“هوامش من دفتر الأنفار”..بيت الأساطير، أو الانهار عندما تحكي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
قراءة في الرواية


تختارُ أميرة بدوي في روايتها (هوامش من دفتر الأنفار) قريةً على النهر، قريبةً من مقامِ الشيخ بليغ. القريةُ مُتَخَيَّلةٌ والمقامُ كذلك، لكنَّ الصبيَّةَ التي أودعتْ أحلامَها في النهر، الناي والقلم والساعة، أعاد النهر لها خلالَ السنواتِ الطويلة التي تقضيها قربَه، هداياه الثمينة، تكريما لحبها وانتظارها، وضع بين يديها حكايةً ترويها. لقد تلقت الرسائلَ المحفوظةَ في قِنانٍ زجاجيةٍ، عشرين زجاجة واحدة بعد الأخرى، تشكل في اجتماعها مخطوط الروايةِ الذي كلفت العديدُ من الرواة لتقديمه للقارئ. إنَّها روايةُ تعدُّدِ اصوات اشتبك فيها السردِ بالميتاسرد؛ جسدٌان نصيان في جسد، هناك زمنٌ يتداخلُ بين الماضي والحاضر والمستقبل، هناك مكانٌ يحتضنُ منذ الأزل الحقولَ ورائحةَ البطاطا المشوية. تعرضُ الراوية فيه المباهجَ الصغيرة والأحزان الكبيرة، الحقائق والأوهام، تفكك فيه الخرافات وآليات عمل السلطة، لكن الصبية او الجدة تترك لنفسها فصلا في البداية، وفصلا في النهاية، بينما المخطوطَ أخذ المساحةَ الأعظمَ من جسدِ النص، إذْ تتركُ الصبيةُ شأنَ الحكي لرواةٍ من زمنٍ بعيد، تمتد سيرتهم من الاعلى الى الاسفل حتى تدرك الزمن الذي تعيشه الصبية، والتي لا تظهرُ مرة اخرى إلا في الصفحاتِ الأخيرة، كي تُخبرَنا أنَّها صارت أمًّا لثلاثةِ أولادٍ ولستةِ أحفاد، وقد وضعتْ بين أيدينا، نحن القراء روايةً هي عبارةٌ عن عشرين رسالةً كتبها شخصٌ اسمه مراد، كان شاهدًا على نشوءِ أُسطورةِ القريةِ التي تعيشُ فيها. ساردا فيها الحوادث الكبيرة التي انتجت تحولات المكان الفكرية والسياسية والاخلاقية.

والحكايةُ المتن، المخطوطُ يروي قصةَ أبناءِ النيمباكو، عاداتِهم وطقوسَهم، أساطيرَهم القادمةَ من جبلِ الجرادِ الذي يُحيطُ بهم. حيث احاطت بهم اسطورة مزيفة عن اللعنة، وهي الغطاء الذي استخدمه القائد للهيمنة على مصائر الناس، القضيةَ بشكلٍ أساسٍ تتصدى لتفكيك عقلية السلطة تعرض مظاهر الظلمِ والتزييفِ، وتكشف ما خلف الواجهةِ المقدسةِ، الغطاء الذي يقوم بوظيفة الاستحواذِ على احلام الناس، مصائرِهم وحريتهم، حتى يظهرَ شخصٌ اسمه بليغ ابنُ الباشا، ليقودَ تمردًا على والدِه، ويفكِّكَ الأُسطورةَ ويعيدَ الأرضَ إلى أهلِها بعد تحريرهم من سفينة العبودية المبحرة الى بلاد الباشا.

ويلعبُ المكانُ الدورَ الأساسَ في الرواية، بوصفِه بطلًا وحاضنًا، وخالقًا أيضًا للأساطير. ثمَّ يأتي النهرُ مُعزِّزًا لوجودِ المكانِ الفلاحيِّ أولًا، وراعِيًا لديمومةِ الحقول، لكنَّه الناقلُ كذلك لرسائلِ الأسلاف، والشاهدُ الأمينُ على الحكايةِ الأصليةِ التي تناوبَ على سردِها العديدُ من الرواة، لكي تظهرَ لنا تحت عنوان: هوامش من دفتر الأنهار. وهي نسيجة من الزمن السردي تختلط فيها الفضيلة المكنونة بقيم التمرد على الظلم، وبين آلة السلطة التي تعمل بشكل مستمر على صناعة الحكايات المزيفة.

واللغةُ في روايةِ أميرة بدوي، ظهرت على مستويينِ أساسيَّين او صوتين سرديين:
الأوَّل، والذي نُسِجَ به الفصلُ الأوَّلُ والثاني، على لسانِ الصبيَّة، اتسم بشعريةٍ عالية، وخِفَّةٍ في السرد، وتوظيفٍ لعناصرِ المكانِ وعاداتِه واغانيه واسراره الصغيرة. المستوى ذاته ظهر مرة اخرى في الصفحاتِ الأخيرة، على لسانِ الراويةِ نفسها، لكنْ بعدَ زمنٍ طويل، الصبية التي كَبُرتْ وصارتْ جدَّةً، فكان ظهورُها خاطفًا مثل تلويحةَ وداعٍ للقارئ، لتُخبرَه فقط أنَّ رسائلَ مراد التي رماها في البحر، هي الجسدُ المتناثرُ الذي لملمتْهُ وأعادتْهُ لنا على شكلِ رواية.

المستوى الثاني من اللغةِ هو الذي ملأ مساحةَ المخطوط؛ حيث تخلَّتْ فيه الراويةُ عن النبرة الشعرية، والشجن، والبهجة النقية للفلاحين، وانشغلتْ بسردِ الحكايةِ القاسية، المتوتِّرة، المشحونةِ بلغةِ الأُسطورةِ أو اللعنة. حكاية السلطة والصراع، القادة والجنود والرصاص والمؤامرات.
الروايةُ جميلة، ممتعة، ومشحونةٌ بالاستعاراتِ والرموز، كشفت عن حزمة من القيمِ، التحررِ من العبودية، النُبْلِ الذي تتسم به سيرة البطلِ التراجيدي. لكن القيمة الاسمى منحتِها الكاتبة للأرضَ بوصفِها نبعًا تتدفَّقُ منه الأساطيرُ المُؤَسِّسةُ لطريقةِ تفكيرِ العقلِ الجمعي، في الريفِ خاصَّة، والذي تمتزجُ صورتُهُ بصورةِ النهر. حارس الحقول والأغاني الخضراء

مقالات من نفس القسم