مروى عليّ الدين
انتصرت لأفكاري الألمعية في الصباح بأن أتصرف بما يليق بموظف شركة إعلانات، هو نفسه خير دعاية للموظف المثالي. توجه كل منا إلى مكتبه، شعرت بالعطش، سرتُ عبر الممر وبدون قصد سمعت مدير المطبوعات يتحدث إلى رئيسي: “هل ستدع أمر تقرير الحملة لتلك الفتاة؟”.
الفتاة؟ عندما وصلتني الكلمة أُصبت بصمم مفاجئ، عملت معه لأكثر من عام ونصف، ارتفعت جودة تقاريري كثيرا منذ أول ستة أشهر، قضينا مئات الساعات معًا كفريق، وعلى الرغم من ذلك كله، انتبهت إلى أنه لم يناديني يوما باسمي. لم أكن في نظره سوى ترس صغير في آلة كبيرة. تذكرت طلب التأمين الصحي بختم أوراق الأشعة والتحاليل، عدتُ أدراجي إلى مكتبي، حملت الأوراق، ثم توجهت إلى شئون الأفراد، ختمتها وطلبت إجازة حتى نهاية الأسبوع، رغم أنني كنت متفائلة صباحًا.
ما الذي يدفعني للعمل؟ مهما فعلت لا يتذكرون اسمي! كل ما فكرت فيه أن أخرج من الشركة فورًا وألا أترك الفرصة لأحد أن يسألني ما الذي حل بي فجأة، سيلان الأفكار جرجرني إلى حالة من الوهن والتعب. سرت بتثاقل إلى المكتب، دخل “مايكل” يرتدي قميصًا من القطيفة الزرقاء، وهو يُمسك بقلم ومدونة صغيرة، عضلات وجهه نافرة كأنها تستعد للتحليق في أرجاء الغرفة. سألني بنبرته الساخرة كيف أمضيت ليلتي، فأجبته متحاشية نظراته الثاقبة أنني نمت بُعمق. جاءت “رغدة” وبادلته ابتسامة فاترة، بعثرت قبلات في الهواء على الفتيات، فالتقطتُ واحدة. ثم تحدثا معًا عن استطلاع الرأي بخصوص أداء المديرين في حق الموظفين.
كنت قد بدأت فعلا في لملمة أوراقي، ولم أحمل التقرير معي إلى البيت كالعادة، تركته بالدرج حتى أعود من الإجازة وقلت: “اثنين من كل ثلاثة موظفين لا يجدان في نفسيهما الدافع القوي للعمل على تحقيق أهداف الشركة”.
قالت رغدة قبل أن أخرج من الباب: “بيستكتروا حتى كلمة الشكر”.
دخلت إلى مكان سيارتي بالجراچ، ألقيت حقيبتي على الكرسي، وقد نال مني الغضب. شعرت بضرورة ألا يفوتهم رأيي بهذه المسألة. كتبت على ورقة عنوانا عريضًا:
الطريقة التي يرفع بها المدير أداء فريقه:
- وضع رؤى استرشادية.
- الاطلاع على إنجازات الموظفين التي دفعت الشركة نحو تحقيق أهدافها.
- الاحتفاء بإنجازات فريق العمل.
عدت نحو مكتب شؤون الأفراد، سلمتهم الورقة بعد أن وضعتها في ظرف كتبت عليه “بيان استطلاع الرأي”.
…
هل اعتلال أحد الحواس، يتسبب في إتلاف أقرب حاسة مُجاورة..
لماذا يخالجني الظن أن شعري من الحواس!
أتركه يطول، فأتحول لامرأة بظل طويل، وقلب طويل، وصبر طويل، وفجأة تعتل حاسة الشعر، أتداوي بالمقص. ولم أكن مُستعدة كذلك لتغيير لون عيني من البني اللامع، إلى الرمادي الضارب إلى العسلي بعدسات لاصقة؛ التي أصبحت بين ليلة وضحاها جزءًا من شخصيتي الجديدة، أتحسس خطواتي وسط ألاف الأقدام التي تطأ نفس البُقعة من الأرض. في لحظة ما خلال كل يوم نعيشه قد يُنافسك من هم إلى جوارك على مكانك في الحياة، وليس من العيب أن ترغب في إزاحتهم لتحتفظ بمكانك الذي هو لك مُنذ البداية.. وكانت العدسات اللاصقة بألوانها رائعة الانسجام مع بشرتي العاجية أحد تلك الخيارات في التعبير. لكن بعد أُصبت بحساسية الربيع المثالية، ظهرت نظارتي الأولى ضمن تفاصيل الحياة، عظمها أسود رفيع، عدستاها صفراوتان، وكانت مُلائمة للطقس المُمتعض!
في المساء كان موعد الاستشارة عند طبيب الباطنة، بحوزتي ملف التحاليل، في قاعة انتظار المرضى اضطررت أن أرفع صوتي وأنا أُجيب اتصال عمل رغم أنني في إجازة مرضية حتى أتحسّن: “الإعلان أولا وأخيرًا عمل فني”، ورغمًا عني، مهما حاولت أن أسمع رد زميلي، كان صوت المرأتين بنفس الغرفة يتغلّب على محاولاتي. قالت واحدة: “فين نلاقي طبيبً زيه الأيام دي!”
ردت صاحبتها: “جزارين”
كنت على وشك أن أضم الوسطى والسبابة والإبهام لبعضهم، وأُشير إليهما كي تخفضا صوتيهما قليلا، لكن “مايكل” على الهاتف طلب أن أُنصت إلى حديثهما الذي بدا له مُلهمًا.
- كل يوم يفحص 100 حالة
- عنده يومين في الأسبوع لاستشارات الفقراء
- أيوة، عرفت دا من صفحة على فيسبوك، كل الناس بتحبه، لكن أنا دفعت تذكرة الكشف كاملة، زي ما بيساعد الفقراء، نساعده احنا كمان يحافظ على اسمه وسمعته.
قال مايكل: الست تعرف أكتر من اللازم عن الدعاية والإعلان.
- بيعطي كل مريض حقه في الكشف
- وخصم على التحاليل والأشعة كمان
- وبيصرف كتير من الأدوية اللي عنده. العينات المجانية.
- لزوم الدعاية للأدوية الجديدة في السوق
- ما بصدقش قصة الأدوية الجديدة، كل المسكنات لها اسم كبير، الاسم التجاري، وفيه واحد تاني مكتوب بخط صغير، هو المادة الفعالة.
- صحيح، وعشان عندي حساسية قبل ما أتصل بالصيدلية لطلب الدوا بادوّر عن المادة الفعالة زي ما بتقولي. الصيدلي أحسن مين يبيع لك الهوا على أنه علاج.
- تُجّار
- الأخلاق خلصت خلاص، بضاعتهم صحة الناس، لكن الدكتور دا ملاك
- أولاده مع أولادي في المدرسة
- شكله صغير رغم مهارته، كتير من الأطباء كبار في السن ومش في علمه
- ولا أخلاقه
سئمت، فقاطعت إنصات “مايكل” وتعليقاته الساخرة: “ما تييجي انت بنفسك”.
فأجابني: “أنا سجلت كل ملاحظاتهم ونستعد لحملة إعلانية ساحقة”.
نفد صبري فقلت: ” دوري جه علشان أدخل للطبيب. هاكلمك بعدين”.
أنا الموظفة الموهوبة بشركة دعاية وإعلان، لم ألفت إليّ نظرة أحدهم، إلا حينما نادت اسمي موظفة الاستقبال بالعيادة. هذه المرة حان دوري فعلًا.
دخلت غرفة الطبيب، ضاقت مساحتها عن المرة السابقة، أجرى تعديلات أكلت من مساحة الغرفة، فهناك على يمين الشباك المفتوح رغم الطقس البارد، شق الحائط باب حديث الطلاء، دخل منه مساعد الطبيب وقال إن غرفة المنظار جاهزة والمريض بالانتظار. لا أقوم بالكشف الدوري- متعمدة- لكثرة ما تخالجني هواجس أن مرضي خطير، أخشى أن الطبيب سيرفع نظارته ويخبرني بكارثة صحية، لكنه خلعها ووضعها على المكتب، رجع بظهر الكرسي أقصى ما يُمكنه:
- بتحسي بدوار؟
- نادرًا
- قصدك كتير. مستوى الأنيميا. أنت محتاجة نقل دم
- على جثتي
- بس على مدار أشهر النسبة ما اتحسنتش مع العلاج
- أكيد أنا مش محتاجة لهاجس إضافي أن مرض جديد هايتنقل لي من دم ملوث.
- هانعيد التحاليل بعد شهر ونص من اليوم، وهاحتفظت بنسخة من التحاليل الحديثة واللي فاتت.
وأشار إلى شاشة “الكمبيوتر”.
دقق الطبيب النظر في الشاشة، حيث ملف التحاليل الخاص بي، ثم طلب مني أي نسخ من تحاليل أكثر قدمًا من التي حملتها معي لتتبع الحالة! أوصى بمجموعة من مقويات المناعة وفيتامينات، ودواء للهضم لمدة أسبوعين، ودواء يبطئ حركة الأمعاء، راودتني فكرة السيدة بالعيادة، البحث عن أسماء المواد الفعالة ووظيفتها على “الانترنت” بدلًا من فحص نشرات الدواء.
حينما عدت للبيت وجدت على الانترنت أن الدواء الأخير مُهدئًا، الطبيب وصف قرصا واحدا ليلًا. طلبت الدواء من الصيدلية عن طريق رقمهم على “واتساب”. كان الطقس باردًا والجو العام يغلب عليه الخمول، ففضلت أن أقرأ في يومي الإجازة شيئا مُسليا، انتظرت رجل توصيل الصيدلية، لم أُشعل المدفأة وكرهت قراءة الرواية الموضوعة على “الكمودينو”. الجو يذخر بذكريات المدرسة، رغم إعلانات مواقع التسوق، وعروض المراكز التجارية وأماكن الترفيه، وتنبؤات الأبراج. عام ميلادي على وشك الأفول وفصل دراسي يبدأ.
أتذكر رائحة الموسم، مائدة الفطور؛ الخبز المحمص والجبن، رقائق “كورن فليكس” والبيض المسلوق، العسل الأبيض وأصابع المقرمشات بالسمسم، صحن من شرائح الفاكهة يتخللها الجزر بحكم اللون وجفافه من السوائل. كذلك حقيبة المدرسة وعلبة الألوان. اثنا عشر لونًا، أهم الألوان حسب خلفية الإعلان والتسويق للفن عند المبتدئين! كل ذلك استدعيته بجاذبية خفية تنتبه للأشياء وأنا أبحث داخل خزانة الغرفة المقسمة لأغراض مختلفة تحوي الملابس وأرففا للكتب، وكذلك في أرضيتها ذكريات كثيرة تكدست فوق حقيبة مدرسية كانت تخصني لم تفقد رونقها خلال سنوات عديدة خلت.
ذاكرتي لا تستدعي إعلانًا عن حقائب وأدوات مدرسية، ولو أنك سألت من حولك عن مثل هذه الإعلانات، لوجدت أنهم يواجهون صعوبة كبيرة في تذكر إعلانًا واحدًا لها، لكن جميعًا نتذكر إعلانات المشروبات الغازية والقهوة سريعة التحضير والعلكة، وذاك لا يعكس سذاجتنا، وانما العقلية هناك التي تحثنا على الاقتناع. وهذا لا يختلف عن محاولات أًمي إرغامي على شيء.
* * *
تبدأ الأحلام في مؤانسة وحدتي فور ما أتهيأ للنوم، وفي أحلامي لا أرى شخصًا سواي أنا وظِلّي، أراني أدوسه، أقف فوقه كسحابةٍ حمراء قانية، أو أقف على الأرض وظِلي يتساقط مطرًا حتى يُبلل مكانه إلى جواري على المقعد في الحديقة. وحين أنام على غضبٍ، يأتيني ظلِّي حانقًا ثائرًا، سُرعان ما نشتبك، وكثيرًا ما استيقظتُ ووجدت كدمات مُلونة بالأزرق والبنفسجي في ذراعي من الخلف وساقي كذلك.
في الحلم سحبتُ سكينًا من المطبخ ومزّقت ظلي. ذبحته كي أنام في الليل. لكن ظِلّي لا يموت. بل يجيء مُغاضبًا، مُحمّلًا باللعنات، وإذا ما أحسست لهيبه اختبأت تحت السرير، وأستيقظت على آلام مبرحة بعد أن أمضيتُ ليلتي متكورة كالجنين على الأرض.
أفقتُ وسط النوم الخفيف ورأيت ظِلي يحمل معه دفترًا، أهداه إليّ. في البداية تعجبتُ واعتبرتها بادرة جيدة، ظِّلي يريد أن يتصالح معي، لكن حينما استيقظت، وجدت الدفتر على المكتب الصغير بغرفة النوم، كان أول مكتب اشتراه لي أبي قبل أن أدخل المدرسة، وكنت مصممة مهما انتقلنا من منزل إلى آخر ألا أتركه. وحين اضطررت إلى العيش في شقتي وحيدة، بعد استقرار بقية العائلة في الحي القديم، أن أحتفظ بالمكتب في بيتي الجديد، الذي لن أنتمي إليه أبدًا بدون هذا المكتب. لذا فهمت أن القصد من وراء الدفتر أن أبدأ في الكتابة حتى لو كانت كل الكتابات مثل بعضها؛ عنّي، وصراعي مع الظِّلال.
في مساء اليوم التالي قبل كبوة الدوار المعتادة من أثر فقد الدم مع نوبات الحيض الغزير، سبقني الظِّل، وارتمى على سطح المكتب لأجد الدفتر مرة أخرى فوق المكتب. مع أنني متأكدة أنني تركت الدفتر والقلم داخل الدرج في الليلة السابقة. الظل يُعاندني، لا يرضيه هربي من الكتابة.. هربي من الحزن حتى البكاء وأنا أكتب. ظِّلي يتمرد على ادعائي الثبات في المواقف الصعبة. تمر أوقات الوحدة، ويقرصني ظِّلي، أوليس هذا الألم الذي يُغيِّبني عن الناس بكافٍ؟
ظللت أكتب، حتى لو لم يُعجِب الظِّل شيئا مما كتبت، إلا أنني تخيلت دفتر اليوميات يتضخم، يصبح ثقيلًا. جاءني الظِّل حاملًا دفترًا جديدًا، أكبر، وله قفل؛ سيبقى سرًا بيننا.
لم يحتفظ الظِّل بمفتاح القفل، لم يُجبرني على الكتابة، ترك الدفتر حيث وضعته في الدرج. الظِّل يريدني أن أكتب من قلبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية مصرية، والرواية صدرت عن مؤسسة غايا الثقافية ..معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025