(1)
في منتصف مشاهد قصتي قرأت “بيسوا” واندهشتُ و ارتبكتُ من فكرة أنداده وأبدالهِ الكثيرين.. ثم مرت عَليَّ أيام طوال وأنا مشغولٌ بهذا المجنون حتى امتلأت غرفتي بالأشباه في مساء أحد الأيام.. كانت بينهم غربة واضحة ونفور إذ أنهُ ليس شرطاً أن يكونَ الأشباهُ توائم في كل شيء، يكفي أن تَملَّ الروح فتفر وتسكن جسداً آخر، أي جسد، ثم تملُّ فتتسرب وتسكن آخر وهكذا حتى تظهر الأزمة في صورتها الأنقى، في الأصل، في الروح الأولى والجسد الأول، فيَّ أنا بالذات.. وبدلاً من أن تتقوَّى نفسي وتأخذ أنفاساً عميقة بعد أن أوهمَتْهَا روحها أنها ما صنعت هذا الزحام إلا لأنها تفيض عن ذاتها من فرط العَظَمة ومن ثمَّ تتشكل في ذواتٍ أخرى، صارت تحسُّ بالبردِ في كل وقتٍ وحين وصارت ملامحي تبهتُ كلما ظَهَرَ لي نِدٌّ أو شبيه.. وهكذا سأصبحُ مسخاً في النهاية، لا أشبهُ كائناً معروفاً، وربما يظلونَ يطلقون عليَّ “ذلك المجهول”..
كان النِدُّ الأول شجاعاً، عكسي تماماً، أنا الذي أخافُ حرفياً من كل شيءٍ حتى ظِلِّي.. وربما لم يكن شجاعاً فقط، بل متهوراً كذلك، يركب المترو ويلتصق بالبنت التي ترقص عيونها ببساطة ويقفز قبل أن ينفتح الباب على آخره.. يعودُ كل صباحٍ طفلاً ويضع قدمه في طريق المعلمة فتسقط و يظهر ما تخفيه عنا تحت فساتينها وكلما هَلَّ الليل يرجع للشيخوخة ويخرج لسانه للموت ويشتهر بأنه “الراقص في الجنازات”.. هذا نِدٌ آبقٌ وجميل.. يحبني لدرجة أنه يتقن كشف ضعفي وربما يتمنى أن يعرِّيني أمام العالم كله.. هو يعلم أنني لن أغضب لأنني اعتدتُ أن آكلَ وأسامحْ وأشربَ وأسامحْ وأعدو وأسامحْ وأنامَ وأسامحْ، ككل التافهين..
النِدُّ الثاني، كان هو الأصعب في وضعية حياته لأنهُ ضئيلٌ بحق، مثلي تماماً، يكرهُ النور وعظامهُ تؤلمهُ من قوة الوَهَج ويقول في الأعياد “أنا دودة”..
أما النِدُّ الثالث فهو الذي يحيرني لأنهُ يملكُ خيالاً مجرماً يستطيع أن يطير به فوق العمارات ويصنع فِخاخاً لطيور البحر البعيد ثم يغوصُ لحد الآباء النائمين تحت الأرض ليحكي معهم ويضحك مع الشياطين.. مشكلتي معه هو أن خيالي مقصوف الرقبة، طيبٌ ومسالم، لهذا لا ألاحقه وأنا أشتاقُ إليه حقاً، أتوقُ دوماً للهواء الساكن قدميه وللنار التي يشكِّلها بكفوفه ورداً وأصواتاً وذكرياتٍ تملأ حياتي المقبضة..
كان الرابعُ قاتلاً جعلني أفكر براحة ضمير في جمال لون الدم وعبقرية اللحم البشري وهو ممزقٌ ومتجلٍ بلا أية حواجز تعوق كشفه خلفيات الأشياء وحقائق التاريخ..
والخامسُ صوفيٌّ شفيف..
والسادسٌ خطيبٌ مفوَّهٌ يقودُ انقلاباتٍ طول الوقت ويملك خَطاً عجيباً يوقِّعُ به أوامر الاعتقال فتلمعُ الأوراق وتتحول العيونُ إلى كراتِ لهبٍ تعلو قيمتها من ثقل الهَيبةِ..
أنا مملوء بأندادي وثقتي بنفسي تبدو زائدة.. لكني أتوقُ إليَّ خفيفاً، بلا أحاسيس أمومةٍ ناعمة ومربكة، تحنو عليهم وتبرر أخطائهم.. وبلا خوف يستحق الشفقة وهو يلبس كل يومٍ صورةً، حتى صارت الدائرة تدورُ وتدور، وأنا ألهثُ وأحلمُ بأن أجد نفسي مرميةً جوار أي حائط، نفسي النقية عديمة الذكر، في ذَيْلِ أي طيفٍ بلا هويَّة، يظهر على زجاج النافذة..
(2)
كان الفَخُّ الذي رسمهُ لنا الشرير المسمى بالسيد بيسوا، هو أن يُظْهِرَ الذوات التي كان تضج داخله للعلن، يفضحهم ويكشفهم وبعد مرور الزمن يميتهم أو يموتوا لحالهم، بشكل مفاجئ أو من الشيخوخة.. ربما بدأ الأمر منذ أن شَمَّ رائحة الموت واطمئن له واستعد للعب الغميضة معهُ فخدعه الموت واصطحب والده بعيداً عن عيون الصغير التي ضاقت من ساعتها، وربما بعد أن بَدَّل الموت شكل الأب فإذا به برجل آخر تزوجتهُ الأم ودفعهم بعدها للسفر إلى جنوب أفريقيا.. أجل هو السفر لجنوب أفريقيا.. لا لا.. ربما هي الذكريات الواقعة من فترة الإقامة في لشبونة.. لا هذا ولا ذاك.. فد تكون الكتب وأشباحها هي السبب في تشظِّي هذه الذات المربكة كالزجاج.. و ربما هو مخبأ غامض.. المؤكد إذن أنه جَلَبَهم من مكان بعيد عن عيوننا وآذاننا.. ولأنهُ ماكرٌ كما أخبرتكم، اصطفته العفاريت وأحبته الشياطين.. يعاينهم ويغطس تحت جلودهم ثم يطلق إسارهم ومن ثَمَّ يرتاح من إقلاقهم الدائم.. كان يعلم بالتأكيد أننا سنقلده ونَتعرَّى ونطلق على الدنيا ذواتنا المقبورة فينا، لهذا كان الواجب على النِدِّ الشرير داخلي أن يتصرف بما يليق بطاقته الكامنة التي تشبه الموت.. قمت بإرسال رسالة لفرناندو، رسالة ورقية بالطبع، راعيتُ فيها الإسهاب المُوَشَّى بالغموض والتحليل مع الحرص الزائد على علامات الترقيم وترك فجوات بين السطور ليملأها هو ويرضي غروره.. كان مجمل الرسالة يدور حول ضرورة تشريفه لمنزلي المتواضع مع تهديده بشكل متدرج يبدأ خافتاً ثم يصير صريحاً بأنه في حالة تهربه سيصل نِدِّي القاتل لشرفته بهدوء ثم يتسلل ويجلس قرب فراشه محدقاً فيه وما أن يفتح السيد بيسوا عيناهُ، يعاجله بضربة سِكِّين واثقة تمزق لحمه تماماً ثم يعود بالسِكِّين إليَّ وهي تقطر.. سيعدل السيد نظارته إذن ويهزُّ رأسه ويستسلم ثم يمسك بقبعته السوداء وربما يعبث في رابطة عنقه أو يطمئن على لمعان حذائه الأسود ثم يجلس على أكبر مقعد في غرفته ويطلب أن تتم الحكاية على مرحلتين حتى لا تكتشف أمه فتحزن، وبعدها يغلق عينيه و يسترخي تماماً حتى أتمكن من سحب روحهِ من هذه الجغرافيا اللامعة وجلبها إلى هنا بعد أن طار جسده أولاً بمجرد أن فكرت وبعدها اختمر في رفقتي سريعاً.. ستدخل الروح في الجسد وأنتظر برهةً إلى أن يعود له تنفسه ثم تبدأ مهمتنا..
سينظرُ السيد حوله ويستكشف المكان بدقة بينما أعيد تأمله أنا بعد أن جردته من أنداده وهو غائبٌ عن الوعي.. سيطمئن و يستجيب لثرثرتي ثم لا يلحظ إشارتي كي يدخل الأنداد كلهم.. وبينما يصلون واحداً واحداً أتحرك أنا نحو الباب تاركاً إياه غارقاً في الصدمة و موحلاً في خوفه وارتباكه.. ستبقى وحيداً أيها الساحر مع كل هذه الظلال.. كانت لعبتك هي التخلص منهم مع سيطرتك الكاملة لكنك الآن ملفوف بإحساس جديد وحارق هو أنك الضحية، أنك المحاصَر، بعد أن تجمَّعوا بإرادتهم الخالصة ومن دون علمكَ وقرروا أن يعاينوكَ ويكشفوك أمام ضعفك.. ستطير حدقاتك وراءَ حركاتهم العابثة وتنفجر طبلة أذنك من ضجيجهم وتتحطم ساقيك خلف مشاويرهم العابثة حتى تُقهر روحك وتندم على التورط في دراما الخلق ولعبة المصائر.. روحكَ التي قضت سنوات وهي تضحك بثقةٍ و تشفٍّ على حيرة البشر مع كل هذه الحيوات التي لا تعني الا عظمتكَ أنت وفرادتكَ أنت في الحقيقة.. وتصنع فينا، نحن المساكين اللاهين، سيرة أبطال يعدونَ بلا توقف، بين مناجم النور ووديان الجحيم..