هايدي فاروق
رواية “مجانين أم كلثوم” أحدث روايات شريف صالح، صدرت عن الدار المصرية اللبنانية، تزامنًا مع مرور خمسين عامًا على رحيل العظيمة أم كلثوم.
يبدو العنوان للوهلة الأولى كاشفًا لمضمون الرواية، فمن المؤكد أننا سنكون أمام عمل يحكي عن سيرة كوكب الشرق، ويكشف أسرار مجاذيبها في الوطن العربي، خاصةً أن مواقع التواصل الاجتماعي شهدت مؤخرًا تداول العديد من المنشورات التي تستعرض قصص عشاقها المخلصين، أولئك الذين دأبوا على حضور حفلاتها، إلى جانب بعض الحكايات والكواليس المرتبطة بهم.
تساءلتُ بيني وبين نفسي: ما الجديد الذي يمكن أن يقدمه الدكتور شريف صالح؟! وركنتُ في داخلي إلى أنه، بصفته كاتبًا صحفيًا كبيرًا، سيكشف لنا العديد من الأسرار التي لا نعلمها عن أم كلثوم أو عن مريديها.
لكن مع بداية الصفحات الأولى، أدركتُ أن العنوان مخاتل إلى حدٍّ ما، وأن الكاتب يلعب بذكاء مع القارئ، إذ وجدتُ نفسي أمام ثلاث روايات تمتزج ببعضها بسلاسة شديدة، حيث يقدم النص الكثير من التفاصيل الدقيقة والمتشابكة.
يروي الكاتب، بذكاء وحرفية، قصة جلال عبد الفتاح عاشور، شاب مصري عادي، لكن حياته تتداخل مع جمعية شبه سرية تُعد الأصغر من نوعها، وهي جمعية حراس أم كلثوم، التي تضم نخبة من عشاق كوكب الشرق، من بينهم والدته، التي تشغل منصب المتحدث الرسمي للجمعية. وبينما يتعمق النص في تفاصيل حياته، نجد أن الرواية تمضي في مسارين متوازيين: الأول يرصد حياة جلال وتحولاته، والثاني ينهل من سيرة أم كلثوم، في سرد سلس بلغة رصينة متدفقة.
ينتقل الكاتب بسلاسة بين أزمنة مختلفة، ويربط بين مسارات متعددة، حيث تتطور الشخصيات وتنضج ثم تنهار مع تقلبات الأحداث السياسية. تتناغم تفاصيل الرواية مع مقاطع من أغاني أم كلثوم، حيث تستلهم الأحداث مقاطع من الأغاني، مثل “يا اللي كان يشجيك أنيني”، ” غلبت أصالح في روحي ” ” أروح لمين ” ” ظلموني الناس “
لتصبح بعض هذه الأغاني محورًا يدور حوله السرد.
فتنسج الرواية خيوط التحولات السياسية والاجتماعية في نسيج درامي آسر، فتتحول مقاطع أغانيها إلى شواهد على الحب والخسارة، والنصر والانكسار…
وربما يقف النقاد عند التحولات الزمنية، وشكل البناء السردي للرواية، وجغرافيا الزمان والمكان، لكني أود التوقف عند بعض المقاطع والأفكار بعين القارئة التي تبحث عن الحكاية.
وكلما انتهت من قراءة بعض الصفحات وطوتها، تجد نفسها مشغولة طيلة الوقت بتفاصيل البطل، ووسام زوجته، تلك المرأة النمرودة، صنيعة الأوضاع السياسية المرتبكة والمجتمع العصي على الفهم.
عبر صوت الراوي، البطل جلال، يطرح الكاتب تساؤلات عن الحب والزواج وما يعطب هذه العلاقة المقدسة. بوعي شديد، يقف شريف صالح عند تفاصيل دقيقة بسيطة لا تخلو منها أي علاقة زوجية.مواقف قد تسحق الحب، تبعثر كرامة المحبين.
يعاتب نفسه ويقسو عليها، ويربط بين سيرته وسيرة أم كلثوم.
فعلى سبيل المثال، يستشهد بطل الرواية بعلاقة أم كلثوم بالقصبجي، الذي ارتضى أن يعيش في ظلها لأربعين عامًا، في مقابل حبها لأسطورتها أكثر من حبها للرجال من حولها.
وفي لحظة مكاشفة أخرى، يقول:
“ليس الحب فعلًا آليًا مثل تناول الطعام، بل هو ذلك الهمس المجنون المراوغ داخل أرواحنا. في سيرة الحب تغني أم كلثوم عن العشاق الموجوعين، بعد مقدمة طويلة مأساوية تخبرنا: من همسة حب لقتني بحب. تناقض نفسها بكل بساطة. في ألف ليلة وليلة كانت مشغولة بتأبيد لحظة الحب، أما في سيرة الحب فهي تعرض تاريخ المأساة كلها. تلخص لنا ثلاث مراحل: التوجس والخوف من مصير عشاق سبقونا، المغامرة وتذوق لذة الحب والذوبان فيه، وأخيرًا الدفاع عنه: العيب فيكم يا في حبابيكم.. أما الحب يا روحي عليه. ورغم اعترافها بأن أهل الحب صحيح مساكين، لكن إيمانها لا يتزعزع: يا سلام ع الدنيا وحلاوتها في عين العشاق“.
يربط الكاتب بين مشاعر البطل وعلاقة أم كلثوم بالحب، مسلطًا الضوء على حكايات من حياتها، وحياة حراس جمعية أم كلثوم، عشاقها المخلصين بالحفاظ على تراثها وفنها، والذين بالمناسبة هم شخصيات مرسومة بعناية شديدة وبامتياز، تشعر القارئ بأنه في رواية أخرى متكاملة الأركان، تخوض داخل عالمهم السري…
ومن خلال البناء السردي للرواية، الذي يعتمد الكتابة في شكل المتون والهوامش، تضم الهوامش حكايات مكملة للرواية، شيقة وجذابة، تدفعك إلى قراءتها مرات عديدة.
بعض المقاطع عند قراءتها، تشعر أنك أمام مشهد سينمائي مسموع ومرئي، يستخدم الفلاش باك والموسيقى التصويرية، التي تضفي عمقًا خاصًا على السرد.
باقتدار شديد، يرسم شريف صالح شخصية وسام عبد البديع، الزوجة التي تحررت من قيد الحجاب لتتصدر شاشات التلفزيون، تتحدث عن الثورة، وتحصل على الدكتوراه، وتبني نجاحًا واسعًا، وتصبح عضوة في المجلس القومي للطفولة والأمومة، في غفلة من الزوج أو ربما في غفلة من الزمن!
وهنا يُحسب للكاتب جرأته في الحديث عن هذه الفترة المنفلتة من عمر الوطن دون مهادنة. ومن دون ادعاء أو مداهنة، يكشف الكاتب ذلك الانقسام الذي حدث في بيوتنا جميعًا إبان أحداث ٢٥ يناير، لتسجل الرواية تحولات اجتماعية وسياسية شديدة الأهمية.
وكما يغوص الكاتب في شخصية جلال ويمسك بتفاصيلها بحرفية شديدة، ليسجل بجرأة مشاهد قهر الرجل وسطوة زوجته عليه، وهو ما يندر في أعمالنا الأدبية التي تغرق في تمجيد صورة الرجل الشرقي بفحولته وسيطرته وقوامته، فإنه يمضي بنفس القدرة في رسم شخصية وسام وتشريحها نفسيًا.
يقول عنها في مقطع من الرواية:
“هي ضحية أمها زنوبة، التي اسودّ مزاجها بعد وفاة أبيها؛ كانت تمنعها من فتح الشباك واللعب في الشارع، وعندما رأتها ترفع فستان العيد وتكشف لابن الجيران عما بين فخذيها، جرجرتها من شعرها ومسحت بها تراب الشارع، وهي تضربها على كل مكان في جسمها. زنوبة كانت تعايرها لأنها بنت، وستجلب لها الفضيحة من سابع أرض“.
في رواية مجانين الست، نعيش مع البطل الحقيقة متحررة من الأوهام.
يقول على لسان الراوي، في لحظة اكتئاب أو ربما لحظة مواجهة وصدق مع النفس:
“عيون العشاق كاذبة، وأم كلثوم كاذبة، ونعلم أنها كاذبة، لكن الحياة لا تحتمل من دون أكاذيبها. تصر أنها وجدت الحب وعاشت ألف ليلة وليلة، والعيب في الناس وليس في سيرة الحب“.
ثم ينتقل بنفس الذكاء ليرصد واقع المرأة الصيادة، قائلًا:“تتمسكن حتى تتمكن. تستحوذ على راتبك وبيتك وعمرك وأولادك...”
في النهاية، قدم لنا الدكتور شريف صالح رواية غنية بالتفاصيل، نابضة بالحياة، تأخذ القارئ في رحلة بين مقامات الموسيقى والحب والسياسة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة وصحفية بمجلة صباح الخير.