزى بخاصة.
يومًا، قرر الضابط الشاب مدحت هنو أن يهمل كل الاعتبارات، ويكسر شوكة الفتوات، وكانت المساعدة التى لقيها من أهل الحى عاملًا فى إخلاء الإسكندرية من الفتوات تمامًا.
“الأسوار”، أولى كتاباتى عن عالم الفتوات. بيومى الدكر الذى غاظه تسبب سيارة المحافظ فى توقف المرور. مضى ناحية السيارة، مد يده من النافذة الخلفية، وكبس طربوش المحافظ على رأسه. جريمة وقت الطوارئ، دفع ثمنها الإقامة – سنوات طويلة – داخل المعتقل.
لما تنقلت نظرة الملازم أول مدحت هنو بين كفه والأعين المحيطة، عرف أن الغضب دفعه إلى ما لم يتدبره، لكن الصفعة على خد الفتوة الشيباوى كأنها ضغطة الزر للتخلى عن التردد والتوقع والخوف من السمعة الباطشة، يتنقل بها الشيباوى فى أحياء الإسكندرية. أودعوا قبضاتهم وركلاتهم ما اختزنوه من خوف عن حكايات البدن المسكون بالمردة والعفاريت.
ربما لو أن أبى رفض إلحاحى بالوقوف – ذلك الصباح – فى البلكونة المطلة على ميدان “الخمس فوانيس”، ما كنت سألت عن الدنيا العجيبة التى لم أكن أعرفها، ولا عن الأسماء التى ذكرها أبى للمرة الأولى.
حين بدأت فى كتابة “رباعية بحري” حاولت أن أقدم عالم الفتوات، تعرفت إليه من خلال روايات قديمة لأبى، وقريبة لأبناء بحرى الذين عاشوا الفترة حوالى الحرب العالمية الثانية. وكان فتوات نجيب محفوظ دافعًا لأن أكتب عن فتوات الإسكندرية، رغم اختلاف المكان والزمان، وطبيعة الشخصيات، ومهنهم أيضًا.
“الفتونة” هى العمل الوحيد الذى مارسه فتوات نجيب محفوظ. عاشوا على البلطجة، وفرض الإتاوات، وافتعال المشاجرات، وخوضها لحساب الآخرين، فى حين كان لغالبية فتوات الإسكندرية مهنهم التى تكسّبوا منها، أما الفتونة فلم تكن سوى هواية، وسيلة لإثبات الشهامة والنخوة والمروءة والجدعنة. إن مارس الفتوة البلطجة زالت عنه صفة الفتوة.
عمل فتوات نجيب محفوظ فى غيبة من السلطة، شغلهم الهـرب والتخفى واللواذ بالأماكن النائية. أما فتوات الإسكندرية فقد كان تحدى السلطة حرصهم الأول. وكانت مشاجراتهم فى الساحات والميادين وعلى القهاوى، وأعلنوا الاحتقار لمن جعل الفتونة مهنته. كان أبلغ ما يعتز به حميدو فارس – مثلًا – ورواه الذين فوجئوا بالمشهـد، أنه كبس طربوش المحافظ على رأسه، لسبب تصور أنه يمس كرامته.
روى لى أبى، كذلك، الكثير عن فتوات الإسكندرية. غالبيتهم – أو أكثرهم شهرة – من بحرى، حيث قضيت طفولتى وصباي: حميدو فارس وأبو خطوة والسكران ومحمد الأحمر وسلامة سالبو وكوته وعفيفى القرد وإسماعيل سيد أحمد، وغيرهم ممن تغيرت – بغيابهم فى أعقاب الحرب العالمية الثانية – صورة الحياة فى الإسكندرية، وفى أحيائها الوطنية بخاصة.
تملكتنى الفكرة: أن أعرض لتلك الفترة التى خضعت فيها الإسكندرية لسطوة الفتوات.
عرفت من أبى ما كنت أجهله من ماضى الفتوات: الأغنيات تردد أسماء حميدو فارس وأبو خطوة والسكران والنجرو، وغيرهم من فتوات الأحياء، جعلوا للفتونة معناها واعتبارها. يجمعهم الفهم، والمصارحة، والصداقة، ورفض البلطجة والاعتداء بلا سبب. طرأ – لظروف الحرب – ما بدل النفوس، لم يعمل الفتوات لمصلحة أنفسهم، إنما عملوا ضد قواعد الإنجليز فى الميناء، ومصطفى باشا (مصطفى كامل)، بذلوا لذلك قواهم، وصبيانهم، وما يملكون.
ما عرفته من أيام الفتوات على “جوجل” لم يضف إلى ما عرفته من أبى وأصدقائه، وما التقطته من كلمات المترددين على المساجد والقهاوى وقعدات السمر. ربما لأن تلك الأيام لم تعرف الإنستجرام والفيس بوك والواتس أب وتويتر والماسنجر والتيك توك، وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة.
امتلأت غرفتى المطلة على شارع إسماعيل صبرى، بالكتب المؤرخة لفترة حوالى الحرب العالمية الثانية، والصحف القديمة، والأسطوانات، والأفلام التى تعيد رواية الأحداث. أبحث فى دوائر المعارف والقواميس والدوريات والإنترنت. أصنّف الجرائد والمجلات والوثائق والملفات، أدقق فى القوانين والمراسيم والبلاغات ومحاضر البوليس والتقارير السرية وعرائض الدفاع، ونفى التهم، والتماس العفو، أو تخفيف الأحكام، وعقود الملكية وأحكام المواريث وملفات القضايا. أسجل التواريخ. الوثائق الحكومية لا تكذب. إنها مراسيم وقوانين وأحكام وقرارات. ما حدث بالفعل، لاتختلق مكذوبًا، ولا واقعًا من الخيال.
اشتريت من شارع صفية زغلول عدسة مكبرة لقراءة الخطوط الدقيقة، والباهتة. حاولت أن أختزن فى ذهنى ما أقرؤه. أستعيد ما قرأته من حكايات العيارين والشطار فى الأزمنة القديمة: الظاهر بيبرس وعلى الزيبق وحجاج الخضرى وابن عروس، ومن سير الفتوات فى الزمن القريب. قرأت تحقيقات فى الأهرام والمصرى والمقطم والنبراس ومصر والبروجريه إجبسيان والإجبشيان جازيت والهلال والمصور واللطائف المصورة والاثنين والدنيا ومسامرات الجيب. تفحصت صور الفتوات، ملامحهم، أمارات الشر فى أعينهم، ماذا كانوا يرتدون. أهملت النصيحة بأن الصحف المحلية للإعلان، وليست للتغطية الإخبارية. البصير والسفير والسوادى والعهد الجديد خلت من أخبار الفتوات. لعلها خافت العقاب. أعرف أنها لا تطالع قراء حقيقيين، لكن الأمل ناوشنى فى أن أقرأ تحقيقًا سربته المصادفة عن تراجم الفتوات. ربما وجدت فى خبر صغير، أسفل صفحة داخلية، أسطرًا قليلة تدلنى على حقائق غائبة، زمن بكامله من محاولات السيطرة والصراع والعراك. ما أنهى قراءته من الصحف، أكدسه فى كومة لصق الحائط.
بدت الإحاطة بالسيرة الحقيقية لفتوة ما مطلبًا صعبًا. تعددت الروايات فى تحقيقات الصحف، كل رواية تختلف إلى حد التضاد. تقصر الفتوة على البطولة، أو تنسبه إلى الجريمة. سبق إلى ذلك روايات خارج الإسكندرية: ابن عروس من المطاريد، لكن الحكمة تنطق فى رباعياته. نزعت عن أدهم الشرقاوى صفة الإجرام، فهو بطل قاوم الظلم، حتى ابن بمبة، الاسم الحقيقى لبطل روايتي” بوح الأسرار”. طال احترافه الشر، قبل أن يجتذبه الخير، وتتبدّل صورته فى وجدان الناس، يتحول – فى النهاية – إلى ولى، يتردد الناس على ضريحه، طلبًا للشفاعة والمدد.
أزمعت ألّا تقتصر دراستى أيام الفتوات على ما فى الأوراق. أردفت بها محاولات للتعرف إلى ما كان فى مواضعه. تكتمل الصورة بالرؤية والأسئلة والتخيل.
زرت أمكنة المعارك: ميدان، ساحة، خلاء، رصيف قهوة، داخل بار. أخلى لذهنى تصوراته بما جرى. ترددت على القهاوى فى بحرى والعطارين والقبارى والورديان والدخيلة والمكس وكرموز وراغب والباب الجديد وكوم الشقافة وكوم الدكة والحضرة ومحرم بك والشاطبى وكامب شيزار والإبراهيمية وسيدى بشر والسيوف والعوايد والعصافرة والعامرية والمنتزه وأبو قير. أسجل – بعد عودتى إلى البيت – ما أصغيت إليه من حكايات الفتوات. أراجع تعدد الروايات، أنفى ما يصعب تصديقه، وأنه وليد مخيلة الراوى، ما يبدو استطرادًا بلا معنى، أو ثرثرة. أتأمل المعلومات التى تعيننى على فهم ما جرى. أدقق، أفصل بين ما يسهل قبوله، وما أرجعه إلى سذاجة الحكى. أريد حقيقة الأشخاص والمواقف. أستكمل – بالقراءة والمراجعة – ما غاب عن الذاكرة من الأحداث. ربما لجأت إلى المخيلة فى ربط الحدث بما سبقه ولحقه، تصبح الصورة بلا تشوش يصعّب من قراءتها. مع ذلك فإن الواقع – فى تصورى – أشد واقعية من الخيال، ما حفلت به الحياة الحقيقية للفتوات ينفى الحاجة إلى الخيال.
عدت إلى البيت – ليلة – وفى يدى ثروة مهمة: مجلد عام 1939 من مجلة “المصور”، تناثرت فى صفحاته مقالات وتحقيقات وأخبار عن فتوات العصر: فؤاد الشامى، عرابى، الصيرفى، إبراهيم عطية، أحمد الطباخة، حسن الأسود، أبو طاجن، أحمد منصور، حافظ الهوارى، حسن جاموس، عفيفى القرد، أحمد الخشاب، حنفى حلوف، حسن الخشن، إبراهيم كروم، مرجان السقا، فرج الزينى، عبده الجياشى. عدا نسوة مارسن الفتونة: توحة، عزيزة الفحلة، سكسكة أم سيد.
قتل فؤاد الشامى الراقصة امتثال فهمى، فأنهى بفعلته سنى الفتوات فى القاهرة.
الأسماء – فى الإسكندرية – كثيرة: جمعة مخلوف، حميدو فارس، أبو خطوة، السكران، ربيع أبو العزم، شوقى أمان، الشيباوى، عبد المعطى السبعاوى. أدرس الأصول، وبلد النشأة، والفروع الموزعة فى المدن والقرى.
فى روايتى “بوح الأسرار” ظل عبده فرج زهران – بعد قضاء فترة السجن – فتوة لقرية السمارة، الفاصلة بين الدقهلية والشرقية. وكان أدهم الشرقاوى فتوة فى الوجه البحرى، زمن سيطرة الفتوات على أحياء القاهرة والإسكندرية. الروايات تصدر عن رغبة فى الفهم، أو إعجاب، أو نفاق، أو رفض. تقترب من الحقيقة، أو تبعد، بقدر المشاعر التى تصدر عنها.
تفحصت – للمرة الأولى – صور شخصيات كنت أتخيلها. استعدت مواقف الفتوات، لغاتهم الجسدية، تعبيراتهم، كلماتهم. تقمصت الشخصية كما تصورتها، مما سمعته أو قرأته. لم أحدد لنفسى منهجًا ولا نوعية قراءة، كل ما يعرض للمساحة الزمنية، أبحث فيه عن الحقيقة، ما حدث بالفعل.
الاختلافات واضحة.
شىء فى داخلى صد الكتابة – لفترة طويلة – عن عبد المعطى السبعاوى. المذكرات، الذكريات، تعرض لأشخاص يسىء إليهم النشر. أجادوا تهميش أدوارهم فلا يلحظها أحد.
ظنى أن السبعاوى لم يكن يحسن القراءة والكتابة. أملى أوراقه على من لا أعرفه، ولا أعرف إن كان قد كتب الكلمات بأمانة التلقى، أم أنه انساق وراء غواية الكلمات.
ربما اخترع – لتجنب المزالق – أحداثاً ليست حقيقية.
تساءلت: هل ما أقرؤه تعبير عن مشاعر السبعاوى الشخصية، عن فهمه لما حدث، أو أن خيال الكاتب الذى أملى عليه الذكريات جاوز الحقيقة.
الوقائع غير متصلة، ولا مرتبة، تشى بعفوية الحكى، ما يتذكره السبعاوى يرويه، كأنها تبقيعات الألوان. يحرص الكاتب على تواصل الحكى، لا تعنيه التكوينات المتداخلة، المتقاربة، المتباعدة، بل تعنيه مشهدية اللوحة.
“التضخيم” هو أبرز ما استوقفنى فى المتابعة. لا أدرى إن كان ذلك ما أراده الفتوة، أم أنها لغة العرضحالجى الذى تضمنت لغته مفردات الشكاوى والالتماسات والإيماءات المهددة.
إذا بدا لى الموقف غريبًا، ويصعب قبوله، فإنى كنت أحاول أن أعبر السنوات، أصل ما أعيشه بصور الماضى، مكانة فتوات الأحياء، تحديهم السلطة، ومن يبادرهم بالعداء، الأمر والإخضاع والكلمة النافذة.
أطلت تأمل اختلاف الروايات بين ما نسب إلى السبعاوى، وما تناثر فى الكتابات والأقوال. عنيت أن أتبين ما وراء الكلمات، إن تحرت الحقيقة، أو اخترعت ما يصعب قبوله. حاولت أن أخضع الواقعة التى تعددت رواياتها لما يسهل تصديقه. تبدو الواقعة غريبة، يصعب تصديقها إن اجتثت من السياق، لكنها تشكل تكوينًا مهمًا فى بانورامية المشهد.
لم أتبين الصدق أو نقيضه فى رواية عويس الشيباوى، لكن الكلمات الصادمة – وهى قليلة – دفعتنى إلى حذفها. لا يخل حذفها بالمعنى.
عشت البيئة: المعتقدات والتقاليد والعادات والشجاعة والخوف والسيطرة والقهر والتحدى والمعارك والتكافل، وما لا حصر له من المشاعر والمواقف التى تصنع توالى الأيام.
***
اعتدت التردد على مكتبة البلدية بشارع منشة، وكليتى الآداب والحقوق بالشاطبى، ومعهد الخدمة الاجتماعية بالرصافة.
أقلب الصحف والدوريات، أقرأ كل ما يتاح لى الاطلاع عليه. استعرت من المكتبة كتبًا تخلو من سير الفتوات، لكنها تعرض وقائع تلامس الجريمة والبطولة والفعل الغاضب.
تأخذنى الأوراق، جريدة، مجلة، محضر بوليس، تستغرقنى قراءتها. أتفحص البيانات والملاحظات والمذكرات والتحقيقات الصحفية. أعود إليها بالمراجعة والتدقيق، لا أفلت الهوامش وما بين الأقواس. لعلى أجد فى الهوامش ما يدل على جوانب مجهولة أهملها المتن. لا أضيق بكثرة الإحالات والإشارات والإيماءات إلى ما قد يسهل تجاوزه، حتى الرسائل التجارية وجدت فيها ما يدل على صلة الشركات بالفتوات، درؤوا الخطر عن منشآتها فى الأوقات الصعبة، حصلوا – بتهديداتهم – على الحقوق التى عجز باعة الأسواق عن تدبيرها. الظاهرة التى يسهل تبينها فى خطوط تلك الفترة، أنها كتبت بخط الرقعة. تتشابه فى دقتها وجمالها، كأنها جرت بقلم واحد. القليل مما قرأت صعبت قراءته لرداءة خطه، أو للجمل الناقصة، وغير المترابطة.
أسجل – فى نوتتى – كل ما يتصل بفتوات الإسكندرية، البداية والأسماء والمعارك حتى صارت أيامهم من الماضى. أصل التاريخ المكتوب بما قبل، وما بعد. أسحب كراسة من الحقيبة الجلدية الصغيرة، أخرج من جيب البنطلون قلم رصاص، أخط به تحت العبارات التى تستوقفنى. أجد فى كل معلومة ما قد أحتاجه، فلا أهملها. أقلب الروايات المتعددة فى ذهنى، أحاول تبين أيها أقرب إلى التصديق، ألجأ إلى العدسة المكبّرة لقراءة الأوراق القديمة، شاحبة الأسطر، وسمتها الصفرة بما يصعّب قراءتها.أجلس إلى جوار نافذة مكتبة البلدية المطلة على شارع منشة. أختطف – بنظرات شاردة – حركة المرور فى الشارع الهادئ، وأعود إلى المجلدات أمامى، أقلب صفحاتها، أقرؤها. أتفحص الجداول والإحصاءات والبيانات والأرقام والتواريخ، أعود إليها، أتفحص الكلمات طلبًا للمعنى الغائب.
تنقضى الساعات دون أن أرفع رأسى عن الكتاب، الجريدة، المجلة، الدورية. أنسى حتى أن أحاول تبديل وضعى على الكرسى. اعتدت صوت خشخشة الأوراق، ورائحة الخزائن المغلقة.
سرت فى الميادين والشوارع والحارات والأزقة، جالست من عاشوا أيام الفتوات، ومن جاءهم خبرها. لم أكن من مرتادى القهاوى. حكايات الفتوات حفزتنى للجلوس إلى من عاشوا ذلك الزمن. خالطوهم، شهدوا مشاجراتهم. النوتة الصغيرة فى جيب السترة، أو فى جيب الجاكتة العلوى. أسجل فيها ما ألتقطه من التراجم والسير والحكايات والأمكنة التى شهدت زمن الفتوات. أصغى إلى أغنية كانت ترافق مواكب المناصرة، أتردد على الأماكن التى دارت فيها اللقاءات والمعارك، وعلى الساحات والخلاء والمساجد والقهاوى والغرز وأقسام البوليس. حاولت قراءة ما تغطت به حوائط غرف الحجز بأقسام البوليس من كتابات وأرقام.
عادة أبناء الإسكندرية أنهم يكتبون نعى الراحلين على ورقة مشابهة فى أسطرها لما تنشره صفحات الوفيات بالجرائد اليومية. أراجع قائمة الأقارب والأنسباء والأصهار. ربما لمحت اسمًا سبق لى قراءته فى أيام الفتوات. أزور جامع أبو العباس. ألتقط كتابًا من المكتبة الخشبية الصغيرة إلى جوار المنبر، أسند ظهرى إلى العمود المقابل، وأقرأ. الكتابة على الجدران، ما يستدعيه الخاطر من كلمات وعبارات، تعلق على ما جرى، أو بلا معنى. أكتب الكلمات والتعبيرات كما قرأتها، أو سمعتها.
تجاهلت السؤال الساخر:
– تريد أن تصبح فتوة؟.
الزمن اختلف،
الفتوات من الماضى.
……………………………
- فصل من الرواية الأحدث لمحمد جبريل “بيت الرمل” الصادرة قبل أيام عن الهيئة العامة لقصور الثقافة