رمزية التصوير وأبعادُها الدلالية في “رماد سدوم” لعلال الحجام

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد المسعودي

       تشتغل قصيدة الشاعر المغربي علال الحجام في ديوان “رماد سدوم” من أفق رمزي جلي لا تخطئه عين المتلقي، ويشكل هذا الأفق في تجلياته التصويرية أبعادا دلالية لها صلة وثقى برمزية “سدوم” ورمزية “الرماد” اللتين شكلتا العتبة الأولى في الديوان. فكيف تتمثل رمزية التصوير الفني في النصوص؟ وما أبعادها الدلالية؟ وما تداعياتها الفنية وقدرتها على تشكيل المتخيل الشعري؟ وكيف تسهم في بناء جمالية النصوص؟

       لا شك أن من ينصت بإمعان لنبضات نصوص “رماد سدوم” سيلفت سمعه صوت الرمز باعتباره صوتا قويا يُلحم سدى النصوص، ويشكل قسماتها الكبرى. وهذا الرمز يتغلغل في تلافيف الصور الشعرية ليشكل رؤى الشاعر ونظرته إلى الحياة والوجود وما يجري حوله. ومن هنا، فإن هذه القراءة ستتبع هذا الصوت وتقف عند إشاراته ودقاته العنيفة الصاخبة التي تعلن احتجاجها وموقفها الرافض لما يجري الآن وهنا في راهننا الإنساني العفن.

يقول علال الحجام في قصيدة “أشعة سينية”:

“.. ما الذي يمنع الخفاش إذن..

وهو يصادق المخبر والنشال والملاك والشيطان،

من صون قمقم يضيق بكنزه:

أنفٍ يمتد إلى بيض الأسرار كالثعبان،

كالماء يتسرب    من الثقوب والشقوق،

آذانٍ تطوق     الغاب بسياجها الشوكي.

رؤيةِ كل شئ بالمقلوب

ما عدا ما في الباطن من عَوَر.

مقامرة المعرفة باليقين

على طاولة الإفك والبهتان.

حنجرةٍ تُموه

برياحين الحب فوهة البركان؟

وكل صباح

يفحص بالحاسة السادسة

       صبوات الصقر،

                فكرة النحلة،

                    زقزقة العصفور

    قبل أن يفحصها بالأشعة السينية الطاغوتْ..” (الديوان، ص. 92-93)

       هكذا نرى هذا المقطع القصير المجتزأ من القصيدة المذكورة أعلاه يتضمن رموزا عديدة متنوعة المرجع لكنها تصب في بؤرة دلالية واسعة وجامعة: الخفاش، والثعبان، والصقر، والنحلة، والعصفور، والماء، والغاب، والسياج الشوكي، والأنف، والأذن، وفوهة البركان، والقمقم، والأشعة السينية، والملاك، والشيطان، والمخبر، والنشال.. وغيرها. والمتأمل في هذه المفردات يستشف ذلك العالم القائم على التضاد والمقابلة بين عالم الطاغوت وبين عالم الحرية والوئام والسلام والسعي إلى العيش الكريم وحب الحياة. وبهذا التضاد تبني القصيدة رؤيتها الرافضة المحتجة على عالم يفحص كل شئ بالأشعة السينية دون أن يتمكن من الوصول إلى عوَر باطنه هو وعفنه، وإصراره على تمويه اليقين بالبهتان وتزيين فوهة البركان النتنة برياحين حب زائف.

       بهذه الكيفية نرى كيف تصنع هذه الرموز في تشعباتها متخيل النص، وتمضي بأبعاده الدلالية لتصور وضع الإنسان في ظل عالم الطاغوت المعاصر الذي لم يكتف بالمخبر والنشال وخفاش الظلام ليهزم صبوات الصقر، وفكرة النحلة، وزقزقة العصفور، وإنما أضاف إليها الأشعة السينية، وهي رمز يرمز به الشاعر إلى الاختراعات الحديثة التي وظفت لمزيد من قمع الإنسان ومحاصرة حريته وتطلعاته إلى الحياة الجميلة والعيش الكريم. ومن خلال كل هذا كان مرتكز التصوير الشعري في النص متمحورا حول هذه الرموز في إشاراتها الغنية والدالة، وفي ارتباطها بالدلالة الكبرى التي تتغيا القصيدة إيصال فحواها إلى المتلقي.

ويقول الشاعر علال الحجام في قصيدة “بعمر البرق”:

“.. نام ليلة مبحرا في الريش

          يخفره اللؤلؤ

الياقوت والمرجان،

وصحا على خواء حالكٍ

ينكأ جرحه بالملح الألمُ

في قمقم صدئ

يتنازل فيه البعث والشك والإيمان والعدمُ

أهو الغجري الأخير يردد أغنية في البال

انتهى أمرها ذات هيام أخرسه البكمُ؟” (الديوان، ص. 123-124)

في هذا النص الشعري يستثمر الشاعر رموزا أخرى لتصوير مُضي عمر الإنسان وسرعته، فإلى جانب الصورة الاستعارية في عنوان النص: بعمر البرق، نجد: الملح، والقمقم، والغجري الأخير، وأغنية، والخرس، والبكم.. وتجتمع هذه الرموز لتزكي الصورة الأساس التي انبنى عليها النص وشكلت متخيله: صور انفلات العمر وذهابه السريع نحو مهاوي العدم والبعث والشك والإيمان. ونلمس أن هذه الرموز تنخرط، بدورها، في سياق يقوم على ثنائية ضدية بين لحظتين: لحظة الصبا والشباب (زمن الريش واللؤلؤ والياقوت والمرجان)، واللحظة الراهنة، لحظة الكهولة والشيخوخة (الخواء الحالك والعيش في قمقم صدئ يتنازل فيه البعث والشك والإيمان والعدمُ).

وهكذا نلمس أن الرمز الشعري في هذا النص يشكل متخيله ويبني دلالاته انطلاقا من رؤية تحتج على وضع الإنسان وترفض المآلات الحزينة للكائن الذي يخترمه العدم، ويظل موزعا بين الإيمان والشك، والحياة والعدم، والذي يمضي زمنه، وكأنه ليلة واحدة نام خلالها في جو من الرخاء والنعيم ليصحو فجأة وهو يحيا في قمقم صدئ يكتنفه الأسى، وفي باله أغنية هيام خرساء بكماء لا يستطيع إعلانها لتعبر عن عشقه للحياة وارتباطه بها.

وفي قصيدة “قلعة في هاوية” يقول الشاعر:

“والآن وقد أمسى الحق

مشهدا ملتبسا في كوميديا

حينما تخلت الواحة عن طفولتها

وغدا النور امتدادا للديجورْ،

أما زال طوطِم واحد يحلمُ

بمؤاخاة الصقر للعصفور؟” (الديوان، ص. 134)

       يرصد الشاعر، في هذا المقتطف القصير من قصيدة “قلعة في هاوية”، وضعا ملتبسا صارت إليه “الواحة” رمز الجنة أو الفردوس بحيث ضاع الحق في مشهد هزلي غدا فيه النور ديجورا، ومن ثم لم يتحقق حلم الطوطم في تآخي الصقر والعصفور.

هكذا نرى الشاعر يشكل متخيله، ويبني دلالة هذا المقطع الذي يتصادى مع باقي مقاطع القصيدة ليشخص وضع الهندي الأحمر في “لاس فيكاس” الأمريكية، وما آل إليه مصير الإنسان في هذا الصقع. والملاحظ أن الشاعر يوظف رموزا تتصل بالطبيعة ليوحي بما رامه وما قصده في نصه: الواحة، والصقر، والعصفور، والنور، والديجور. والمدار في هذا التوظيف هو تصوير حقيقة ما صار إليه سكان البلاد الأصليين في أمريكا، بحيث فقدت “الواحة” التي عاشوا فيها براءتها وطفولتها العذبة في ظل وضع الظلم والقهر وفرض القوة على الآخر الذي جاء بقدوم الرجل الأبيض. وبهذا فإن العصفور لا يمكن أن يؤاخي الصقر أبدا.

بهذه الرموز القليلة والمكثفة استطاع النص أن يوحي بدلالات كثيرة، ألمحنا إلى بعضها، ولعل القارئ يتمكن من اكتناه أبعاد أخرى.

لكن الشاعر لا يظل رهين “سدوم” ولا يحرقه رمادها أو يطمر أحلامه وأشواقه، بل نجده يتغنى بالحياة بما يهزم اندثار سدوم ويجعله ينفلت من شرنقتها القاتلة. ومن هنا كانت نبرة الرفض والاحتجاج على الزمن السدومي جلية في الديوان تحول الرماد ترابا خصبا قابلا للعطاء والتجديد. وفي هذا السياق تكثر الصور الرمزية البديلة لرمزية سدوم ورمادها. ومن ثم كانت جدلية التصوير أو ثنائيتها سمة تكوينية في نصوص الديوان. وفي هذا السياق يمكن أن نستشهد بآخر مقطع من قصيدة “رماد سدوم” التي حمل الديوان عنوانها، وهو مقطع ينتهي به الديوان، وكأنه خاتمة للكتاب، خاتمة تحمل الأمل، وتكشف عن روح متشبثة بالحياة، رافضة لكل ما يتصل بعالم “سدوم” ودلالاته المحيلة على الخطيئة والغياب واليأس والموت وغيرها من المعاني التي اشتغلت بها نصوص الديوان:

“طالما أنا حي

فأنا أمشِّي القلب

بين الساحة والحديقة فجرا

(غير مكترث بالملقن الهامس في حفرته،

ولا بالموت اللاهث

خلف طواحين الزمان)،

باحثا عن عشبة نديّة

تسعدني ولو هنيهة أخرى” (الديوان، ص. 157)

نلمس في هذا النص، أيضا، توظيف الشاعر لرموز تتصل بالطبيعة، ويحيل بعضها على أسطورة “جلجامش”، وذلك البحث الإنساني عن عشبة الخلود، لنجد الشاعر علال الحجام لا يبحث عن عشبة “جلجامش” ذاتها، إنه يبحث عن عشبة لا تهبه الخلود، وإنما تمنحه السعادة ولو لهنيهة، وتجعل القلب الذي ينفتح على العالم الرحب يحيا فجره ولو برهة، ليكون الأمل تعويذة ضد الموت اللاهث، وضد طواحين الزمان.

من خلال كل ما سبق يمكننا القول مع الناقد كمال أبو ديب إن الرمز في تجربة علال الحجام عنصر “لا يرتبط بجزئية داخل النص، بل بوجود النص كله، والرمز بهذه الصيغة هو رمزية النص الشعري المكتمل لا رمزية التغيير الجزئي أو الصورة ضمن النص” (كمال أبو ديب، ثقل التاريخ وشهوة ابتكار العالم، مجلة “الأقلام” العراقية، العدد 1، 1986، ص.32، عن علال الحجام، خمائل في أرخبيل، قراءة في خطاب الميتالغة عند أدونيس، سليكي أخوين، طنجة، 2022، ص. 140-141)

………………………….

علال الحجام، رماد سدوم، مقاربات للنشر، فاس، 2024.

 

 

مقالات من نفس القسم