منى العساسي
قضى مراد ليلته برفقة جيهان، بعد علاقة روتينية باهتة، ارتمى إلى جوارها جثة، حتى استيقظت على بكاء ابنتها، مالت تُلقمها ثديها المتهدل وهي غافية، نهضت في وقت متأخر من الصباح، استجمعت جسدها في هدوء كي لا تزعج طفلتها، بينما كانت في المطبخ تجهز الفطور، قام هو مفزوعًا على اتصال من طليقته، زلزلته بمشاجرة جديدة بين ابنيهما، ارتدى ملابسه على عجل، سحب مفاتيحه وركض إلى الشارع دون أن يُخبر أحدًا، لم تشعر به جيهان أثناء خروجه، كانت غارقة في المطبخ تُحصي ما تحتاجه من خضراوات وتوابل ومنظفات، لتترك له طعام الأسبوع مطهوًّا ومعلبًا في الفريزر قبل أن تعود إلى الإسكندرية، فقد كان أحد شروط زواجهما أن تبقى مقيمة هناك مع ابنتيها من زيجتها الأولى، تأتي كل أسبوع أو أسبوعين لقضاء يومين أو ثلاثة معه، أو يذهب هو إليها كلما أتيحت له الفرصة.
بينما هي على هذه الحالة سمعت بكاء «لارا»، ركضت إلى الغرفة كالزرافة تطقطق الأرض تحت قدميها، وجدتها تفترش الأرض، فمها وأنفها ينزفان، ضمَّتها مرتعبة وجلست تهدهدها، وتنادي مغتاظة على زوجها، ظنَّت أنه في الحمام أو المكتب، عقَّمت جراح البنت وجلست تُرضعها لتهدأ حتى غازل النعاس عينيها، كادت تستغرق في النوم قبل أن يُفزعها الرنين المتكرر للهاتف، قضمت حلمتها بسنتيها الحديثتين، فجزعت من الألم، لكنها برغم ذلك ردَّت على مكالمته، اندفعت دون مقدمات تلومه على خروجه بهذه الطريقة، واسترسلت تخبره عما حدث لطفلتهما، لم تشعر في صوته بأي إحساس بالأسف أو الانتباه حتى وهو يجيبها:
– معلش يا حبيبتي، العيال ضربوا بعض، وسارة اتجننت وطردت هايدي من البيت بعد ما طلبت الشرطة لأخوها، البنت نزلت الشارع من غير تليفون، محدش عارف راحت فين.
وصل إلى شقته السابقة، أو بالأحرى شقة الحضانة التي أخذتها سارة منه بقرار المحكمة، دخل منفعلاً يريد ضرب يوسف، لكن أمه لم تسمح بذلك، تدخلت سارة تمنعه، أخبرته أنها من طردتها بعدما شكت له تصرفاتها التي لم تعد تُحتمل، مما جعله ينفعل ويدفعها بقوة ليزيحها من طريقه متهمًا إياها بالجنون والفشل، مرددًا كالعادة اتهاماته بأنها السبب في ضياعهما، لم تحتمل إهانته وتشكيكه في أمومتها، بعد أن رفضت الزواج أكثر من مرة لأجل تربيتهما، انهالت عليه بسيل من الشتائم والاتهامات بالتخلي والتقصير، وعدم تحمُّل المسؤولية، وزواجه بأخرى، في داخله كان يردد متهكمًا: ومن يسمي الزواج بجيهان زواجًا ونحن لا نلتقي إلَّا كل حين وحين؟!
انتهى الأمر بنزوله الى الشارع يبحث عن ابنته، قضى نهاره يفتش عنها دون جدوى، حتى عاد بعد اتصال يخبره بأنهم وجدوها عند صديقتها «شروت» التي تقيم معهم في نفس الكمبوند.
عندما دخل وجد جيهان مكوَّمة على كنبة في الصالة، بينما «لارا» نائمة فوق بطانيتها على السجادة بالقرب منها، اتجه إلى غرفته دون كلام، غاظها هذا كثيرًا فلحقته والغضب يفور في عروقها، نظر إليها وهو يخلع حذاءه يحذرها من خوض أي نقاش الليلة، فقد كان يومه حافلاً، كعادتها لم تستطع كتم غضبها، انفجرت كقنبلة منزوعة الفتيل في وجهه، تعيد عليه شكوكها المعتادة حول طليقته وأولادها الذين لا يهتم بسواهم، لا يُلقي بالاً لها هي وأولادها، واسترسلت:
– أنت حتى ما سألتش عن حال «لارا» بالرغم من إني قلت لك الصبح على اللي حصل لها.
– أجابها بنبرة منهكة لا تخلو من التهكم: يا ستي هو أنا ماشي معاكي ولا متجوزك عرفي، ما انا معاكم طول الوقت، عايزاني أعمل إيه؟ أسيب بنتي في الشارع وابني في القسم عشان أبقي مهتم بيكم؟
جرحتها سخريته، فاندفعت تعدد له أفعاله وتصرفاته مع كل اتصال من طليقته، وكيف أنه لا يراعي مشاعرها. لم يستطع كظم غيظه، صبَّ عليها ما يعتمل في نفسه من غضب طوال اليوم: إنتي ما بتشبعيش نكد، إيه يا شيخه ده؟ أنا النكد اللي شفته معاكي ماشفتوش في عمري كله.
لكنها انفجرت تتهمه بالأنانية، وعدم التفكير فيهم، وعدم العناية بأي شأن يخصهم.
لم يستطع تحمل ما قالته، نزلت كلماتها عليه كلسعات كرباج، طلقها دون أدني تردد أو انفعال أو ندم، ألقى بها خارج حياته كمن يُلقي حذاء دفع فيه الكثير لكنه في النهاية لا يستطيع لبسه أو المشي به، فهو ضيِّق عليه، يجرح قدميه في كل مرة يرتديه.
.
أمضينا أنا ورؤوف ليلة طويلة في أحد ملاهي فينيسيا، تجرعنا فيها زجاجتين من النبيذ الإيطالي القوي، غادرنا الملهى وسرنا معًا سكارى في شوارع المدينة، نرقص ونغني أغنياتنا المفضلة، مررنا على المتحف الذي زرناه هذا الصباح، والذي شاهدت فيه تمثيل «أرسطوطيل دي سانجو» للوحة معركة «كاسكنيا» نقلاً عن الرسم التمهيدي الذي فُقد؛ كان من المفترض أن تزيّن القاعة الكبرى لمجلس مدينة «فلورنسا» الجديد، معركة كاسكينا التى دارت خلال الحرب بین «پیز» وفلورنسا سنة ١٣٦٤، لم ينتق أنجلو من فصولها سوى لحظة كان الجنود الفلورنسيون يستحمون في نهر «الأرنو»، فإذا بنفير التحذير ينطلق معلناً هجوم العدو.
خلعت حذائي وسرت حافية، حتى وصلنا إلى أحد جسور قنوات المدينة العريقة، حلَّ علينا التعب، جلس رؤوف مرتكنًا على السور، أسرعت كقطة سيامية أمد رأسي وجسدي على صدره، ضمني برفق، ودون أن أدري شعرت بأنني في أحضان «أنجلو»، لا أعرف لماذا تملَّكني ذلك المشهد؟ حركة الجنود الممتطين صهوات الجياد، العراة الذين يتسلقون بجهد ضفة النهر المنحدر، من يجثون لأسفل، من يتناولون أسلحتهم، من يهمون بارتداء ثيابهم، من يهرعون عراة صائحين. خطر لي أن أسأله عن سر ذلك الاختيار الذي يمتلكه الفن وحده، إذ كيف للجندي أن يقاتل عاريًا؟ حيث إن الحياة سلسلة من مقاومة العرى، أجابني: أردت أن أحفز الفلورنسيين على اليقظة الدائمة حتى لا يأخذهم عدوهم على حين غرَّة، الحرب التي استمرت ما يقارب الثلاثة عشر عامًا، دفع مقابلها الفلورنسيون ثمنًا باهظًا، واسترسل وهو منهمك في عمله: أشعر بفرشاته القوية تحرث جسدي، جسم الإنسان هو مرآة كل ما يحدث في الداخل من انفعالات شديدة التنوع، الهلع الذي يصيب أرواحهم جميعًا بوابته الوحيدة هي الجسد. أمَّنت على كلامه، وبالفعل كانت لوحته أصدق تصوير للخوف دون أن يعتدي على صدق التاريخ، فقد بدت اللوحة كأنها القيامة.
***
انتبهت على الضوء المنبعث من شاشة الهاتف، كان الاتصال الثالث من مراد، أخبرني أنه بالمنيل ويحتاج للحديث معي، اعتذرت بحجة أنني ما زلت في المعادي، لكن الحقيقة أنني لم تكن لديَّ رغبة في لقائه، كان يختلج في نفسي ما يكفي من هواجس حول التغيرات التي تحدث لي، بطريقة ما كان عقلي دائم المقارنة بينه وبين رؤوف، رؤوف – رغم قصر الفترة التي قضيناها معًا، ورحيله المبكر – لا أزال أشعر به في دمي، في روحي، مراد يشعر بذلك أيضًا، لكنه يتجاهل الأمر، لا أعرف لماذا.
أتذكر الطريقة التي تودَّد لي بها، وإصراره على مطاردتي منذ التقينا أول مرة في مكتبة الجامعة، انجرافه المبالغ فيه والذي لم يستطع السيطرة عليه منذ اللحظة الأولى. كل هذا جعله يُكمل طريقه حتى النهاية، تواطأ مع نفسه على إيجاد صورة تقبلها كرامته، ومن سخرية القدر أنني بالرغم من إدراكي لكل هذا أصبحت زوجته، حتى وإن كان زواجًا عرفيًّا يسهل تهشيمه فور تمزيق الورقة.
في تلك اللحظات التي توهمت فيها أنني ألعب دور الصديقة لمراد، يحكي لي وهو يوشك على البكاء عن علاقته المضطربة بأم أولاده، أذكر تلك الحكايات التي كان يسردها على مسامعي رجل يحمل في كل مرة يذهب فيها إلى مرسمه زجاجة ويسكي، ويمضي وحيدًا يعب منها حتى يسقط صريعًا، يضنيه الشعور المخيف بهجران زوجته له، يحكي عن حبه وجلوسه تحت قدميها يلبي كل طلباتها، حتى تأتي تلك اللحظة التي يعصف به فيها الحنين، فيسبها ويلعنها، ويعود يشتهيها ويتلصص على ذكرياته معها، يفعل ذلك كله في آن واحد، يتحدث عنها طوال الوقت بالسباب والشتائم، وفي جوفه يتعبد لها كناسك يستغفر إلهه الذي قرر فجأة طرده من رحمته.
يتلذذ بتذكر إذلالها له وتنكيلها به في نشوة «مازوشي» يجد في الألم متعة، لا أعلم هل هذا الضعف هو ما دفعني إليه، في تلك الأوقات كان يبدو كشلالات من العواطف المضطربة.
ذات مرة قال لي إنه على استعداد كامل أن يتحمل أي شي منها إلّا أن تطرده من حياتها، ولا ينفك يتساءل مندهشًا: لماذا طلقتني؟ في هذا اليوم شرب حتى ذهب عقله، وتحولت كل النساء في عينيه إلى سارة بجسدها البض وشعرها الأملس ونحرها الطويل، لا يكف عن ترديد اسمها كمجذوب.
***
على مقربة منه جلست جيهان في منزله وحيدة في الظلام تنعى هي الأخرى حظها، تسأل نفسها ماذا تفعل، هل ستواجه زلزال الطلاق ثانية؟ هل ستقف أمام هذا المجتمع العاهر مرة أخرى تحمل لقب مطلقة مع طفلة جديدة؟ طفلة أنجبتها خصيصًا لتستمر هذه الزيجة؟ الزيجة التي يُفرغ فيها كل منهما طاقته الجنسية التي فجَّرها فشله في حياته السابقة دون حرج، لكنهما ربما تناسيا أن الأجساد لا تبقى مشتعلة بالرغبة للأبد. أدركت جيهان هذا، وسارعت بإنجاب «لارا»، لتُثبِّت أوتاد خيمة زواجها الذي أصبح فشله محتومًا، تشعر بأن صيدها الثمين سيهرب منها، تدرك أن في ذهن الجميع دائمًا حقيقة خفية، مقارنة غير معلنة، تعلم أن كل شهقة من مراد تلهث صاخبة فوق جسدها هي حنين خفي لطليقته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية مصريّة .. الرواية صادرة عن بيت الحكمة .. معرض القاهرة للكتاب 2025