أفين حمو
هناك روايات لا تكتفي بقراءتها، بل تعيشها، تفتح جروحًا قديمة أو تخلق ندوبًا في الذاكرة. سنوات النمش للكاتب وحيد طويلة من تلك الروايات، لا لأن أحداثها صادمة، بل لأنها تحفر عميقًا في النفس، مستكشفة طبقات الوعي واللاوعي، حيث يتداخل الألم مع الفهم، والماضي مع الحاضر.
يكتب وحيد الطويلة عن عالم يتسلل إلى الطفل عبر الألم، عبر الصمت الثقيل وعبر العيون التي تخفي ما لا يُقال، يميل إلى التكثيف، إلى رسم المشهد بعبارات قصيرة لكنها ممتلئة بالشحن العاطفي.
يقول السارد في لحظة مواجهة مع الأب: “رأيت أبي يقف في منتصف الغرفة، لم يكن غاضبًا، لكن صمته كان أبلغ من أي صوت. كنت أعرف أنني أخطأت، لكنني لم أفهم تمامًا كيف ولماذا. كنتُ أريد فقط أن أتحرر من تلك اليد الثقيلة التي تحكم قبضتها على عالمي.“
هذا النوع من السرد، الذي يدمج الرهبة الطفولية مع الحيرة الوجودية، هو ما يمنح الرواية قوتها. لا يسعى الكاتب إلى تأريخ لحظات الطفولة ببراءة مصطنعة، بل يكشف عن ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل الحب عن الخوف، الأمان عن القسوة، والفهم عن الجهل.
كما في مذكرات القبو لدوستويفسكي، حيث يغوص البطل في وعيه الداخلي، يقف السارد هنا أمام طفولته كميدان صراع، لا كذكرى. الزمن في الرواية ليس خطيًا، بل حلقة دائرية تعيد إنتاج الألم بطرق مختلفة، وتجعل القارئ يتساءل: هل نحن من نصنع الزمن أم أن الزمن هو الذي يصنعنا؟
في سنوات النمش يشعر القارئ وكأنه يغرق في عالم لا حدود له، تتداخل فيه اللحظات كصور قديمة تتناثر على صفحات حياة أبطاله، في محاولة غير مباشرة للبحث عن معنى في هذا الزمن المتقلّب.
يمسك الكاتب بأيدينا ويأخذنا معه في أولى خطواته، حيث لم يكن الطفل في الرواية يعرف أن النمش ليس عيبًا، وأن الحصار الذي ضاق به ليس سوى ظلّ الأبوة الثقيلة. لم يكن يدرك أن اللعبة التي يلهث نحوها في الخارج قد تكلّفه عقابًا يمتدّ كذكرى طويلة في جسده. لكنه عرف لاحقًا أن للمنزل قوانينه، وللعائلة شيفراتها التي لا يفكّها سوى من ورثوا الخوف كعلامة على جباههم.
على الضفة الأخرى، كانت الجدة تدير حياتها، تشعل الراديو في عتمة الريح، تسمع للأغاني ولأغاني الأيام التي لم ترحمها، وللأبناء الذين رحلوا دون أن تفسد فرحتهم بدموعها. لم يكن الراديو مجرد صوت، ولا أصوات المغنين الذين يجلسون تحت شباكها أصواتًا عابرة، بل كان بابًا سريًا يفتح على زمنٍ لم يكن يشبهها، ولم تكن تجرؤ على العبور إليه.
أما نساء العائلة، فكنَّ مقيدات بقصص لم يخترن كتابتها. أسماؤهن تندرج في السجلات بقرارات غير مرئية، تُحسم مصائرهن في اجتماعات لا يُسمح لهنّ بحضورها. يخرجن من بيت إلى آخر كأنهن أوراق تذروها الرياح. تتغير الأسماء، تتكرر الحكايات، ويبقى الوجه الواحد للحزن هو سيد كل المرايا. فيسرد طويلة عن عمته قائلا: “لم تكن حياة عمتي فريال مع عبد القوي، ابن عمها الصدر الأعظم أو الحرامي الأعظم، هانئة بمليم. صراع بين قوتين، واحدة باطشة وواحدة مقاومة. يخرج دون إنذار في أنصاف الليالي، لا تعرف متى سيعود، يغيب بالأيام. حرامي مناضل دفاعًا عن شنبه وعن شنب العائلة كما يعتقد، وحين يعود، تكون الليلة أشد ظلمة من قرن الخروب…“
وسط ذلك كله، كان الرجال يخطّون على الجدران أسماءهم، يتوارثون مفاتيح القرار، ويمضون كأنهم أبديون. لا يتساءلون عمّن رحل دون وداع، ولا عمن بقي يحمل على ظهره إرثًا من أوامر لم يُراجعها أحد. يُقال إنهم يحكمون العائلة، لكن من يحكم ظلالهم التي تملأ المكان؟
شخصيات وحيد الطويلة ليست مجرد أسماء على الورق، بل هي تمثيلات حية لما يعيشه كل واحد منا، بين حبٍ ضائع، وخيبات أمل، وأحلامٍ تتسلل بصمت إلى داخل قلوبنا رغمًا عنا.
البيئة في الرواية تلعب دورًا بالغ الأهمية في رسم الصورة النفسية والتاريخية التي تحيط بالشخصيات. ليست مجرد خلفية جامدة للأحداث، بل هي عنصر حي يتنفس مع الشخصية الرئيسية، ويعكس التغيرات التي تطرأ على المجتمع.
“كان يعتقد أنه الزناتي خليفة في زمانه، وأنه يخرج كل يوم بحثًا عن دياب ابن غانم القديم والجديد. ولا بد أنها تراه هكذا مهما لطشها أو كان قاسيًا، فالقسوة زيت الحياة عنده، هي ماء اللصوص الأفاضل، أولاد الليل.“
وربما كان الزمن هو أبرز عناصر الرواية، حيث يصبح معبراً لما يتساقط من الذكريات ويغيب وراء الأفق. ليس الزمن في سنوات النمش مجرد مرور لحظات، بل هو متاهة ترتبط بالألم والأمل.
وأنت تقرأ، تتساءل: هل الزمن هو الذي ينسج لنا تجاربنا أم نحن من نصنعه؟ وفي قلب هذه الأسئلة، تتكثف المشاعر، وتصبح الحياة رحلة تبحث عن إجابة غير مرئية، تحت وطأة تكرار اللحظات التي تتشابه بشكل غريب مع بعضها البعض.
اللغة في سنوات النمش ليست مجرد أداة للسرد؛ هي الوسيلة التي تتنقل بها المشاعر والأفكار داخل الرواية، وتحمل بين طياتها العديد من الرموز والإيحاءات التي تنكشف تدريجيًا.
يستخدم وحيد طويلة لغة شفافة لكنها محملة بالمعاني العميقة، ينتقل بها بين الواقع والذكريات، ليخلق بذلك توازنًا دقيقًا بين الوصف الصريح والرمزية الخفية. لا يقدم الكاتب حلًا مباشرًا، بل يترك للقارئ مساحة للتأويل والتفسير، وكأنه يدعونا إلى قراءة ما بين السطور.
سنوات النمش رواية مفتوحة على الاحتمالات، تغيب عنها الإجابات الواضحة، تاركة القارئ في حالة من الغموض المكثف. كما لو أن الكاتب يقول لنا:
“ستظل الأسئلة ترافقك، ولكن تذكر أن الحياة هي البحث عن هذه الأسئلة، وليس بالضرورة العثور على إجاباتها.“
ربما لا نجد نهاية جالبة للراحة، ولكننا نجد أنفسنا وسط تيارٍ من الأسئلة التي لا تكف عن التردد في عقولنا. ما بين الواقع والخيال، تصبح النهاية مجرد بداية جديدة لفهم أعمق.
سنوات النمش ليست مجرد رواية تروي حياة أشخاص على هامش الزمن، بل هي رحلة إلى أعماق النفس البشرية، محاولة لكشف المستور، والبحث المستمر عن المعنى في فوضى الحياة. ومع وحيد طويلة، نكتشف أن الإنسان، مهما تأثر بتجارب الماضي، سيظل يحمل في قلبه رموزًا تجدد الأمل في كل لحظة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية