ممدوح عبد الستار *
يُمثّل ديوان “مؤمن سمير” الشعريّ، الصادر حديثاً من دار الأدهم بالقاهرة، الذي يضمّ نصوصاً نثريةً غنيةً بالصور والمشاعر، رحلةً عميقةً في متاهات الذاكرة، مُرصّعةً بقطعٍ من الخيال والتفكير الفلسفي. يُشكّل هذا الديوان فضاءً أدبيّاً مُميّزاً، يمزج بين تيار الوعي وتقنيات الشعر والنثر، ليخلقَ تجربةً فريدةً للقارئ.
يُشكّل مفهوم الذاكرة عموداً فقريّاً في الديوان. فهو لا يستخدم الذاكرة كسلسلةٍ من الذكريات، بل كأداةٍ لبناء النصّ نفسه. فالذاكرة هنا ليست مُحايدة، بل مُشحونةٌ بالمشاعر والأحاسيس، مُعاد تشكيلها وتأويلها باستمرار، فتتحوّل الذكريات إلى صورٍ بلاغيةٍ قوية، كما في “أغراض أمي وجدّي تنطلق في المزارع”، أو “الذاكرة التي تغلق عينيها وتفترش الطريق”. تُصبح الذاكرة، في هذا السياق، مسرحاً مُتَعدد المشاهد والصور، حيث يتفاعل الماضي مع الحاضر، والخيَال مع الواقع، مُولّدةً تَفاعُلاً ديناميكيّاً يُشِكّلُ جوهرَ النصّ. فهل الديوان مصدر للراحة أم الألم؟ الجواب في ديوان “سمير” مُعقّد، فهو يَدمِجُ بين الاثنين بطريقة مُتقنة.
يُعَدّ الراوي في هذا الديوان شخصيةً غامضةً ومُتَشَظِّيةً، فهو ليس شخصيةً مُتَماسِكة، بل مجموعةً من الأصوات والمشاعر المُتَضَارِبة، تتجلى في أسلوبه ولغته المُتَنوّعة. ففي بعض الأحيان، يكون الراوي هادئاً مُتأمّلاً، وفي أحيانٍ أخرى، يكون عاطفيّاً مُندفعاً، حتى يصل إلى حدّ “تيار الوعي” حيث تتدفق الأفكار والمشاعر بلا ضابط، مُعبرةً عن حالةٍ داخليةٍ مُعقّدة. لا يُمكن تصنيفه بسهولة، فهو يجمع بين القوة والضعف، بين البراءة والقسوة، بين الفرح والحزن.
يتميز ديوان “سمير” باستخدامٍ مُتقَنٍ للغة، تجمع بين البساطة والعمق. فهو يستخدم لغةً حسيةً مُباشرة في بعض الأحيان، وفي أحيانٍ أخرى، يستخدم لغةً رمزيةً غامضةً. ويُلاحظ استخدامٌ مُكثّفٌ للصور البلاغية، والاستعارات، والمجاز، مما يُضفي على النصّ جمالاً أدبيّاً خاصّاً. والتكرار المُتعمّد لكلماتٍ أو جُمل مُعيّنة، يُساهم في خلق إيقاعٍ مُميّزٍ، ويُشدّد على معانٍ مُعيّنة.
تُعتبر مواضيع الموت، الذاكرة، الهروب، والخُيال، من أهمّ المواضيع المُتكررة في الديوان. هذه المواضيع لا تُعالج بشكلٍ مباشر، بل تتجلى من خلال رموزٍ مُتعددة. فـ”الرماد”، يُمثّل مثلاً، فقداناً ونهايةً، بينما “البئر” يُمثّل عمقاً وغموضاً. تُضفي هذه الرموزُ على النصّ طبقةً إضافيةً من العمق، وتُتيح للقارئ فرصةً للتأويل والتفكير.
تتجلى هوية الشاعر بوضوحٍ في النصّ. فالكثير من النصوص تُعبّر عن تجاربٍ شخصيةٍ، تُشير إلى ذكرياتٍ عائليةٍ، وعلاقاتٍ عاطفيةٍ، ومُشاهداتٍ من حياته. تُضفي هذه العناصر الذاتيةُ على النصّ بُعداً إنسانيّاً، وتُقَرِّبُهُ من القارئ.
يُمكن اعتبار بعض الأجزاء في ديوان “سمير” مُستقلة، بينما تترابط أجزاءٌ أخرى لتُشكّل لوحةً متكاملة. ويُلاحظ وجود خيطٍ دلاليٍّ يربط بين هذه الأجزاء، خاصةً تلك التي تتناول موضوعات الذاكرة والخيال.
“حفائر تحت مقبرة بيسوا”: يُعتبر هذا النصّ من أهمّ النصوص في الديوان، حيث يُقدّم صورةً مُعقّدةً لِهُويّة الشاعر، والذي يُجسّده الشخصيةُ الرمزية “بيسوا”. يُمكن تفسير “بيسوا” على أنه تجسيد لذات الشاعر المُتَشَظِّية، أو لِلعلاقة المُعقّدة بين الذّات والآخر. فـ”بيسوا” هو شخصيةٌ مُتَعدِّدةُ الجوانب، تُمثّل جوانب مُختلفةً من نفسية الشاعر. فهو شجاعٌ، متهوّرٌ، ضئيلٌ، قاتلٌ، صوفيٌّ، وخطيبٌ. يُثير هذا النصّ أسئلةً فلسفيةً عميقةً حول هُوية الفرد، وتجربته الذاتية.
“أخاديد”: تُعبّر هذه القصيدة عن دفن الحكايات في الكتابة، والاستمتاع بنسيانها، مع بقاء أثرها في النفس. تُشير “الأخاديد” إلى آثار الذكريات في الوجه، كما أنّها تُشير إلى عمق الجروح والآلام. يُمكن تفسيرهَا كاستعارة لِلعلاقة المُعقّدة بين الكتابة والذاكرة. والمشهد في القصيدة: قلمٌ قديمٌ، أوراقٌ مُتّسخةٌ، حبرٌ باهتٌ، يدٌ ترتجفُ وهي تُدوِّن الكلمات. وَجْهٌ مُتَعبٌ، أَخَادِيدٌ عميقةٌ في الخدود، دموعٌ تتسرّبُ من العينين.
“خيال من هواء”: تُمثّل هذه القصيدة مُناقشةً لِلعلاقة بين الراوي وحبيبته، حيث يُشير إلى اختفائه وتبخّره ببساطة. يُمكن تفسيرهَا كاستعارةٍ لِلطبيعة، وللعلاقات العاطفية المتذبذبة، وكيف يُمكن لِلفرد أن يختفي أو يُختَفَى في سياقِ العلاقة. والمشهد في القصيدة: نظراتٌ مُتبادلةٌ بين شخصين، ثمّ اختفاءٌ سريعٌ للراوي، تُصبحُ عيونُ الحبيبة هي المُشاهد الوحيد لِلاختفاء، حيثُ يَظلُّ الراوي خيالاً من الهواء.
“ذكرى قتيلة السندباد”: تُعدّ هذه القصيدة مُعقّدةً، وتتّسم بالاستعارات الرمزية الكثيفة. تُمثّل “ذكرى قتيلة السندباد” رمزاً لِلمرور بالحياة والموت والتّجربة. يُمكن قراءة هذه القصيدة كاستعارةٍ لِلتّجربة الشخصية للراوي، وكيف تَتَشكّل هُويّته من خِلال المُشاهدات والذكريات. والمشهد في القصيدة: رجالٌ ونساء، أطفالٌ، نهرٌ، كنيسة، مسجد. صورةٌ مُشَوِّهةٌ لِلمُشاهدات، وتُعكس حالةَ الارتباك والفوضى الداخلية للراوي.
“كلب العالم الجديد”: هذه القصيدة مُتميّزةٌ باستخدامها لِرَمْز الكلب كاستعارةٍ لِلمُجتمع المُعاصر. يُجسّد الكلب الشخصية الضعيفة والهامشية، التي تُعاني من التهميش والعَنف. يُمكن قراءتها كإدانةٍ لِلحالة الاجتماعية والسياسية. والمشهد في القصيدة: كلبٌ مُتّسخٌ ومُتعبٌ، يتجوّلُ في أزقةٍ مُظلمة، يُضربُ ويُهمَل، ثم يُربطُ على بابِ مخزنٍ في ليلٍ باردٍ. تُظهر القصيدة التناقض بين المكانة الاجتماعية لِلكلب وبين طبيعتهِ الوفية.
هذه تحليلات ومشاهد لبعض النصوص تسمح بتأويلات مُتعددة تسمح للقارئ بإعادة القراءة مرة أخري.
في الديوان لا تُوجد فلسفةٌ مُتَماسِكةٌ واحدة في الديوان، بل تتجلّى فلسفةٌ مُتَشَظِّيةٌ مُتعددةُ الأوجه، تتغيّر وتتطوّر مع تغيّر المُشاهدات والذكريات. ففي بعض الأحيان، يُعبّر الشاعر عن رؤيةٍ تشاؤميةٍ، مُركزاً على الموت والفقدان، وفي أحيانٍ أخرى، يُعبّر عن رؤيةٍ أكثر تفاؤلاً، مُركزاً على جمال الطبيعة وقوة الروح. يُجسّد هذا التناقض بين التشاؤم والتفاؤل طبيعة الحياة نفسهَا، والتي تجمعُ بين المُتعة والألم، والفرح والحزن.
يُقدّم “سمير” رؤيةً مُعقّدةً للعالم، لا تُبسّط الأمور ولا تُقدّم إجاباتٍ جازمة. فهو يُشير إلى الغموض الذي يُحيط بالوجود، ويكشف عن التناقضات والثغرات في الحياة. يُركّز على الأشياء المُختبئة، مُعتمداً على الاستعارة والتّشبيه لِكشف الأبعاد العميقة لِلتّجربةِ الإنسانية.
يُعتبر استخدام الشاعر للصور الشعرية من أبرز ما يُميّز ديوانه. فهو لا يعتمد على الوصف المباشر، بل يستخدم الاستعارات والتّشبيهات لِخلق تجربةٍ حسّيةٍ غنيةٍ للقارئ. فهو يُشبّه الذاكرة بآلة الزمن، والحياة بـحياةٍ باردة، ويُجسّد الهوية كـأشباحٍ. تُضفي هذه الاستعاراتُ معاني رمزيةً عَميقةً، وتُثير مشاعر القارئ، وتُسهِمُ في بناء رؤيةٍ خاصةٍ للعالم. ويُوظّف سمير المجاز والمبالغة ببراعة لِإبراز مشاعره وأفكاره. فهو لا يكتفي بِالتّعبير المباشر، بل يُبالغُ في الوصف لِإظهار شدّة مشاعره، وتأثير التجارب عليه. يُضفي ذلك على قصائده طابعاً دراماتيكيّاً، ويُجسّد حالةَ الاضطراب والارتباك النّفسية التي يعيشها الراوي.
ديوان “أنتَ لا تخُصُّني وأنا لا أخُصُّكَ” عملٌ شعريٌّ نثريٌّ مُميز، يُجسّد رحلةً عميقةً في ذاكرة الشاعر، مُستخدماً لغةً عاطفيةً وصوراً حسيةً قوية. يُبرِز الديوان براعة الشاعر في توظيف تقنيات مُختلفة، ليُخلقَ فضاءً أدبيّاً غنيّاً بالمعاني والرموز. إنّ تحليل هذا الديوان يُمثّل فرصةً لدراسةِ الذاكرة، والهوية، والخيال، من زوايا مُختلفة.
………………….
*روائي وقاص مصري