فصلٌ من رواية “شرائط مؤدبة جدًا” لـ ماجد سنارة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ماجد سنـارة 

تُنسى كأنك لم تكن.. تنسى.. آه والله يا أخ درويش، تلاشى اسم برايز من الذاكرة، أُسقط من التاريخ عمدًا، نسِيَني الجميع، اللهم عدا صبحي، حفظ فضلي عليه، بعدما فرّجته على شريط حصري، بعدما لف البلد كعب داير مع شلة الثقافة، ولم يحالفه الحظ في المشاهدة، قال لي:

  • دينك في رقبتي ليوم الدين يا ريس.

كنت رئيس جمهورية الثقافة، مفرّج الكرب، راعي الأنس والمزاج، خرج من تحت يدي شباب مثل الورد، لكنهم تركوا برايز وحيدًا بعدما هُدمت إمبراطوريته، التي شيدتها بعرق وتعب وسهر ليالٍ، اكتسبت فيها احترام وتقدير الجميع، ولم أتأخر على أي مثقف، ورأيتم ذلك بأنفسكم على الشاشات، رأيت في زعامتي واجبًا وطنيًّا، وتكليفًا إلهيًّا، وطالما كنت رئيسًا لجمهورية الثقافة، فمن حق كل مواطن أن يتثقّف، الحرمان وحش!

والله، وما لكم عليّ حلفان، لم أكن أستغل حاجتهم وآخذ منهم أي قرش، على الرغم أنه في بعض الأحيان، كان الشباب التعبان على استعداد لدفع أي مبلغ مقابل شريط فيديو جديد، لكن حدّ الله بيني وبين المال الحرام.

أسست زعامتي على المحبة ومساعدة المحتاجين، رأيت في مهنتي شرفًا لا يعلوه شرف، قدمت ثقافة علمية، حتى يستطيع الشباب التعامل مع المرأة، والتحول من النظرية للتجربة بمنتهى الحرفية، يرفع رأسه ولا تكون رقبته كالسمسمة، والحمد لله، كل من تبعني حلف بي، وانتشر اسمي في كل مكان، الريس برايز.

كرهت الدِّش، هاجمني القلق، ارتبكت حياتي وشعرت بالخطر، خاصة مع انتشار الهواتف وتحول الأفلام الثقافية لمقاطع سكس، قلّ الطلب على أشرطة الفيديو، لكنني أقنعت نفسي بأنها ستظل باقية، مثلها مثل الكتب الورقية، لها جمهورها مهما تطورت التكنولوجيا.

حاولت الحفاظ على الاتصال مع جماهيري، الزعامة على المحك، اعتقدت أنني لن أُخلع من عرشي بسهولة، خاصة أنني سخّرت نفسي في خدمة المثقفين، سيحفظون لي الجميل، فالمثقفون ليسوا أولاد حرام كالبقية، وتطْمر فيهم العِشرة، فما بالك بمن وفّر لهم متعة المشاهدة على أشياء تفوق الخيال، بصورة جيدة وترجمة لا يوفرها إلا برايز.

حاولت طمأنة نفسي، فربنا لا يرضى بالظلم على حد تعبير الرفيق صبحي، أفكر في تكوين رابطة للمثقفين، اتحاد خاص بنا، نحافظ من خلاله على الأصالة والهوية في مواجهة العولمة، نحاول التصدي لكل محاولات العيال في ضرب الثقافة، فالثقافة لها أصول، ولا بد لها من زعامة، غير ذلك تتحول لفوضى مرعبة، وتسير مشاعًا لكل من هب ودب.

لم يعرف أحد في الفيلم طبيعة عملي غير الثقافة، والحقيقة أن عملي وقتها كان في هذا الإطار، امتلكت عدة محلات لأشرطة الفيديو، كنت أديرها في الخفاء لعدة أسباب، أولها أنني لا أستطيع رفض طلب أي مثقف لو أراد شريط فيديو، وبالتالي بيتي يخرب مع الوقت، لأن البيزنس لا بد له من وجه مكشوف، وثاني سبب كراهيتي لاستغلال اسمي كعلامة بارزة في عالم الثقافة من أجل تحقيق الربح، أردت أن أكون زعيمًا بالحب، بالشرعية، دون استغلال لحاجات المثقفين، أساعدهم في أي وقت دون مقابل، فالمحبة بين المثقفين يجب أن تكون الأساس.

تخيلوا معي سلسلة محلات “الريس برايز” للثقافة الجماهيرية، فلوس موت والله يا رفاق، لكن العبد الفقير إلى الله برايز قنوع، ويحب أن يأكل لقمته بعرق جبينه.

دق عليّ الباب، قمت لأرى الرجل الذي يهتم لشأن برايز، تمنيت ألا يكون محصل الكهرباء أو الماء، نظرت من العين السحرية، ابتسمت، وفتحت، فتح ذراعيه وأخذني في حضنه، ما زال بغلًا كما هو، وأنا مثل مصاص الدماء، علاقة مريبة، قال صبحي:

ـــ حقك على رأسي يا ريس.

ملّست بيدي على كرشه، يردد هذه الجملة في كل مرة يتأخر فيها عن زيارتي، شهر كامل تقريبًا ولم يمر بي أو يحدثني، أدخلته وأغلقت الباب، قلت:

نفس الأسطوانة المشروخة يا صبحي.

ابتسم وقد لمعت عيناه:

ــ يا سلام لو شريط يا ريس.

ــ راح زمانه يا صبحي.

ضم صبحي شفتيه وبدا عليه الاستياء:

ــ الثقافة جمعتنا زمان يا ريس، والآن، كل مثقف في ملكوته.

فكرت لحظات واستحضرت روح الزعامة وقلت:

ــ كأنها مؤامرة يا صبحي.

هز صبحي رأسه مؤمنًا على كلامي، قمت لأولع على الشاي، استوقفني صبحي قائلًا:

ــ من غير سكر يا ريس.

استدرت إليه وضيّقت عيني وقبل أن أسأله عن السبب، قال:

ــ آه يا ريس.. السكري.

شعرت بنغزة في قلبي، مسّني الحزن، حاولت إخفاءه حتى لا ندخل في دراما رديئة، لاحظ صبحي ذلك، قال بنبرة ساخرة:

ــ السكر شاحح في البلد.. أزمة يا ريس، الحمد لله بقيت راحة للطرفين.

التفتُّ مرة أخرى لأعد الشاي، صعب عليّ صبحي، الأيام تسوَد مع الوقت، مُطلّق، محروم من أولاده، عشر سنوات مرت دون أن يراهم، يرسل لهم ثلثا راتبه، ويعيش الشهر على الكفاف، يلوم نفسه كثيرًا على قرار الزواج، يرى أن المرأة تبرق كلما كانت بعيدة، مثلما هي في الأفلام، لكن في اقترابها تحرق.

أيدته في كلامه، خاصة أنني ملسوع من المرأة، ما علينا، مسكين صبحي، بخته قليل، منذ ظهر في الفيلم والدنيا نازلة عليه ضرب لحد ما ورم، ومع ذلك، عندما فتحها الله في وجهه وتزوج، وأنجب طفلة، أحس أن الحياة تبتسم له، لكنه فوجئ بزوجته حاملًا في توأم، ووجد نفسه خلال سنتين لديه ثلاثة أبناء، عجّز سريعًا صبحي، وصار يعمل في مكانين، والزوجة لا يكفيها الخميس فقط، معذورة، وصبحي مسكين، مقطوع من شجرة، لا أهل ولا إرث.

ــ الشاي فار يا ريس.

أفقتُ من سرحاني، كان صبحي يحب الشاي المغلي، قال لي:

ــ آخر مرة يا ريس، الدكتور قال لي شاي كشري يا صبحي.

قلت في نفسي:

أحا يا صبحي.. حتى الشاي!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري . الرواية صدرت مؤخرًا عن دار المحرر ..معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025

 

مقالات من نفس القسم