إسلام عشري
(1)
أدعى سانكا.. هذا ليس اسمي الأصلي، لكن وراء ذلك قصة.. ولكني سأرويها فيما بعد.. لم أعد طفلا.. أصبحت رجلا بالغا، واسمي الكامل الآن “سانكا سانغور راجا..”
لدي عائلة كاملة الآن في الهند، أو المحمية الإنكليزية كما يقولون عنها، لكني ولدت في مصر.. تحديدا في سوق للعبيد أمام قرة ميدان، الميدان الأسود.. تخيل أول ما تفتح عينك بالأيام، يكون السجن، في قبالتك.. لم أعرف لي لا أبا ولا أما.. لكن ملامحي سوداء.. ولدت عبدا، كما يجب أن يكون العبد.. بيد أني رفضت أن أكن كذلك منذ ولدت.. كنت أحس دوما إني رجل حر..
لا أريد أن أسبق الأحداث.. ولكن رغبت أن أعطي قارئي نبذة عني..
أرادوا خزمي كما لو أني طائر ما، بالفعل خزموا لي منخاري، ووضعوا قرطا به.. وأرادوا أيضا وصم إيلتي بعلامة لكي يعرف الجميع أني عبد.. بيد أني هربت من يد ذلك العلام، ومن ذلك السوق برمته حتى أطراف السوق إحم.. كنت أقضي يومي كله بفتات من نصف رغيف أو ما شابه.. حتى أني أصبحت كما يقولون جلدا على عظم..
كنت أنام في الخراب وراء جامع السلطان حسن.. مع عدة كلاب، لكن اختارني كلبان لأكون تابعهما.. كنت مسلما بالفطرة.. حين تتلى الصلوات أمامي، كنت أقعد وأتفرج على المصلين.. بوسط إحدى تلك الصلوات كنت أدعو ألا أبقى وحيدا.. علا صوت المقرئ بسورة “قريش” كما عرفت فيما بعد.. وقف عند آية “الذي أطعمهم من جوع.. وآمنهم من خوف..”
أسميت الكلبين بعدئذ “جوع”.. و”خوف.”
لا أعلم من أين أتيت لهذا المورستان.. ربما أتيت من قبل نخاس بعد حدوث ثورة المهديين.. أو جلبني أحد الطوارق من طبرق بليبيا.. حقيقة لا أعرف أصلي.. كذلك كل صور طفولتي مشوهة مهشمة.. لا أتذكر أي شيء عن أبي أو أمي.. كل ما أعلمه هو أني جلبت من خارج مصر.. وأصح القول أني لم أرغب في الولادة.. لكن الشارع أصبح بديلا لعائلتي..
راقبت أقراني كثيرا ممن أفلتوا من البيوت، وكان مكانهم الشارع، كانوا يعملون بالشحاذة.. عصرت ليمونة فوق حدقة عيني لكي أنجد جسدي بهذه المهنة.. لكن فشل وجهي في تحمل متاعب المهنة.. أو ربما كان فشلي؛ لسبب وجهي ذاته الذي اختاره الله لي. حينما كنت أنظر بصفحة الماء، أجد ما يبرر عدم تلفت الناس لشأني. بوجه يغيظ، يغطيه الذباب. كنت بشعر ثقيل أجرش، وملامحي قذرة.. وأنفي مفلطحة تبرز عن وجهي.. وأذناي كبيرتان لدرجة أن حلزون يصلح للمبيت بداخلهما.. شفتاي منفوختان ومقشفتان، شفتي السفلية -كأن ذلك لا يكفيني- مفلوقة من المنتصف.. وحاجباي ثقيلان كأنهما مرسومان بقلم كحل.. وكفاي مفلطحان كخفي جمل.. إلى جانب أن صوتي كان أجشا، لا يستدعي الشفقة، والقحة كانت تشي من صوتي..
ولسوء حظي كذلك لم تكن بي عاهة تعينني على الوظيفة.. فكلما رأى الشخص مشوها أو مخبوطا، أو مبطوحا، رق كل المارة لحال المتوسل، وأعطوه ما يعينه على كفاف يومه، وأحيانا يزيد.. وكلما كانت ملامحه أجمل، وأفضل كانت العطية أكثر وأجزل. أجل.. كذلك لم أكن أستحم إلا عندما يعطيني أحدهم عطية بالغة. كانا القذر والوسخ يغطيان جسدي بالأيام.. هذا ما كان يحدث، بآخر اليوم أعود إلى كلبيّ بخفي حنين.. لا شيء سوى رغيف من أرغفة الصدقة، إذا ما صادف ومات أحدهم.. موت أحدهم يعني رغيف قادم لحلقي.. كنت أنتظر موت الغرباء بفارغ الصبر..
بالهند يوجد بالأسواق العديد من الشحاذين، الشحاذين السحرة لو صح التعبير.. كانوا يتنقلون من حي إلى آخر.. يتسولون رزقهم من ألاعيبهم على المارة.. يدعون الإعاقة، لسد الحاجة.. بزي أقرب لزي الفراعنة.. بخرقة تغطي الخصر فقط، ولا شيء آخر.. ربما ينقصهم طرف أو أكثر.. ويمارسون الطيران في الهواء.. أو يلاعبون أفعى موجودة داخل جرة بمزمار..
لا أريد أن أبتعد عن موضوعي.. كنت أسكن بجوار جامع السلطان حسن، قربه تحديدا.. أخبرني بعض الناس الذين أمر بهم، بحكاية قديمة، فمنذ قرون سالفة كان هناك من المهرجين من يعبر الحبل، فوق المأذنتين، كي يتكسب الرزق.. كانت الحشود تقف مذهولة، وهي تنظر إلى فوق، ثم تضج بالتصفيق بعد أن يعبر المهرج من فوق الحبل كما الألف.. لا أعرف كيف يستطيع أن يتغلب على مخاوفه وهو فوق الأرض بمائة متر..
لدي أيضا مخاوف كثيرة، لكن أكثر مخاوفي بأثناء النوم كانت الثعابين.. كنت أخاف من الحنش.. أن يلسعني ويبتلعني وأنا نائم.. كنت أطرد كل مخاوفي قبل أن أنام متعبا.. لكن جعلتني هذه العادة متوثبا لدبيب النملة.. أسمع كما الذئب، وأنام بعين واحدة مقفلة..
كان السوق المقابل للجامع يحوي كل شيء تقريبا..
لو أردت جلب حوتٍ من هناك لوجدته.. بدأت عملي بكتكوت! في مكان بعيد بعدما تاه بعد فقسة من دكان ما، وجدته حينئذ قادما نحوي..أحضرت له فتاتا من الرغيف الذي أمضغه، مع شربة ماء.. أصبح يكبر أمام عيني.. أصبحت أما بطريقة ما.. قبل أن أعرف لي أما..
كنت أعمل بتربية كتكوت.. قبل أن يجدني الميتر دو أوتيل “براون” وأعمل كفتى استقبال بفندق شبرد.. ما زلت على عادتي من استباق الأحداث..
الآن لدي كتكوت، فيما بعد سيصبح مصدر رزقي. أول ما أفتح عيني، كنت أطعم الكلبين، أسد رمقهما وأرعى الكتكوت، بفتات الرغيف.. الذي أصبح يكبر يوما عن يوم.. ثم أصبح ينقر كديك بعد مرور الأيام.. كنت أعلم الأيام بحدوة حصان ملقاة، على جامع السلطان حسن.. وأحيانا بسلسلة من نوى البلح الملقى أمامي..
الآن أستيقظ قبل الديك.. كبر الديك أمام عيني، وصار ينغزني لأقوم.. بسوق الجمعة كانت الرهانات على مصارعة الديوك.. قلت لأجرب حظي بذات يوم..
ربحت بديكي كل المبارزات. ديكي كنزي الوحيد.. أصابه بعض الخدوش والجروح.. لكني عدت لجحري رابحا عدة ملاليم، بعدما لم أكن أجد من يعطيني قرشا من الشحاذة.. وأدفن الملاليم في الرمل بمكان لا يعرفه غيري.. لأول مرة أنام دافئا..
كنت أسمع الحاوي يتعامل مع الأفاعي.. كما كنت أسمع الرواة العابرون في السوق يتغنون بأسماء مثل أبي زيد الهلالي.. الزناتي خليفة.. وغيرهم من الأبطال الشعبيين.. يسيرون، يتفننون بغناء السير بالربابة..
لكن السيرة التي جذبتني نحوها مثل النداهة كانت سيرة “عنترة العبسي”.. كان مثلي مجهول النسب، وأمه زبيدة.. كان مفجوعا لذلك..
قررت تسمية ديكي الأول “عبسي”.. نسبة إلى السيرة..
تكررت الأرباح مرة بعد مرة.. أسماني المقامرون باسم “سنقر..” سيكون هذا اسمي مؤقتا كما سبق، وسأشرح اسمي الذي حصلت عليه فيما بعد.. توالت انتصارتي.. هذه المهنة الأولى التي امتهنتها بحياتي..
كنت سعيدا للغاية. تبسم الحظ لي أخيرا.. كانت هذه المرة الأولى..
لم تكن الأخيرة.. قابلت “عبود” السقا فيما بعد.. كان مثل نار بسارية.. كان معروفا للسوق بأكمله.. لعبود هذا حكاية.. كان يجلب الماء من النيل، ويبيع الماء في السوق بقربة.. كان الماء في الطلمبات مالحا.. ولا يروى عطاشى..
كان عبود يجلب الماء بقربته لكل من بالسوق.. يمر دائما على الطرق، ويمشي بين الأسبلة، والعطفات المختلفة، بأسنان صفراء مهدمة من شرب السجائر، ولفافات التبغ. كان يبيع الماء من قربته إلى الزبائن، بصاغات ليشتري التبغ، فلديه لفافات بعبوة صفيح في الصديري خاصته. يدندن وهو يمر بالناس عن الحبيب الضائع. يميل بجزعه وهو يحرك قربته، وحس مائه يترجرج مع حركته، ثم يزق بالإناء، أو الصفيحة، كما أزق ديكي عبسي كي يكبر. وفي آخر اليوم يخلع السطيح الذي يحمل به قربته، كي لا تبتل ملابسه -والتبغ أهم شيء- بالماء ثم يجلي صدره بعد سيجارة بكوب شاي مغلي، ويلعلع بالغناء.. بيوم عقدت معه اتفاقا فحواه بأن “ينظم لي مباريات لديكي عبسي.. في مقابل توزيع الماء بالورد، والماء بالليمون في مبارزات الديوك..
صار عبود يجلب الماء في القربة.. أولا يرش ساحة المعركة التي يتعارك بها عبسي بالماء، حتى يسكت التراب عن زعيقه، فتضحى الأرض سجادة مفروشة، جاهزة للقتال.. ومن ثم من قربته يوزع الشربات وماء الورد، على المقامرين الذين يراهنون على عبسي، أو غيره.. أصبح عبسي نجما ساطعا في سماء مبارزة الديوك.. وسيرته –أصبحت تروى كما مواويل السيرة الشعبية- على كل لسان.. كان عدد الناس بانتظار المبارزة مثل أفواه القرب.. لو ألقيت شوالا من نخالة قمح فوق الرؤوس ما وقعت من كثرتهم..
كبر عبسي.. وأصبح اسمه يصك الآذان.. أصبح لديكي “شنة ورنة”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وقاص مصري .. الرواية ثادرة عن الهيئة العام لقصور الثقافة .. معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025