عصـام الزيــات
عجايبي
تقتحمُ سيارةُ الشرطة الحَشْدَ المُتكدِّس أمام البيت، يُفسحون لها الطريقَ وأعينهم مُعلّقة بمن فيها، اليوم هو موعِدُ تمثيلِ الجريمةِ.. تمضِي القضيةُ سريعةً؛ فالنيابة تخشَى إذا طالت المدةُ أن تنفجرَ بؤرة دمٍ جديدة في القريةِ.
نزَل من سيارة الشرطة شابٌّ طويلٌ، رأسه فيه صلَع خفيفٌ من المقدمة، يرفع يده ليحمي عينه من الشمس؛ شمس «عزبة جهنم» حامية طوال العام، لكنّها في الصيف تتحوَّل إلى كُتلة لَهَب؛ ربما لذلك أطلَقوا عليها اسم «عزبة جهنم»
عاش عُمره في شمس «العزبةِ» ثم شمس الخليج، لكن يبدو أن ظلامَ الحبسِ قد أنساه الضَّوءَ، وجعله يُنكر الشموس كلّها.
يدفعه أحدُ العساكر ليتحرّك نحو المنزل حيث سيُعيدُ تمثيل جريمتِه.. خُطواته ثقيلة؛ فأذُنُه تُحاول استراقَ بعض الكلمات من الحَشْد المُحيط به لعلّه يعرِف لماذا لا يرى أهلَه بين الناسِ:
«أنتَ على حقٍّ»
«أنت تستحقُّ القتل»
«لا نُصدِّق موضوع الطعام»…
لا يفرح لكلماتهم ولا يحزَن.. يتقدّم ببطءٍ نحو مسرح الجريمة ليصعَدَ على خشبته بطلًا لإقامة عَرْضِه. ليس عَرْضًا أعجب الجمهور فطالبوا بإعادتِه، رغم أن هذا الحشد يُخبرك أن التذاكِر كانت ستنفد لو أن الشرطة خصِّصت تذاكر لكلِّ تمثيلٍ للجريمةِ.
يدفَعه أحد العساكر قائلًا: «ما دُمت جبانًا كنت سلّمتها لأهلِها»
لا يعرف العسكري أن وقوعَ الجريمة يختلفُ عن إعادةِ تمثيلها. في الحادث الأصلي يكون وَعْيكَ متواريًا خلفَ شعورك بالغضب ورغبتك في الانتقام، يكون الحادثُ وليد لحظةِ غضبٍ واحدةٍ، لحظة انفجَر فيها بُركان التراكُمات في وجه شخصٍ سيئ الحظّ، تصادف وجوده في الوقت الخطأ ليدفَع روحَه ثمنًا لأخطاء الكَوْنِ، دون النظر هل ارتكب هو خطأً من الأصل، أو هل كان خطؤه يستحقُّ القتل.
تقطَع سيدةٌ غاضبة الطَّوْقَ الأمني فتصمت الهَمْهمات.. تنفذ إلى «عجايبي».. تصفعه، وتبصُق عليه، تُخبره أنه حتى لو أعدَموه فلن تبرد نارها؛ توعَّدته أنها ستصل إليه في سِجْنه قبل أن يصل إليه حبل المشنقةِ، لتذبَحه كما ذبَح ابنتَها الوحيدة.
تلطمُ خدَّيها قائلةً: «أنا السّبب»
لطمت خدَّيها وأكمَلت: «قلت لهم عجايبي لُقطة»
استمرت في صَفْعِ نفسِها دون أن تنطقَ، تلوم نفسها أنها مَن جعلتهم يتردّدون في رفض «عجايبي».. وأنّها الآن ترَى نفسها الأمَّ التي ساقت ابنتها بيدها للكلب المسعور الذي نهَش روحَها وشرَفها.
منذ وصلت الأمُّ إليه.. أغمض «عجايبي» عينيه لتفعل به ما شاءت، كانت لحظات غضبه قد تلاشت، ودوافع قتلِه قد اختفَت، وتبقَّى «عجايبي» الذي يشعُر أنه خذَل الجميع.
فتح عينيه لينظر إليها فجفلَت الأمُّ حين رأت عينيه تُفتحان.
هى خالته، لكنها لم تعُد ترَى فيه «عجايبي» ابن أُختها.. صار وحشًا يقتل بلا رحمة، يقتل لأوهام في رأسِه.
قطَعت دَفعةُ العسكري له الردَّ الذي كان ينوي قولَه.
تقدّم آخر لسحب الأم بعيدًا، كأن العساكر تآمروا ليسمحوا للأم بالتقدم وصَفْعه، ثم تآمروا لجرّه بعيدًا بالكلمات التي ابتلعها.
مضى الحشدُ خلف مجموعة العساكر التي تجرُّ «عجايبي» نحو شقة الزوجية. مسافة طويلة تفصِل بين مكان وقوف سيارة الشرطة والمنزل، لكنَّ الشارع أضْيَق من أن يسمح بمرور سيارة.
رأس «عجايبي» لم يتوقّف عن الدَّوران للأعلى؛ من شُرفة بيت لشباك بيتٍ آخرَ.
في الوجوه التي تراقِب نظرةٌ غير الإشفاق عليه أو الخوف منه.. نظرةٌ لا تبدو متفاجئة بجريمةٍ كهذِه، ربّما لأن القتل فِعلٌ معتادٌ في «عزبة جهنم»، قريةٌ منسيّة من قرى الأقصُر.
لكنهم لم يعتادوا الذبح.. أهلها والطب الشرعي يقولون: إنها لم تُذبح. لكنَّ أهالي القرية متأكدون أنه ذبَحها، هم يألفون الرصاص والقتل ثأرًا بين الرجال، أو أن تَقتُل المرأةُ زوجها، أو يقدّم الرجل زوجته لأهلها ليقتلوها إذا علم عنها ما يَمسّ الشرَف، لكنْ لا يذبَحُ زوجٌ زوجتَه.
نظرتهم لا تحمل المفاجأة، بل المعرفة، نظرتهم تقول لـ«عجايبي» كنّا نعرف أنك لا بد أن تختم قصتك بجريمةٍ.. حياتك التي بدأتها مهندسًا يحمل حقيبة ظهر ومسطرة خشبية طويلة ثم انحدرتَ إلى سائقِ ميكروباص في أوسطها كان لا بدَّ لها أن تنتهِي بتلك النهاية.
حاول «عجايبي» أن يتلافَى نظراتهم، لم يرَ أباه ولا أخواله أو أعمامه وسط الحشد، ولا أمام البيت حين وصل إليه.
منعتهم الشرطة خوفًا من اشتباك بين العائلتين؛ فعائلة «إنجي» تراه مجنونًا قتل ابنتهم بشكِّه، أما عائلته والناس فيرونه رجلًا انتقم لشرفه حين اكتشف خيانة زوجته.
آثرت الشرطة أن تمنع مزيدًا من الدم، فاستدعَى محافظ الأقصر كبار العائلتين لملاقاته في وقت تمثيلِ الجريمة كي لا ينفعل أحدُهم فتبدأ حرب لا تنتهِي.
بين الحشد لمح «عجايبي» الدكتور عمران، طلب «عجايبي» من العساكر أن يسلّم عليه لكنهم رفضوا.
لوَّح له الدكتور فأشار له «عجايبي» برأسه، ثم اختفَى رأس «عجايبي» في مدخل البيت.
عين «عمران» تراقب ما يحدث وبداخله شعور واحد، أنه يكره هذه القرية، والبلد كله.
……..
عمران
كره الأقصر فور دخوله القطار مسافرًا إليها للمرة الأولى.. لعن الركاب والوزارة ولعن نفسه، غُرست قدمه في عُلبة زبادي ملقاة في طُرقة القطار، فلعن نفسه مرة أخرى.
وصل إلى مقعده أخيرًا، يجرُّ حقيبته التي انكسر مِقبضها قبل وصول القطار ببضعِ دقائق. رائحةُ البول والسجائر تملأ العرَبة، حجز القطار المكيّف كي يهرب من تلك الروائح.
«أين المفر»، قالها لنفسه.
ركاب القطار المكيّف هم ركاب القطار العادي، كلّنا أمام نِداء الطبيعة والنيكوتين واحدٌ.
القطار وصل إلى محطة «طنطا» الواحدة صباحًا، متأخرًا بساعة عن موعده. كان متهالكًا يبدو أنه يجري على تلك القُضبان منذ أيام الإنجليز، لكنَّ محصِّل القطار سيخبره أن القطار دخَل الخدمة منذ خمس سنوات فقط.
لم ينفعل لهذا التأخير.. أكسبته الحياة مفهومًا خاصًّا عن الوقت، الساعةُ والساعتان أخفّ الأضرار في مسألة التأخير، المهم أن يأتي القطار. لكن على ما يبدو أن التأخير ما زال يُزعجه، لكنه يكتم غضَبه، يتربص ذلك الغضب بأهون سبب لينفجرَ، وكانت عُلبة الزبادي هي الإبرة التي فجَّرت هذا البالون المليء بالغضب.
أسند رأسه إلى الشباك المُغلق إلى جواره.. يرى الناس يفردون البطاطين، وبعضهم يلبس «جاكت» ثقيلًا، الأطفال يتكوّرون في أحضان أهاليهم، والأمّهات يُلبِسن الرُّضَّع حفاضات جديدة.. هو يرتدي نصف كمٍّ، و«بنطلون جينز» ضيّقًا.
لكنه لم يكتشف أنه بحاجةٍ إلى ارتداء بنطالٍ في سفَره إلّا بعد أن حزم الحقيبة وأغلقها بصعوبة، أقسم أنه لن يفتح هذه المغارة إلا حين يصل إلى المستشفى، فربما تنقطع السوستة. وهذه السفرية مليئة بالكوارث؛ فعليه أن يسكت وألَّا يفعلَ أي شيء وإلا لن يسافرَ. أخرج بنطالًا قديمًا لم يرتده أبدًا، لكنَّ «نسرين» أصرّت على أنه يلائمه فارتداه.
ملابسه في الحقيبة كلها صيفيّة، الفصل الأبديُّ في العالم حاليًّا هو الصيف، منذ أعوام فقدتِ البشرية رفاهية الفصول. كما أن الأقصر لا تحتاج إلى التوقيت الرسميّ لفصل الصيف كي تكون حارّة؛ لذلك يسأل نفسه ساخرًا: «لماذا يتدثر هؤلاء كأنهم مسافرون إلى القطب الشمالي، بافتراض أن القطب الشمالي ما زال باردًا؟»
التفت إلى الجالس إلى جواره يخبره: «القطار سيصل غدًا إلى الأقصر، وليس في فصل الشتاء».
قالها وهو ينتظر ردًّا ما من المستمع، لكنَّ المستمع لم يضحك ولم يرُد.
اكتَفى الرجل بوضع سماعة الأذن في رأسه، وعدّل وضع مخدّة الرقبة شِبه الدائرية حول رقبته وأغمض عينيه.
«عمران» لم يُحضر سمّاعة، ولا مخدة رقبة، كانت أول مرة يرى تلك الأشياء بهذه الكثرة. سافر كثيرًا من طنطا إلى القاهرة. الأدق أنه قضى حياته كلها مسافرًا من طنطا إلى القاهرة، وعائدًا من القاهرة إلى طنطا كي يعود إلى القاهرة لاحقًا. مصر هي القاهرة في رأيه. ليس حبًّا في تلك العاصمة الكئيبة، بل يرى أن تمركُز كلّ شيء فيها جعلها هي الجمهورية الحقيقية. وباقي المحافظات ليست إلا فنادق ينام فيها الناس بعض الوقت كي لا تتكدّس بهم القاهرة أكثر من تكدُّسها الحالِي.
اهتزّ القطار 934 اهتزازة تنبيه للركاب أنه على وَشْك التحرُّك، كي يجلس الواقف، ويركَب الجالس على رصيف المحطة. أرجع كُرسيّه إلى الخلف ليفرد ظهره قليلًا. تحرك القطار فبدأ الركاب في إخراج الطعام من حقائبهم، وصبِّ الشاي من غلّايات لم يدرِ من أين خرَجت.
سمع كثيرًا عن «قطار الصعيد» لكنه لم يجرِّبه، والآن يرى كلّ شيء.
تعجُّبه مما حولَه يوحِي بأنه سائحٌ جاء من دولة أوروبية، لكنه «ابن طنطا» منذ أربعة عقود أو يزيد قليلًا، في مرحلة لا يعرف متى حدثت توقف «عمران» عن حساب عُمره أو ترقّب يوم ميلادِه.
ربما بدأ الأمر بعد إنجاب طفله الأول «عمران» في نفس شهر ميلاده، فكانت «نسرين» تختار ميعاد الاحتفال في يومٍ وسط بين التاريخين. ثم بعد ولادة «نرمين» بعد 4 سنوات في شهر مختلف، قررت «نسرين» أن يكون هناك حفل سنوي واحد في موعد مختلف عن تاريخ ميلاد الطفلين، وميلاده، ليكون عيد ميلاد مُجمّعًا. لم يدرك أنها اختارت يوم 10 أكتوبر تحديدًا؛ لأنه يوم ميلادها هِي، إلّا بعد أن لفتت أمّه نظَره.
حين أخبرته أمه بتلك الملاحظة ابتَسم لها ولم يُعلق، لا يهمه أي شيء إلا أن يكون البيت هادئًا، وأن يظلّ الشِّجار بين «نسرين» وأمّه في حده الأدني دائمًا، وعمومًا لم يكن مباليًا بأعياد الميلاد.
نصف ساعة من تحرك القطار وبدأ الركاب يتهيئون للنوم. لم يَعْتَدِ النوم في المواصلات، فكانت دائمًا أقصر من أن يغطَّ في النوم، لكنَّ رحلة الأقصر تستغرق 11 ساعة، فلا بدّ أنه سينام فيها، لكن ليس في أول نصف ساعة.
ارتفع الشخير وبكاء الرُّضع الذين تجبرهم أمهاتهم على النوم. أدرك الآن فائدة سماعة الأذن، لكنه لم يُحضِر واحدة؛ لأنه لا يملك واحدة. لسوء حظه أنه يحب الاستماع للناس والحديث معهم، ويرى السماعات فعلًا غيرَ إنساني.
لولا أنه صار مؤخرًا طبيبًا نفسيًّا ولا يليق به القول بنظرية المؤامرة، لقالَ إنّ السمّاعات اختراع هدفه حبس الناس في خيالاتهم، كي لا تتواصل البشرية، ويغرقون في شعورهم الخاص فلا يساعد بعضهم بعضًا. فبدلًا من أن يسعَى الواحد للفضفضة، أو التشاغل عن حُزنه، أو ينشر فرحته للآخرين فيُخفف ما بهم من بؤسٍ، يختار كل فرد أغنيتَه حسب شعوره الحاليِّ ليضاعفه.
الأصوات أخذت في الارتفاع كلّما انضم فرد جديد لكتائب النائمين، الحلُّ الآن هو أن ينام مثلهم.. لو لم ينمْ فسيُوقِف القطار ويعود إلى طنطا، يعود لمديرية الصحة ليقتل مدام «إيناس» التي وضعت اسمه في تلك المأمورية الملعونة لتُخرج منها زميلًا له تصادف أن اسمه الثلاثي على اسم ابن مدام «إيناس»، رأت فيه ابنها فلم تُرِد له البهدلة في «عزبة جهنم» حيث يوجد المستشفى الذي يأكُله العجزُ ويحتاج إلى شباب الأطباء كي يمنعوه من الانهيار.
خبط بيدِه على الشباك قائلًا: «لو عدت سأقتل ابن مدام إيناس ومَن سمّاه». لكنه ابتسم حين تذكّرها وهي تُخبره بأن المستشفى بحاجة إلى شباب الأطباء، فَرحَ أنهم ما زالوا يحسبونه على الشباب، رغم أنه جاوز الأربعين بعامٍ أو اثنين.
حاول أن يستند إلى الكرسي لينام فوجد رقبته غير مرتاحة، تحتاجُ إلى شيء يدعمها، لكن لا شيء؛ لهذا يحمِل هؤلاء الركاب على اختلاف طبقاتهم مخدات للرقبة، ومن لا يملك المخدة لفَّ فوطة أو ملاءة سرير وضعها حول رقبته.
في الحقيبة ملاءات وثلاث فوط، لكنه لن يفتح الشنطة.. حشرها ولن يُخرجها، ولو حاول فلن يستطيع، وربما تسقط على رأس الجالس إلى جواره فتقتُله.
تذكر نصيحة زميل له أنه منذ اللحظة الأولى لركوب قطار الأقصر أنت لست طبيبًا ولا إنسانًا، أنت فرد بلا قبيلة تحميه، ولا عائلة تثأر لموته؛ لهذا انكمش في كرسيّه منذ اللحظة الأولى متجنبًا طلَب الصمت من أي أحدٍ، أو رجاء الجالس في مقدّمة عربة القطار أن يُطفئ سيجارته؛ ولهذا لن يفتح حقيبته، لن تنخلع فقرات رقبته لو ظلت بلا دعامة بضع ساعات. حتى لو انخلعت لعاد إلى المديرية بعُذر طبي فأعفوه من تلك المأمورية.
تناسَى موضوع رقبته حين صدمته الحقيقة الجديدة، يحتاج إلى دخول الحمام. التكييف الذي يعمل على مدار الساعة جعل عربات القطار كالقُطب الشمالي فِعلًا. لم يتخيل أن شيئًا يعمل بهذه الكفاءة في بلادِه، لكنَّ التكييف يؤدي واجبه على أفضل صورة.
استأذن من الجالس إلى جوار الطُّرقة ليقومَ نحوَ الحمّام، وقَف أمام الحمّام دقيقتين يجاهد نفسه لتتغلب على تأفّفها من رائحته، انتصرَت الطبيعة عليه في النهاية فدخَل.
استأذن من الرجل مرة أخرى ليعود إلى مكانه.. عاد وبعد ربع ساعة اكتشف أنه يريد الذهاب مرة أخرى؛ لهذا إذن يدفِن هؤلاء أنفسهم تحت البطاطين والجواكت الشتوية. اكتشف «عمران» أنه لم يعرف شيئًا عن السفر إلى الأقصر، رغم أنه سأل وتقصَّى كثيرًا عن المستشفى ومواعيد القطارات، لكن لم يُخبره أحدٌ بتلك الأشياء. لم تمضِ من رحلته إلا ثلاث ساعات، عليه أن يقضِي ثماني ساعات أخرى في هذا الجحيم البارد.
في المرة الرابعة انفجَر فيه الرجلُ، القِيام المُستمر يمنعه هو الآخر من النوم. اعتذر له «عمران» بأنه أوّل مرة يسافر ولا يعرف أي شيء بخصوص البطاطين والجواكت. نظر إليه الرجل نظرة مُطوَّلة، لا تعاطُف فيها ولا تفهُّم، خطر لعمران أن الرجل لا يفكّر إلا في شيء واحد؛ هل يقتله الآن أم حين ينزل من القطار؟!
أزاح الرجل قدمه فذهب «عمران» إلى الحمام. عاد فوجد الرجل واقفًا يحمل له دفّاية من الصوف، وكوبًا ساخنًا من الشاي اشتراه من مقهَى القطار. مذهولًا أخذ «عمران» الأشياء وشكَره.
أخرَج الرجل قطعًا من البسكويت ليأكُلها، فمدّ لـ«عمران» بعضها فتناولها. أزاح الرجل غطاء رأسه فبدَا شعره أبيض، وعلى وجهه ملامح رجل سِتِّينيّ.
قال لعمران: «ممكن الشاي يدخلّك الحمام أكثر، لكن اشربه وتغطَّ بالدفاية واسْتَسلِم للنوم ولن تحتاج إلى الحمام إلا قبل الوصول إلى محطتك».
ضحِك «عمران» وقال: «حين رأيتك واقفًا ظنَنتُ أنك ستقتُلني». ابتسم الرجل بهدوء مراعاةً للنائمين حوله، قائلًا: «لماذا؟».
رد «عمران» أنه هكذا أخبرَه أصحابه، أن القبليّة متجذِّرة في الأقصر، ولو أغضبت أحدهم لقتلك. ضَحِك الرجل قائلًا: «كلامٌ سليمٌ». انتظر «عمران» بقية الجُملة، لكن الرجل لم يقل شيئًا إضافيًّا، فقط أغمَض عينيه ونام.
أدفأه الشاي والغطاءُ، فنامَ.. لم يفق إلا ويد محصِّل القطار تُحرّكه يُخبره أن محطة الأقصر قد حانت. نظر حولَه يبحث عمن أعطَاه الدفّاية فلم يجده. سأل القِلَّة الباقية في العربة عن الرجل الذي كان جالسًا إلى جواره، فقال أغلبهم إنهم ركبوا القطار منذ محطة أو اثنتين ولم يكن أحد جالسًا إلى جواره.. أحد الجالسين في آخر عربة القطار أخبره بأنه نزل في محطة «ديرمواس»، المنيا.
اقترح أحد الركاب أن يأخذها ويردها لصاحبها. فكلاهما يركُب هذا القطار باستمرار. تردد «عمران» في الموافقة، هو يعلم أن الدفاية لن تصل إلى صاحبها، يد الرجل ممدودة تستعجل الرد، فأعطاها له «عمران» ولم ينطِقْ.
وصل القطار واهتز يُخبرهم بتوقُّفه.
صعِد على الكرسي ليسحب حقيبتَه. حاوَل شدها فلم يقدِر. رآه شابٌّ دخل القطار ليبيع ساندويتشات الفول والطعمية للركاب فوضع الطبق من على رأسه، وصعِد على الكرسي الذي أمامه ليساعده.
أنزلا الحقيبة، وجرّها «عمران» على الرصيف، ثم حمَلها بيديَه الاثنتين لينزل بها سلالم المحطة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري، الرواية تصدر عن دار دوّن .. معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025