محمود عبد الدايم
«أنا أكتب.. فقط».. جملة بسيطة استطاع أن يؤسس بها الروائي القدير عادل عصمت مسيرته في دُنيا الكتابة، لا يشغل باله كثيرًا بما يأتي بعد ذلك، يتعامل مع الكتابة وكأنها «مهمته المقدسة»، وهي بالفعل كذلك بالنسبة إليه، يعطيها كثيرًا، وبالمقابل يعترف أنها أنقذته أكثر وأكثر، يعاملها بـ «صبر الأب»، وحكمة «الشقيق الأكبر»، وخبرة «الجد»، فترتد إليه صافية لا شية فيها، مانحة إياه خيرها كله.
«في نهاية الزمان»، عمل روائي جديد لصاحب «صوت الغراب»، و«مخاوف نهاية العمر» و«الوصايا»، تزينت به أرفف دار «الكتب خان» للنشر في النسخة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وكان «عادل» حاضرًا إلى جوارها، سعيدًا بـ «تعليق عابر» من قارئة إندونيسية أخبرته أن تواظب على قراءة منجزه الأدبي، فرحًا بـشابٍ طلب منه كتابة «إهداء» لـ «خطيبته» التي حرمها «دور برد» من لقاء كاتبها المفضل، ومندهشًا من «أب» لم يجد حرجًا من تلبية رغبة ابنته طالبة «الصيدلة» التي حالت امتحاناتها دون اقتناء رواية «أ. عادل» الجديدة.
«نخطاى»، العالم الذي شيده «عادل» في روايته الجديدة.. أصل الكون و«صاحبة الحكاية».. الأرض التي انحسرت عنها المياه معلنة «بداية الحياة» لتنبت على سطحها أشجار عالية، جذبت أغصانها الطيور من كل نوع، وخرجت الحيوانات من القواقع الهائلة، وتعلن التماسيح سيطرتها على البحيرات، لينزوي كل هذا مع جفاف الأرض وتكاثر النخيل وقدوم نفر من الوادي اختاروا بقعة مرتفعة وأقاموا بيوتهم عليها.. البقعة المنحوسة التي كانوا يظنون أن العالم ينتهي عندها بعدما فشلت أعينهم في الوصول إلى ما وراء أشجار النخيل، غير أنهم ما أن تجاوزت أبصارهم هذا الحد، أصبحت «نخطاى» قرية آخرى غير التي نبتت من العدم.
«في نهاية الزمان»، تدرك من صفحاتها الأولى أنها «مغامرة» جديدة لصاحبها، وإن كانت «مغامرة محسوبة»، فـ «عادل» الكاتب الكبير، يعرف أن يضع قلمه، مثلما اعتاد أن يضع قدمه على أرض ثابتة، واثقة و«عفية»، لا سيما وأنه واحد من أبرع الروائيين المصريين، وإن شئنا الدقة العرب، الذين يتقنون «حرفة الكتابة» ويستمتعون بـ «مسألة الخلق»، ولهذا كتب لنا عن «نخطاى»، وشيخها «المهدي» ومثقفها «سامي العفيفي»، ولم ينس أن يبدع في تقديم «الحاجة نفيسة» و«سمية» إلينا ونحت «عبده الجن»، ولم يفته أن يمنحها «شيخها» و«صاحب الضريح»، عبد العال السطوحي.
القرية.. مكان «عادل» المفضل، ساحة معاركه التي ربحها جميعها بـ «الضربة القاضية»، فهو واحد من أبنائها ومن أكثر المخلصين لتعاليمها وتقاليدها، والحزانى على التقلبات التي حدثت لها بمرور الأيام، حيث يقول : «في نهاية الزمان تعقدت الحياة في نخطاى. اتسعت البلد وعمرتها بيوت بالطوب الأحمر والمسلح، وانتقل مركزها من السوق القديم حول جامع عبد العال السطوحي إلى الزراعية. فتحت أكشاك حول ملعب كرة القدم ومكتب البريد القديم. أصبح الصراع على كل شيء، من أول ري الأراضي حتى قش السطوح، وتحولت الخلافات الصغيرة إلى عراك. انفتحت شهوة الناس إلى الامتلاك فتلاعبوا في العقود القديمة وأخذت بصمات أصابع شخص ميت على شروط قسمة أرض لم يعرف عنها شيئا. انتشرت قضايا خلافات على ميرات وقتل ومخدرات. انفجرت معارك وامتدت عداوات بسبب هدم البيوت القديمة وبناء بيوت جديدة».
صاحب «في جنازة السيدة البيضاء»، و«حالات ريم»، يمنحنا في روايته الجديدة، حضورًا طاغيًا ومغايرًا للمرأة، وهو حضور كلله بـ «إهداء.. إلى أمي»، قبل أن يورطنا في نساء «في نهاية الزمان»، بدءً من «سمية».. القصيدة التي لم عاني «سامي العفيفي» في كتابتها وإخراجها كما يجب أن تكون، «سمية» التي بُعثت مجددًا وهي على قيد الحياة، بعدما فشلت في تنفيذ تهديدها بـ «إحراق نفسها» لو تزوجت الرجل الذي لم تحبه، ليأتي الطفل الصغير ويعيد إليها ضحكتها لتتكشف الطريقة السرية للطبيعة التي أنقذتها بمنحها قدرة على أن تتركز روحها حول الجنين الذي ينمو في أحشائها، وإن كان الحزن ظل حاضرًا على ملامحها، لكنه كان «حزنًا صافيًا».
وأمام «سمية»، كانت «سيدة نخطاى»، نفيسة، صاحبة الحضور القوي في الرواية، والتي قال عنها «عادل»: «عاشت الحاجة نفيسة طويلًا حتى ظن أنها لن تموت، يقولون إن الموت يخاف من أن يدخل من باب دارها. عمرها المديد أقدم من أي مخلوق في البلد»، غير أنها ذاتها التي روى عنها «عبده الجن» آخرى عندما قال «رأيت جمالًا ما رأيته على أحد، ومهابة تحيط بالوجه، فأحببتها ومن لحظتها عرفت أنها لو أمرت أن أرمي نفسي في البحر لفعلت».
«الأسطورة».. أمر آخر لم يغب عن صفحات «في نهاية الزمان»، و«عصمت» حكاء عظيم، ولهذا خرجت أسطورة «أم الجلاجل» من بين يديه متكاملة، ولا أعرف لماذا تملكني شعورًا أن صاحب «ناس وأماكن» قطعًا وهو يكتب هذا الفصل، كتبه بـ «ذاكرة الطفل» المندهشة المتسعة لتصديق كل شيء، ولهذا منحنا أسطورة مغايرة وممتعة في آن معًا، أسطورة أعادتنا سيرتها إلى سنوات كنا نظن أن الذاكرة محتها، و«أم الجلاجل» التي خرجت من رحم «ذاكرة عادل»، هي كائن لم يتمكنوا من تحديد هويته إنسًا أم جانًا، أم خليط من الاثنين، أم «عجينة» من كائن لم تستقر طبيعته بعد، يحمل في تكوينه مجموعة من العناصر والأجناس، وهي التي كانت في ذاكرة أهل «نخطاى» ابنة شيخ الجن التي كانت تريد أن توقف الحياة انتقامًا من أبينها الذي حرمها من أن تكون واحدة من نساء الأرض، تتزوج وتنجب وتعيش مثل باقي البشر، ولهذا كانت تخطف الأطفال الرضع.
أخيرًا.. من يعرفون «عصمت»، حق المعرفة سيكتشفون أن كتابته قريبة الشبه به، إن لم تكن متطابقة ومتماهية معه، فالوجه الهادئ على الدوام، يخفي خلفه آلاف من علامات الاستفهام والتعجب والرغبة في الاستكشاف، وأظن _ وليس كل الظن إثم، أن «عادل» الذي تجاوز الـ 60 من عمره، لا يزال طفلًا، يتعامل مع الحياة من هذه الزواية، لا يأخذها على محمل الجد إلا عندما يكتب، أو يربي أبنائه في في الساعات الي يمنح فيها حفيدته الصغيرة «مرح» غير المشروط، ومتعة ينفرد الأجداد بسر تقديمها «طازجة».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري، والرواية صادرة مؤخرصا عن الكتب خان 2025