صدوق نورالدين
أولا:
1/
يأتي كتاب الروائي والقاص سعد القرش الموسوم “في مديح الكتابة” (قراءة في مؤلفات أطول عمرا من أصحابها) “دار غاف/ دبي/ الإمارات/ 2024)، ليرسم صورة متميزة عن كاتبه. والقصد، صورة القارئ المتتبع والناقد الحصيف الذي لا يحصر حقل معارفه في الأدبي وحده، وإنما ينزع للانفتاح على حقول أخرى تتضافر وتتكامل بغاية تشكيل نموذج للمثقف الملتزم الذي خبر واقع الإنجاز الأدبي، كما تفاعل وطبيعة التحولات التي خضع لها مفهوم الكتابة منذ القديم وإلى الظرف الراهن.
2/
إن “في مديح الكتابة” وبالانبناء على السابق، الدليل الذي يقود متلقيه إلى تكوين شخصيته وتوسيع معارفها، إذ ليس من اليسير تقديم مادة ثقافية معرفية جامعة من خلال أربعين كتابا، وهي المبادرة التي تنهض على الكفاءة والاقتدار وحسن الإنصات للنص سواء أكان تراثيا أو معاصرا، وبالنظر إلى المعنى الذي يسهم في صناعته وإنتاجه، إذ قد يكون أدبيا، اجتماعيا، سياسيا أو دينيا. من ثم، فإن موسوعية الكائن يراد لها التحول والتفاعل والتأقلم مع عالم القارئ، وثم تقصى فكرة التخصص والتخصيص. وتبرز قاعدة الشمولية الثقافية في مختلف الحقول والمجالات.
3/
ينتظم الإنجاز الأدبي النقدي في مؤلف “في مديح الكتابة”، سؤال الكتابة بما هي في الجوهر التعبير سواء عن الواقع أو الذات. بمعنى آخر، فالتعبير يكون موضوعيا أو ذاتيا. فالموضوعي لا يمكن أن يكون متخيلا وإنما يكتسب قوته من خاصة المباشرة بما هي وقائع وأحداث ترتبت عنها نتائج تستلزم الكشف والإبانة. وحتى نمثل، نستحضر الحديث عن تحقيق كتاب المقريزي ” إغاثة الأمة بكشف الغمة”، أو التطرق للوباء الذي قتل 180 ألف مصري تأسيسا من كتاب رصدت فيه آثار الأنفلونزا الإسبانية عام 1918 من تأليف الدكتور محمد أبو الغار.
وأما الذاتي كمنجز تخييلي، فيستدعي على سبيل التمثيل جنس الرواية سواء العالمية “العجوز والبحر”، “الخيميائي” أو “صباح ومساء”، والعربية انطلاقا من “أولاد حارتنا” و”تلك الرائحة”.
وإذا كان الناظم الكتابة بماهي تعبير، فإن المؤلف سعد القرش حدد اشتراط التناول في كلمة “مديح”. والغاية
_ كما سنرى_ الإشادة بمؤلفات هي في/ أو من خلال وجهة نظره وتأويله، النماذج التي يحق الحديث عنها والتطرق إليها. وبالتالي تعريف الآخر بمضامينها. ويحدث أن يحتل غيرها الموقع النقدي في تصورات أدبية مغايرة. إذ هل يقصي الحديث عن “تلك الرائحة” (1966)، لفت النظر إلى روايتي ” 67″ و”1970″؟
وللموضوعية والحقيقة ف”مديح” سعد القرش من خلال ما أورده من اختيارات يظل مشتركا متقاسما وأكثر من قارئ ومتلق. إنه التمثيل عن إجماع القراءة؟
4/
يقود الحديث عن “في مديح الكتابة” إلى الارتباط بالزمن. فالمؤلفات التي تحقق تشميلها بالعرض والتعريف لا يمكن أن تنتهي بنهاية قراءتها. وإنما تكتسب قوة حياتها بتجديد الفهم والتأويل ليس في الزمن الواحد ومن خلال القارئ الواحد، وإنما تعدد الأزمنة وعلى السواء القراء. فحياة الكتاب الأثر دائمة ومستمرة بينما تظل حياة مؤلفه مقترنة بالنهاية، أي الموت. إنها نهاية الجسد من دون أن تكون نهاية الأثر الخالد. يرى سعد القرش فيما يشبه المقدمة:
“وليس هذا الكتاب عن كتب، من النوادر، اكتشفت مصادفة، وإنما هو مديح الكتابة الأطول عمرا من أصحابها، اقتراب من مباهج الكتابة وشجونها، شيء من الوفاء لمؤلفين وهبوا أنفسهم لعشق اسمه الكتابة. هذه صفحات تلقي أضواء على أعمال تتجدد فتنتها في كل قراءة، وما هذا الكتاب إلا إحدى القراءات.” (ص/10)
ثانيا:
يضعنا “في مديح الكتابة” تأسيسا إلى ما تم الإتيان على ذكره، أمام ثلاث سير تتداخل وتتقاطع بحكم كون الناظم الرئيس مفهوم الكتابة:
1/ سيرة الذات الكاتبة
2/ سيرة الكتابة في تحولاتها
3/ وسيرة القارئ المفترض.
ليست سيرة الذات الكاتبة، سوى ذات المؤلف. وهنا يجدر تمثل التمييز بين المبدع والناقد. المبدع كما تعورف عليه عبر جنسي: القصة والرواية. والناقد انطلاقا من هذا التأليف وغيره من الإسهامات النقدية التي تنجز في مناسبات أخرى. ومادام التركيز في هذه الكتابة على صورة الناقد، فإن من الخاصات التي يجسدها “في مديح الكتابة” نجد:
أ / دقة الاختيار: فالمؤلف سعد القرش حدد “مديح الكتابة” في “أربعين كتابا وكتاب”. ولا يمكن تحقق الاختيار إلا بالقراءة الموضوعية الدقيقة، علما بأن أكثر من كتاب يخضع لما أعده المشترك النقدي والأدبي وأمثل ب”طبائع الاستبداد”، “التصوف ثورة روحية في الإسلام”، “في الشعر الجاهلي”، “الإسلام وأصول الحكم”، “أولاد حارتنا” و”تلك الرائحة” وأرى بأن في إعادة التذكير بهذه المؤلفات ترسيخا لجدارتها المستحقة.
ب/ العرض الثابت: وتخضع فيه الكتب المتناولة من ناحية للتعريف بها ومؤلفيها، إلى ضبط خلاصة للمحتوى المعبر عنه والمراد إبلاغه. واللافت التركيز على أبرز وأهم الجوانب المثارة في هذه المؤلفات التي تجمع بين القديم والحديث، مما يوحي ويؤكد على أن جسر ال”مديح” يمتد بامتداد مسارات التأليف المتنوعة حقولها ومجالاتها.
ت/ النقد والواعي المقارن: إن صورة سعد القرش ناقدا، تبرز في الحالات التي تتم فيها الموازاة بين العرض والنقد، إلى المقارنة بين طريقة التناول لدى كاتب ما، والصيغة المتوافرة في منجز أدبي مماثل إذا حق. لنتأمل التطرق للمقريزي والبغدادي. يقول متحدثا عن وجهة النظر المعتمدة ومنتقدا الجانب اللغوي:
” البغدادي يكتب معايناته بضمير المتكلم، فعلى سبيل المثال عرف بمن اعتادوا ارتقاء الهرم، في قرية مجاورة،” فاستدعينا رجلا منهم. كنت أمرته أنه إذا استوى على سطحه قاسه بعمامته فلما نزل ذرعنا من عمامته مقدار ما كان قاس فكان إحدى عشرة ذراعا بذراع اليد.” والمقريزي المولود بعد وفاة البغدادي بنحو 135 سنة، يكتب بضمير الغائب عن مساحة قمة الهرم: “وذكر أن سطحها أحد عشر ذراعا بذراع اليد.” البغدادي تحرى الدقة اللغوية فأنث الذراع، والمقريزي تساهل وذكر الذراع، وتجاهل المصدر كما تجاهله أيضا بخصوص اختفاء الكثير من الأطباء في الشدة الأيوبية، في كتابه “السلوك لمعرفة دولة الملوك” الذي حققه جمال الدين.” (ص/16)
ويختم المقارنة بسؤال إشكالي حول حدود الكتابة، ومدى ارتباط السابق باللاحق:
” السؤال الآن عن حدود الاقتباس، هل أطلع المقريزي على نسخة كتاب البغدادي ونقل منها؟ ولماذا لم يلتفت إلى ذلك الباحثون؟ ” (ص/ 17)
ويصل النقد والوعي المقارن ذروته في سياق التطرق لديوان “عمر الخيام” سواء من حيث نسبه إليه، أو المعاينة النقدية الدقيقة للتغيرات التي طالت النص لما أقدمت كوكب الشرق السيدة أم كلثوم بالتصرف عند غنائه، وبالتوافق والشاعر أحمد رامي. يقول المؤلف:
” وفي وقت لاحق سأكتشف أن هذه الرواية كلثومية، لم يقلها الخيام، وإنما ترجمها أحمد رامي ومارست فيها أم كلثوم جبروتها الذكي المعتاد بالتصرف، تفاديا للحساسيات الدينية والأخلاقية. وأصل ترجمة رامي للبيت الأول ” أطفئ لظى القلب ببرد الشراب”، ولو كان الشيخ قرأ النص المنشور للرباعيات لاستخدمه في مزيد من تسويغ الهجوم على شاعر يدعو صراحة إلى شرب الخمر.” (ص/ 119)
وأود الإشارة هنا _ وهو من باب الإضافة _ إلى ثلاث ترجمات عراقية ل “راعيات الخيام” أقدم على إنجازها الشاعر والمترجم العراقي محمد مظلوم وصدرت ضمن منشورات “دار الجمل”.
وأما المستوى الثالث المتمثل في سيرة الكتابة وتحولاتها، فإن ما يقتضي استجلاؤه، كون “في مديح الكتابة” إحالة على “في مديح اللغة”، من منطلق البعد الوظائفي والتوظيفي للغة. فلا كتابة دون لغة. ووضعية تلقي النص التراثي ليست ذاتها الصورة بخصوص الحديث. ومادام التأليف تشميل لما يجسد القديم والحديث
فإن التوثيق لتاريخية اللغة يظل موعى به. فأن تقرأ ” إغاثة الأمة بكشف الغمة” معناه الوقوف على درجة عالية من عتاقة اللغة، وهو ما يباين وضعية كتابة “الرواية.. رحلة الزمان والمكان” أو “العجوز والبحر” وضوحا وبلاغة. ولا نغفل عن الاختلاف بين النص الموضوع والمترجم.
وتجسد سيرة القارئ المفترض، قاعدة التفكير في نموذج المتلقي الذي يمكنه التفاعل و “في مديح الكتابة”. المتلقي المرتبط بالراهن، والمستقبل على السواء. فالاختيار والتنويع في المادة المعروضة كما المعنى المنتج يخاطب في المتلقي تكوين شخصيته. من ثم تغدو الكتب المتحدث عنها من منطلق كونها الأطول عمرا من مؤلفيها، تتماهى وهذا التأليف الذي سيكون على السواء الأبقى والممتد بامتداد الزمن. إذ في كل مرحلة زمنية سيجد القارئ الذي يبني قراءته الموازية للنص المقروء، والمباينة لفيض القراءات والتلقيات المتداولة، بغيته المنشودة.
ثالثا:
إن ما يمكن الانتهاء إليه في هذه الكتابة التي هدفت تقريب مؤلف تأسست فيه الرؤية النقدية على كتابة أولى هي الأصل والمنطلق، خلاصات يحق إجمالها في التالي:
1/ إن الناظم الرئيس والأساس في “في مديح الكتابة” موضوعة الكتابة في تنوعها وتباين قضاياها واختلاف مؤلفيها.
2/ يرتبط الناظم بالزمن، من منطلق أن ما يدوم ويستمر الكتاب، وبالتالي الكتابة وما تستطيع اللغة الإسهام في الوعي به.
3/ إن الكاتب والمبدع سعد القرش، يمتلك كفاءة مميزة، واقتدارا كبيرا في المنجز النقدي والثقافي الذي أقدم على تناوله، حيث استطاع لملمة مكتبة _ إذا حق _ في كتاب، ثم إنه نموذج للمثقف والمبدع الشمولي المعرفة./.
…………………
*كاتب من المغرب