يوسف الشريف
بالرغم من إغلاقي للنوافذ كلها، وإحكام الحصار خلف الجدران التي يبدو أن لا نهاية لها، وخلف الضلوع الأبدية، فإن الأسئلة وعلامات الاستفهام وكل الحقائق والأشخاص كانوا يظهرون أمامي، كأنهم يتدفقون من نقطة ما غير مرئية في الجدران، أو يتفجرون من بين الضلوع، فكرت في سد باب الغرفة، حتى لا يكون للغرفة مدخل، أن أغرق لآخر قطرة في هذا التيه.
إنني أشعر بأنني أحترق، أشم بالفعل رائحة التفحُّم، ولكني لا أرى دخانًا يتصاعد مني، ولكن رائحة الاحتراق تخنقني،
قمت وفتحت الشباك، ويا ليتني ما فتحته، أين الهروب؟ أين؟!
حين أحكم الحصار تخنقني رائحة الاحتراق، وحين أفتح الشباك لا أرى غير السماء، وشبح المئذنة والقبة، وعينيه اللتينتنظران لي في تربص، أين المفر؟
شيء ما غريبٌ في هذا البيت.. في هذا المنزل ثمة خطأ، فكل النوافذ في البيت – وليس في هذه الغرفة فقط – تطل على هذا المسجد – أبو حريبة – كأن البيت مصممٌ ليكون جزءًا من المسجد، ولكن الأغرب أن كل شرفة ترى المئذنة والقبة من المنظور نفسه.
في طفولتي حكوا لي أن هذه العمارة كانت أرضًا تابعة للمسجد بالفعل، تكية.. كانت ملجأ لأولياء الله في زمن ما، يُقال إن السيد البدوي أقام بها ليلة، وأن الخديو إسماعيل وبعد ما وُلد في المسافر خانة جاءت به الخادمة لتباركه أمام ضريح أبو حريبة، وليبيت بجواره في التكية لثلاث ليالٍ، فمن يبات في التكية تدركه بركات ساكن الضريح، ومن يبات لثلاث ليالٍ يتحقق مراده؛ العانس تتزوج، والعاقر ولو انقطع طمثها ستنجب، والكفيف سيبصر. كل هذه الأحداث كونت أسطورة ساكن الضريح، القادر على تحقيق المعجزات.
كما أن التكية كانت مقام أهل البيت، ويُقال إن في مكانها دُفنت السيدة فاطمة النبوية للمرة الأولى، قبل أن يتم نقل رفاتها لهذا المسجد الآخر القريب. وأن السيدة نفيسة بنفسها وجلال قدرها أقامت بهذه التكية لفترة. بالإضافة لأهل الذكر؛ الذين يأتون كل عام للطواف حول الضريح والاحتفال بالمولد.
ولكن الحكاية الأكثر انتشارًا؛ أن داخل هذه التكية – التي بُنيت العمارة على أنقاضها – كان هناك ضريحٌ آخر لوليّ، يُقال إنه
كان خليلًا لأبو حريبة شخصيًّا، وبعض الناس يقولون إنه نبي، فقد وجدوا في ضريحه قطع خشب لمركب، قيل إنها مركب نوح عليه السلام.. التي جاءت بنا إلى كل هذه الحكايات والروايات.
وعندما اشترى الحاج حسين أصلان هذه التكية أو المبنى القديم، أمر بهدمه، بعدما قيل إنه رشا المحافظة والحي ليتمكن من الحصول على الأرض التي أقام عليها أكثر من أربع عمارات، من ضمنها هذه العمارة التي تعدى ارتفاعها ارتفاع المئذنة.
وقتها قال الشيخ الداطوري إن اللعنة ستحل على العمارات، وعلى سكانها، الذين أسهموا في حدوث تلك المهزلة وشراء شقق
مقامة على أنقاض ضريح أحد أولياء اللَّه، وبيوت أهل الذكر، فارتفاع العمارات يتجاوز ارتفاع المئذنة.
وقتها تساءلت، ولكن لماذا لم تحل اللعنة على صاحب العمارة شخصيًا؟ – حسين أصلان – ولكن بعدها بأعوام كانت نهاية حسين مأساوية، كتبتها في روايتي الأولى فليراجعها من يشاء.
بالرغم من أن تلك الحكايات غير منطقية، وتبدو مصطنعة، فإنني.. هكذا أظن أن كل قصة تتمتع بشيء ضد المنطق.. هي أكثر القصص التي يمكن أن تجد لها مبررات منطقية. ولذلك قصة أبو حريبة لا تنفصل عن قصة أبي.. وعن قصته هو أيضًا،
كاتب الرواية.. الرواية الكبيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري، الرواية صادرة عن دار العين .. معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025