يا إسكندرية .. فصلٌ من رواية “بالحبر الطائر”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
المفاجأة الحقيقية، فهي أنني اكتشفتُ أن تأسيسي للجروب قد تم قبل ثلاثة أعوام، لا عام واحد، كما تصورت. أردته فخًا نهوي فيه معًا بدلا من تشتتنا بأنحاء الأرض. لا أنكر أنه خطرَ ببالي الاستفادة من جيوبهن العامرة،

عزة رشاد 

منذ ثلاثة أيام اختفت قطتي.

لا أعرف كيف خرجتْ دون أن أراها؟ دون أن أنتبه، خرجتْ ولم تعد، بحثتُ عنها حول البيت، وحتى حدود المترو والطريق السريع، ولا أثر لها. انتظرتُ عودتها، أُرهفُ السمع لكل نأمة تتحرك، وأنتظرُ خربشتها على باب الشقة، دون جدوى. باختفائها فقد البيت معناه، فهي كانت الشريك الأخير، الذي يمنحه المعنى. فالبيت حسبما أستشعِره، ليس مجرد جدران وقطع أثاث، بل نهوض من الفراش، رغم التعب، لإعداد الطعام لشريكٍ ما، أو من أجل رعايته وتقديم نوعٍ من العون أو تلقي هذا العون منه. البيت يعني المشاركة.

بعدما صار غيابها أمرًا واقعًا تملكني الخواء، ويبدو أنني خفتُ من انجراف تفكيري بسرعة، نحو الجهة الأخرى، فيجدونني معلقة في أنشوطة بسقف الحمّام، أو متدلية من بين حبال الغسيل، لذا بادرتُ بالاتصال بالاثنين، فلم يرد أي منهما، هذا ما كنت أتوقعه على أي حال، متى نفع زوج أو ابن؟! لذا أكتب كل شيء هنا “بالحبر الطائر”، حتى إذا حانت ساعتي؛ يحق لهما، وربما يهمهما، أن يعرفا، ولو من باب الفضول، ما حدث قبيل النهاية، أما إذا امتد عمري، فسرعان ما ستتلاشى الكلمات قبل أن يجدها أحدهما.

انتبهت على رنين “إشعار” من الموبايل، فتحت وفوجئت على الشاشة بعنوان “جروب الفور N”، وهو جروب كنت أسسته منذ حوالي عام، ليجمعني بصديقاتي المقيمات بالخارج، زميلات الفصل في الثانوي ثم في “كافيتريا” الجامعة، ثلاثة نماذج تدعو للفخر لمصريات في المهجر، منذ ما يزيد عن العشرين عاما. تابعتُ صفحاتهن منذ فترة طويلة ومنها استنتجتُ، إن لم تخنني الذاكرة، أن “نجوى” التي نناديها “نوجا”، تعيش هي وزوجها اللبناني في “منهاتن” بنيويورك، وقد نجحا وبرزا بين أبناء العربية هناك، وأن “نِسمة” التي عانتْ من مرض في الجينات “متلازمة تيرنر”، وسافرت هربًا من الكآبة والوحدة والعنوسة، أقامت في لندن وتزوجتْ من شاب باكستاني شديد الوسامة، أما “نادين” فقد لمع زوجها في التدريس بجامعة مهمة، نادين هي الوحيدة التي تزوجتْ قبل الهجرة، من شاب اسكندراني، يعمل بدولة الكويت، وتم عقد قرانهما بجامع القائد إبراهيم بمحطة الرمل، مثلما كانت تحلم، أما المدهش؛ فهو أن تكون من قياديات مظاهرات باريس، المحتجة على تحقير ارتداء الحجاب، وإقصاء المحجبات.

ضغطتُ الزر، وولجتُ الجروب:

-نعيمة: مرحبًا صديقات العمر.

ثم ذهبتُ لأقرأ ما كتبَته نِسمة:

-نسمة: على موعدنا أول الربيع أم تغيرت الأمور؟ خبِّريني رجاءً، حتى أرتب مواعيد العمل.

وجدت نفسي أجيبها على الفور:

-على موعدنا بالطبع. تنورن البلد. مشتاقة لكُّن كثيرًا.

ولكن، بأي خصوص يا ترى اتفقنا على هذا الموعد؟ ومتى كان ذلك؟ سألت نفسي.

على أي حال، ستكون فرصة طيبة لهن للقاء الأهل ورؤية المزارات السياحية الحديثة. فرصة طيبة لي أيضًا، سيؤنسنَ وحدتي، لبعض الوقت.

عدت أتصفح الجروب..

-نعيمة: كلُ شيء يبدأ لينتهي.

بالإضافة لكلمة “نِسمة”، الوحيدة الواقفة في الصفحة، تعاني بالفعل من وحدتها.. لم أجد سوى بضع عباراتٍ، تتصدرها نفس التحية:

“هاي. مشتاقةٌ لكِ ست نعيمة.” “كوني بخير ليدي نعومة.” أو “كل عام وأنت بخير د. نعومي”. بالإضافة لتفاصيل حياتية أُرسِلت من ثلاثتهن، ولسوء حظي لم أرها.

جمعتنا الصفحة، لكن كلهن، وأنا أيضا، لم نكن متحمسات للكتابة، اكتفينا بإلقاء التحايا.

أما المفاجأة الحقيقية، فهي أنني اكتشفتُ أن تأسيسي للجروب قد تم قبل ثلاثة أعوام، لا عام واحد، كما تصورت. أردته فخًا نهوي فيه معًا بدلا من تشتتنا بأنحاء الأرض. لا أنكر أنه خطرَ ببالي الاستفادة من جيوبهن العامرة، بتبرعات لمشروعي المزمَع آنذاك، بالجمعية الأهلية، خاصة أنني طالما قدمتُ لهن خدمات كثيرة سابقة، مثل تجديد الإجازات، تحرير مستخرجاتٍ من الأوراق الرسمية، تقديم بيانات لمحامين.. إلخ.

أعرفُ أن ثقتهن بي كبيرة وما كنت لأغامر بفقدها قط، وهذا ما اعتبرته دافعًا إضافيًا لمشروعي. وبالفعل بادرتُ التواصل ولاحظتُ حماستهن للكتابة آنذاك، لكنها سرعان ما أخذت تخبو لأنني ببساطة توقفتُ عن الكتابة، فقد أصابني الإحباطُ بعدما تم تجريم تلقي مِنح أو تبرعاتٍ، من جهات خارجية بقوة القانون.

لكنني، لا أتذكر أننا خلال هذه الفترة اتفقنا، على لقاءٍ أول الربيع القادم.

حدقتُ بالمكتوب وتنهدتُ. هدأتْ نفسي قليلًا، فلاحت بذهني فكرة مؤداها أن “الفور N” هو الحل، فلقد رُفع هذا التجريم قبل عدة أشهر، ويمكننا استئناف المشروع. لمَ لا؟ إنها فرصتي. أريد أن أغرقَ في عملٍ يستلبني بالكامل، ويريحني من رأسي وجنونها. ربما يحتجنَ أيضا ما احتاجه. شُغل يعني شغل، لا صفصطة، لا خطابات عفا عليها الزمن، أو مراوغات، كله هنا بالبلدي وعلى المكشوف، ومن لن يشتري، لا مانع أبدا من أن يتفرج. ههههه.

زميلاتي حبيباتي، أنا بحاجة إلى أفكاركن، لنؤسس مشروع حياتنا، الذي طالما حلمنا بتحقيقه، مشروع خيري كبير ومؤثر، و.. مربح أيضًا، كما هو معلوم. عمل نبيل، جديرات نحن به، تمنينا تنفيذه قديمًا، ويبدو أنه قد حان الوقت. هيا نتعاون، ولتكن الفكرة أقوى بتعاوننا. تشاركنا المِلح في الطفولة وأول الشباب، تقاسمنا الأحلام والمخاوف والضياع، تشاركنا السعادات الصغيرة والمجازفات الحارقة. ولم أعرف في حياتي ما يبهج مثل مُزحاتنا وقفشاتنا الذكية، ونوادرنا ومقالبنا أيضا، إذ لا يخلو إكسير المحبة، عادة، من شذرة مرارة.

آن أوان العمل الجاد يا رفيقات الدرب. لابد أن نلتقي ونحتسي فنجان سحلب بالمكسرات داخل مقهى “Freedom”، عند كورنيش محطة جامع إبراهيم، ولنفاجئ أصدقاءنا على مواقع التواصل بلقطة تجمع القارات الثلاث معًا، ونتعولم ونتعولم.. دوخيني يا عَولمة دوخيني.

“تشاركنا المِلح”.. ميم لام حاء. يشتق منها: مالح.. ملَّاح.. مليح.. معاني شديدة التباين. بحرٌ عميق أنتِ يا لغتنا اللعوب، لا تُقدرِك الا امرأة تدعى نعيمة النجمي.

أعود وأفكر بصديقاتي، هل سيمتلكن الشجاعة للفضفضة؟ للبوح بما جرى هناك؟ ما تحولن إليه؟ وما فقدنه في الطريق؟ الدقة مطلوبة يا بنات، والزوغان ممنوع.   

والآن أُمسي عليهن بكلمتين، من ثرثراتي اللاتي يعرفنها جيدا، لو مازلن يتذكرنني، لو ينتبهن لرسالتي، وللجروب، لو..

   -نعيمة

مرحب يا بنات..

منذ سنين، خصصتُ هذا الجروب لنا وحدنا، صديقاتي، بنات بلدي الجدعات اللائي لم ولن ينسين صداقتهن قط، هذا الجروب من أجل أن نجد بعضنا بسهولة، فلديَ أصدقاءٌ كُثر على الفيس بوك، وأغلبهم حرص على صداقتي، فقط، للانتفاع بخبرتي المهنية، وأنا كما تعرفنني لا أتأخرعن محتاج، لكن كثرتهم تجعلني أُخفق في العثور عليكن بسهولة.

نحن هنا يا بنات بعد فراق السنوات الطويلة، من أجل المحبة..

محبة الأربعة “أجمل أربعة”، المحبة التي تغربتِ يا نادين لأجلها، من أجل الحرية.. الحرية التي سافرتِ وتغربتِ يا نوجا أنتِ ونِسمة أكثر من عشرين عاما بحثا عنها. هيا لنفتح القمقم ونبوح بما فعل بنا الزمان والمكان وأولاد الأبالسة، لنطلق صراح المردة، وعبدة الشياطين الذين يسكنوننا.. هههه. إن لم يقبلوا بالخروج طواعية، فسنخرجهم عنوة.. هههه.                                                                                                                                                                                                   

-نوجا: عمل بطولي رائع. ولكن من أنت عزيزتي الباسلة؟ وما أدراني بهويتك الجنسية الحقيقية؟

-هه!! هويتي الجنسية؟ فاكراني راجل ومتنكر؟ أنا نعيمة يا بت يا نوجا.. يخرب بيتك! نسيتيني!

–  No لأ طبعا.. فقط أهزر معك ليدي نعومة. محال أن أنسى مقالبك ونوادرك؟ وتقمصك لأدوار عمر الشريف المدهشة؟

-ههه!! ما بلاش فضايح.

-يعني ايه فضايح ليدي نعومة؟

-هه!! معقول نسيتي معنى الفضايح يا ليدي نوجا!!؟ فين ذاكرتك الحديدية؟

                                        *****

لم تبادر بالرد عليّ سوى نوجا المتقلبة التي تجمع كل تناقضات الكون داخلها.. الحنان والقسوة، الذكاء.. حد الجنون، الشجاعة والاندفاع، يا لك من شخصية مسلية وعصية على التدجين يا ست نوجا.

لكن أين هي نِسمة صاحبة الطلعة الأولى؟ انتظرتُها طويلا. كتبتُ لها على الخاص، بلا طائل.

ومع أني أعرف أن نادين، تتابع حواراتنا الآن باهتمام، إلا أنها كعادتها، لن ترد إلا للضرورة القصوى، ماذا أفعل يا ترى لاستدراجها؟

وضعتُ لينك أغنية غريب الدار. وكتبتُ تحته:

-استمتعن بأغنية الجميل: سعد عبد الوهاب. (إرسال).

وكما توقعتُ، ردتْ نادين فورا، كأن نحلة لدغتها:

-صالح عبد الحي وليس سعد عبد الوهاب يا نعيمة يا نسّاية.

كتبتُ بسرعة: مرحب يا نادين يا جامدة.

فاندفعتْ في الكتابة، تتهمني بالاستهتار، لأنني أنشأت جروب “الفور إن”، ثم نسيته أو على الأقل أهملته. محقة بالطبع. تلومني أيضًا لأني لم أرد على سلامها في مرات سابقة.

هي أطيب وأحنّ صديقاتي. إذا ما تحدثنا عن حسن النية، وصفاء النفس، فكأننا نتحدث عن نادين “الجانب المضيء فيها على الأقل”، فهي كائن مثالي، يمنح قبل أن يُطلب منه، كائن تأمن جانبه، وتأمن بجانبه. لا تعرف نادين الشر، ولا تغدر أبدًا، كما أنها لا تجهدني بالأسئلة “كيف ولماذا؟ أين ومتى؟” التي هي سمة نوجا، الحريصة على أن تبدو واعية ومختلفة ومتفاعلة مع كل ما حولها، كما أنها، نادين، متحررة من “العنطزة” الفارغة التي تتلبس نسمة في كثير من الأحيان.

لا يعيبها سوى شيء واحد، ثرثارة أغلب الأحيان، وسأكون مجبرة على مجاراتها، هذا، بالطبع، بافتراض أن سرعة ردها دليل كافٍ على أنها هي نفسها الآن كما كانت من قبل، وأن الغربة لم تغيرها ولا السنين؟ تكلمي إذن لأراكِ يا نادين.

                                         *****

لم يبقَ إلا نِسمة، الوحيدة التي لم أسمع صوتَها بعد. سأكتب، وأرجو أن ترد عليّ، هذه الطيبة العنيدة، التي تصر على التظاهر بأنها لا تحتاج إلى أحد، وربما تتظاهر، بأن ما كتبته على الجروب وحركنا كلنا، ما كان إلا ضغطة زر غير مقصودة. إنه عنادك المرضي يا نِسمة، فهل تعيشين في قلب لندن أعواما وأعواما وتظلي تحملينه خُرجا فوق ظهرك؟ كيف احتملك زوجك الباكستاني إذن؟! هههه. على صفحتها الشخصية لم أجد إلا عبارات مرت عليها سنون..

لا تكتمل إلا بذاتك/ ماعض جلدك مثل ظفرك/ وعبارات أخرى تتمحور حول نفس المعنى؛ استقلاليتها وعدم احتياجها لأحد. الآن لا شيء مكتوب، لا دليل على تواصلها، ولا حل سوى جرجرتها عنوة..

أُشمِّر ذراعي وأهتف: تعالي أيتها الجميلة الملهِمة، ولسوف نرى من تجري وراء من؟ ومن الرابحة في النهاية؟

-هييييه. محدش بياكلها بالساهل. هل أنا ريا؟ أم سكينة؟ هههه.

-نعيمة: مرحب صديقاتي. جايبة لكم السلام أمانة. مِمَن تفتكروا؟ مستر ألفونس والست أم مايكل على سن ورمح.

-نادين: معقول افتكرونا؟

-نسمة: يااااه! هما لسه عايشين؟  

-نعيمة: عاش من سمع صوتك يا ست نِسمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية مصرية، والرواية صدرت مؤخرًا عن الكتب خان .. معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025

مقالات من نفس القسم