صورة قديمة .. من مجموعة “خريطة الحكايات القديمة”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
أشعر بالرضا، ويشرق وجهي بلمسة لؤلؤية ناعمة. يسألني في فضول عن تشققات الحمل المحفورة في بطني، أجيبه بلا اكتراث: «كما هي». تعكس نظارته الطبية نظرة تعجب. أتجاهلها تمامًا وأشكره لأخرج إلى المدينة الصاخبة. أنظر إلى الوجوه من حولي، تتواصل نظراتي مع الناس والسيارات وواجهات المحلات المزدحمة بالبضائع والأسعار دون مُشترٍ حقيقي.

تاميران محمود 

بخطوات سريعة أتحرك وسط الزحام. يعبر الناس من حولي بحركة شبحية. لا أميز وجوههم، ولا ألتفت لأحاديثهم التي تصل إلى أذني كلمات متقطعة سريعة مفككة. أتخيل الناقص من الحوار وأضع بين وجهي والآخرين نظرة باردة غير مهتمة. اعتدت منهم النظرات الفضولية والكلمات الملتهبة النهايات. مهارات الصياد تنشط، ويتردد في ذهني سؤال: مَن أخبركم أني فريسة؟
أدخل إلى عيادة التجميل، أدفع مبلغًا عظيمًا تحت الحساب وأنتظر دوري في صبر وصمت داخل صالة الانتظار الواسعة المطلية باللون الأبيض، وتتوزع الإضاءة حولي دافئة. كانت موظفة الاستقبال فتاة رقيقة تجلس خلف مكتبها البيضاوي تتلقى الاتصالات الهاتفية وترد بكلمات ودودة وضحكات بسيطة.
جاء دوري لرؤية الطبيب. مغطيًا وجهه بالقناع الطبي ويديه بالقفازات وملابسه بزي معقم أراه شبحًا أزرق يجلس على مقعده الدوار. أرقد أمامه على السرير وأتركه يتفحص الجرح القديم الذي يقطع فخذي وأسأله بقلق عن رأيه.
يقول في فخر: لا تقلقي، علاج الجروح لن يتجاوز ثلاثة شهور، وبعدها ستكون لك أفخاذ رائعة.
يقولها في فخر مناسب لشهرته الواسعة. أصبحت زياراتي للطبيب دائمة، أتبع تعليماته قبل العلاج وأثناءه وبعده. يتغير لون الجلد وملمسه، تختفي الندوب والجرح رويدًا رويدًا، حتى انتهى وجوده تمامًا.
– أظن أنك راضية، يقولها الطبيب وهو يدعك فخذي بجل وردي ناعم. تتسع ابتسامتي وأهز رأسي موافقة.
يرفع ملابسي ويعري بطني دون سؤالي، غير عابئ بنظرة الاعتراض التي ظهرت بشراسة على وجهي. يشير إلى بطني تحت الكشاف العملاق الذي قرَّبه من جسمي نصف العاري الراقد في توتر أمامه.
– أرى أن نعالج هذه التشققات.
يقولها وهو يمرر أصبعه فوق جانبي بطني من اليمين لليسار، متحسسًا الآثار المتخلفة من العملية القيصرية، متسائلاً عن تاريخها.
– نحتاج عددًا من الجلسات لإخفاء هذا وعلاج السليوليت. قالها وأطفأ كشافه العملاق الفاضح مكملاً في تأكيد: «لك جسد يجب احترامه». اتسعت ابتسامتي وهززت رأسي بالموافقة، ووعدته بأن أعود لاستكمال ما بدأناه قريبًا.
أعود للبيت كطفل أنهى يومه الدراسي الأول، أقف أمام المرآة أتفحص فخذي وقد التأمت جروحها وبان جلدها جديدًا متماسكًا نضرًا. أرفع فستاني لأنظر نحو بطني لأراه كجدارية قديمة تشقق طلاؤها وتشرخت أركانها.
ظلت العيادة تغريني بالعروض المميزة في سباق الجمال والشباب المحموم والمكالمات الودودة التي تدعوني لاستكمال العلاج والكلام الهادئ والوعود التي لا تتم.
عدت إلى العيادة بعد ثلاث سنوات. بدا المكان حميميًّا. تزوجت السكرتيرة ولم تعد ضحكاتها بسيطة ولا نظراتها خجولة. تتبادل النكات والضحكات مع مريض وزوجته. تقدم لي فنجان قهوة وتخبرني أن دوري قريب.
ولما دخلت إلى الطبيب في غرفته صافحني بطريقة ودودة ليسألني عن سبب زيارتي، فأخبره بما أريد في اقتضاب، ويؤكد لي أن الأمر سيكون مجرد جلستين للبشرة لا مزيد.
أشعر بالرضا، ويشرق وجهي بلمسة لؤلؤية ناعمة. يسألني في فضول عن تشققات الحمل المحفورة في بطني، أجيبه بلا اكتراث: «كما هي».
تعكس نظارته الطبية نظرة تعجب. أتجاهلها تمامًا وأشكره لأخرج إلى المدينة الصاخبة. أنظر إلى الوجوه من حولي، تتواصل نظراتي مع الناس والسيارات وواجهات المحلات المزدحمة بالبضائع والأسعار دون مُشترٍ حقيقي.
أقف أمام مرآتي أتامل وجهي وبشرتي المتلألئة، أعري فخذي لأراها جديدة بلا علامات. أزيح ملابسي وأتعرى أمام المرآة، أكشف عن بطن عريض مرسوم فوقه خريطة من الألوان الغامقة القديمة وكأنها جبال خرت من قوتها لتتصل مع وادٍ واسع من العضلات المشقوقة عرضيًّا بسكين حاد رفيع.
شبكة من الألوان القديمة تترك فوق بطني لوحة مختلطة الملامح. أنقل عيني بين صورتي الجديدة المنعكسة في المرآة وصورة زفافي القديمة التي تراقبني فوق ركن المرآة نفسها، للفتاة التي كنتها يومًا ما رشيقة بيضاء في العشرين من عمرها، بينما تنظر لي من خيال المرآة أم خمسينية مترهلة المواضع، تكاد ابنتها تفارقها إلى بيت زوجها. أمرر أصابعي فوق الشروخ والعلامات، أتخيل أصبعي فأرًا صغيرًا يعبر تيه العمر عبر شقوق الولادة القيصرية. شقوق حفرها الحب والحنان والوجع الممزوج بالمتعة والألم. شقوق تخبرني أن العمر لم يذهب، بل باقٍ ما أحببت بقاءه. أبتسم لنفسي في المرآة وأرتدي ملابس مريحة.
أدخل إلى المطبخ مسرعة لأضع الطعام في موعده وأُخفي آثار العلب الكرتونية والشنطة البلاستيكية جيدًا لأتفادى إفساد جلسة بشرتي الأخيرة وشعوري بالذنب لأسعار الوجبات الجاهزة التي تخرب وزني، وأذكر نفسي بأنني اليوم سأبتهج لكل شيء يُسعدني. لن أسعى وراء أي منغص. ولن أهتم. وغدًا ربما أبدأ من جديد أسأل نفسي كيف مر كل هذا؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة مصرية، والمجموعة صدرت عن بيت الحكمة ..معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025

مقالات من نفس القسم