محسن يونس.. الأمانة قبل كل شيء

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
تحية للكاتب الكبير

حسام المقدم  

تواصل الأجيال ليس كلمات أو أكليشيهات تُقال هنا وهناك، التواصل هو أمانة الكلمة في النصيحة والتوجيه ونقل الخبرة، دون تصدير أستاذية أو ادّعاء بذلك. بالنسبة لي حين يحضر التواصل الحقيقي لابد أن أقف أمام الأستاذ الكبير الغالي محسن يونس، كان –ولا يزال- قادرا على إصابتك بعدوى البحث عن الكتب العظيمة والبدء على الفور في قراءتها، سيُطلق صيحته: “ياااااه” حين تُذكّره بكتاب مُهم قرأه من قبل، يبدأ لحظتها في استدعاء ما فعله ذلك الكتاب فيه، وكيف استفاد منه. حدّثني عن كُتب عظيمة أذكر منها: “السرايا الخضراء” لماشادو دا أسيس، و”تقرير إلى جريكو” لكازانتزاكيس.

  له طَبع في قراءة النصوص لا يحيد عنه أبدا، يقرأ بحب ومعايشة لكل الأجيال، يُنبه إلى تفاصيل لم نكن نراها، يدخل إلى قلب العمل ولا يلف ويدور، لا يقول كلمات مائعة مثل: “جميل”، أو”الله ينور”. يحدث أن يُبدي إعجابه البالغ بنص ما لدرجه أن يضعه فوق نصوصه هو نفسه! وفي نص تالٍ قد تسمع منه مباشرة وبلا مُواربة: “لا لا، أي كلام!”. هذه القسوة الظاهرية هي الأمانة ولا شيء غيرها، لا يُمكن أن يقول محسن يونس ما لا يقتنع به، سواء مع أحبابه أو مع كاتب يقرأ له لأول مرة. حتى الآن حين يُذكر التواصل الجميل للأجيال يذهب خاطري إليه بلا تردد.

  أما إبداعه فالتجريب هو هَمّه الأول، من تجارب نهَلت من التراث ونوَّعت على أوتاره، ومزَجَت كل ذلك بنبرة زمنية معاصرة، كما في رواية “المَلِك الوَجه”، إلى تجربة التماس مع تاريخ حقيقي في البدء، ثم الصعود به إلى ذُرى الخيال والتَّصرُّف المبدع الخَلاق، كما في رواية “حرامي الحَلّة.. شَطحة روائية لوقائع إقامة جبرية. أما “بيت الخِلفة” فلغتها متفردة فعلا، لامَسَت فن “العَديد” بشكل سردي جريء وجديد.

  كثيرة هي روايات وأعمال محسن يونس، تكاد كل تجربة أن تكون عالما بذاتها، من حيث قدرته الفريدة على خطف الذهن والسفر به إلى آفاق بعيدة، عبر لغة من الصعب توصيفها. لا زلت أذكر بدايات بعض رواياته أو قصصه، أُرددها لتذكير نفسي بضربة البداية في السرد، حين تكون مقتحمة وداخلة مباشرة في الحدث أو الشخصية. من الذاكرة أتلو أول جملة في “بيت الخِلفة”: (رأيتُ الشاب ابن العِيلة، السوّاح في البلاد، حَنَّ وكَنَّ..). ومن “المَلك الوجه” أتذكر: (اقرأْ يا مَليح ما قاله ابن خلدون وتأَمَّلْ سهمَه النافذ..). هذه اللغة، على سبيل الاستدلال، آخذة من التراث الشعبي والكتابي، لم تُهمِل واحدا على حساب الآخر لتصعد عرجاء أو مستوردة أو هجينة، لغة أنت تعرفها لكنك لم تر هذه الخلطة إلا عند صاحبها. هذا طبيعي، فلا نزال نتذكر “يحيى الطاهر عبدالله”، على سبيل المثال، بلغته وأسلوبه الخاص جدا، الذي قال عنه “إبراهيم أصلان” إنه أفضل لغة قَصّ في جيله كله.

  القصة عند محسن يونس هي ضربة فأس، شرارة خيال حارقة. لا تزال بعض شطحاته القصيرة التي تابَعَ نشرها مؤخرا عالقة بدماغي، في أقل من نصف صفحة يسطر مشهدا غريبا لا يتركك إلا مرتابا، ذلك الارتياب الفني الجميل المُحرض عل القراءة من جديد لتصل أو تقف على شاطئ ما ترتضيه من النص صغير الحجم، واسع الرؤية. أتذكر أيضا قصته الطويلة “بِرْكَة الزّئبق”، التي سافَرَ فيها إلى أيام الحاكم “خُمارَويه” الطُّولوني، واستخرجَ من كُنوز خياله فانتازيا حية ساخرة وأسيانة في نفس الوقت.

  السفر وراء مقالات محسن يونس القارئة لنصوص الآخرين سفر مُمتع، فكما ذكرتُ من قبل، هو لا يقرأ أو يكتب عن كتاب إلا إذا أعجَبه ورأي فيه شيئا، وبالتالي تبدو رؤاه النقدية مغروسة في أرض النص تماما وليست سياحية، ناقلة لجوانب وعروق الفن بتذوق وحساسية هائلة. محظوظون هم الذين قرأ لهم محسن يونس أو كتب عنهم، نتذكر مقالاته الإبداعية الموازية بحب وعرفان ومحبة لأستاذ كبير، لا يزال، أطال الله في عُمره، مندهشا هذه الاندهاشة البكريّة التي لا تشيخ.      

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص وروائي مصري     

مقالات من نفس القسم