حسن كبريت

حسين عبد الرحيم: "زووم إن" مرثيتي الجديدة عن فردوسي المفقود "بورسعيد"
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

خرس أبي وضاع بصره. وزاغت عيني على ماض تليد، لا حيلة لي اليوم إلا تاريخنا المشترك، من فينا إذاً يستحق الحياة والكتابة، واجترار الزمن وحياتنا سوياً يعد أن رحلت “الصديقة”. فهل ستعود للنبش فيما حدث. فلتكتب سيرتك إذا عبر الصور والذكريات ومحطات سكن كانت هناك؟!

عدت لنفس المدينة “القاهرة” وقالت لي الذاكرة فلتنهض وتستعيد البقية الباقية من طموحك القديم في البحث عن سكن قريب من مشروعك، عن أي المحطات إذا ستكتب، وتتوقف وتجتر..تجتر وبيدك الكاميرا الفوتوغرافية الكوداك وموبايل قديم يحمل آلاف الصور عن ما كان وحدث ولم تزل أصداؤه القاتمة مترسبة، راسية في نفس القاع بعنوانك الأثير فيما تكتب. صرت وحيدا تنهل من عقود طويلة عاش معها أبوك، (حسن كبريت)

ـ هل لم تزل تحيا؟

ـ في أي الأماكن تسكن؟

سكنت بلادا كثيرة فكانت الظلال التي تجمع ملامحنا المتشابهة حد التطابق تدعوني للبحث عن حياة، سكنت في الزمالك بعد أن عدت من رحلتي. أسفار طويلة لم تحقق لي رؤيتي ما أطمح إليه وأريد سرده، عما حدث.

أنا حسن كبريت ابن حسن عبد الرحيم العائش في الحقيقة، له تسعة عقود وسبعة أعوام فكيف يأتينني هذا الرجل، عسكري قديم متقاعد، قيل لي في الخطابات المتبادلة بيننا سراً انه جنرال، عاد من حرب خاسرة له سنوات طالت على الهزيمة، كانت ثكنتي الأولى في القاهرة قد شاء القدر أن تكون في مواجهته، ماتت زوجته، وبقى شابان تزوجا، وبنتان.. غالية وآية، ذهبت الغالية لبلاد بعيدة بعد زواجها، وبقيت “الآية” وهي الصغرى. يتحرك ظلها الفتي رغم قصر القامبة نسبياً، في الشرفة الطويلة التي تشبه عربة قطار مسافر، كانت تروح وتجيء بالغسيل لتنشر ألوانها المزركشة، كم سنة مرت منذ أن كبرت، واشتد عودها وخرطها خراط البنات وكان التلصص والسؤال، كيف تحيا آية بعد رحيل الأم زينب، تذكرت أمي وهو يكتب لي أول خطاباته. قال الجنرال القديم المتقاعد في رسالته الأولى

ـ أعلم أنك حائر منذ أن تركت مدينة الساحل وشاركت في الحرب عنوة، وجننت مثلما جننا كلنا.

في العام السابع والستين كانت كل الكلمات متشابهة يغلفها الخوف والخذر والكثير من الموانع تحت مسميات ومحاذير السرية والحفاظ على الأسرار العسكرية، كيف لي ذلك يا جنرال.

يكتب الجنرال ويستكمل أول رسالة لي بعد أن صار سكني في مواجهته. فتحت الرسالة الأولى غير المنتظرة، لم أستوعب هذا الحدث، لم يمر على سكني في دار السلام أكثر من عام، فكبف عرف الرجل بتاريخي وعلاقتي بالحياة، الجيش، فترة خدمتي التي طالت لعشرة أعوام عدت بها بصمم في أذني اليسرى، وشعر خفيف برأس شبه صلعاء. وملامحك التي تتغير من وقت لآخر وأنت تسأل نفسك كل حين: من هذا الرجل، الجنرال المتقاعد، وكيف استطاع بجسده هذا الضئيل وطول فارع ساعد في انحناء ظهره، بوجه خمري تظهر ملامحه جلية كلما دخلت الشمس تلمس شيش النافذة الوحيدة الخارجة من خلف جدار وحيد يفصل الغرف عن تلك الشرفة الطويلة والتي خرجت منها للتو “آية” وبدأت تنظر ملامحي من خلف ستارة قديمة مهلهلة فصرت أحدق في ملامحها بتلصص من خلف تندة بلكونتي الصغيرة في مواجهة الجنرال,

يقول الجنرال في رسالته الأولى:

لم يعد في العمر بقية يا زميل، أنا متأكد أننا تقابلنا من قبل في زمن آخر، أظن أنك حسن، نعم أنت حسن كبريت، أعلم ذلك  وأحتفظ بالسر لنفسي حتى جاءت ابنتي الصغيرة آية وهذا يوم أن قررت أن تكتب عقد شقتك المؤقت، كانت زينب زوجتى تحن كثيرا لملامحك وتردد سرا فيما بينها وبين حواسها الرهيفة وقد طوت صرة متعلقاتي الشخصية خلسة بعدما أخرجتها من دولاب غرفة المسافرين وتطلعت للصور الفوتوغرافية القديمة التي احتفظ بها من وقت الحرب، لتنفرد بآية وتقول:

ـ لا أعرف ماهو سر العلاقة بين أبيك وهذا الساكن الجديد الصامت وعينه المغمضة، المفتوحة على اتساعها.

تضيف زوجة الجنرال وتحكي لإبنتها الصغرى، عن هذه الصورة التي تجمع أبيها ببعض جنود الجيش في الدفرسوار ومطار غرب القاعرة وصضورة وحيدة يظهر فيها هذا الرجل بالزي الميري الكاكي، أتأمل رسالة الجنرال لأتم قراءة السطور الأخيرة في رسالته الأولى إلي

أعرف أنك تعرفني وحزنت كثيرا عندما رأيتك بالأمس في صلاة الفجر وأنت تجرجر قدميك بثقل، ألم تعلم أنني أراك كل ليلة وأنت تصعد للسطوح واقفا وحدك تتطلع للسماء مشدوها بلا حراك إلا مناجاة الرب في العتمةـ

صديقي القديم الجديد أيا جار الونس والحزن والصراخ الدائم مع الكواء والجيران وبائعي الحشيش أسفل سكنك. ألم يحن الوقت بعد انسف أو نسيان تاريخ القديمك، ألم يحن الوقت بعد للتخلص من تلك الأحزان والبدء في حياة جديدة، صديقي القديم الجديد لا أعرف كم بلغ سنين عمرك الآن، بكل أسف لم أعد أتذكر إلا صوت أزيز الطائرات والنسف الوقتر لمطار غرب القاهرة، وبعضض صدى لصور الرفاق وقد تحولت إلى أشلاء وجماجم تفر في الرمال الصفراء في ظهيرة ستة يونية، رفيقي القديم الجديد، عندي الكثير من الصور تجمعنا سوياً وأريد التأكد من معلوماتي عنك، عزيزي المحارب القديم، لم يعد هماك إلا الصور وقليل من حكيك عن أحلامك مع الكتابة والسينما بل يهمني سؤالك وبجدية عن مصير كاميرتك القديمة، وأرشيف صورك ومسودات تلك الخطابات التي دائما ما كنت تبعث بها للعائلة فيسخر منك أبيك وقت أن ألزم شقيقتك فاطمة التي لا تجيد القراء بالإطلاع على أهم ماجاء فيها. صديق كبريت، هل لم يزل الأب يعاركك من أجل أن تلتزم بإرسال المصروف الشعري لبيت العائلة في مدينة الساحل. عمت مساءا يا رجل، ستجمعنا الأيام قريبا عندما تزوا الأحزان

أغلقت المظروف وعدت لأحداث الأمس. كان الكواء قد طرق باب الشقة وأنا المستسلم كالعادة لأحلام اليقظة، على وشيش أجهزة التكييف التي تتسرسب آتية من البيوت الخلفية عبر المنور المظلم، كانت الطرقات تتعالي بغضب ومعها تتردد عبارات الصبي الأت بالملابس

ـ يا حسن بك؟ّ!

أنا ونيس

افتح الباب، السلم مظلم والساعة الآن تخطت الثانية عشر ومعلمي طال إتصاله بي وتوبيخي.

سمعت صوته أخيرا وكنت قد عدت من المطبخ تاركا موبايلي القديم وصوري الكثيرة القديمة وعقل تائه. في سيرة الأب و” آية” وهذا الصبي الكواء والذي دائما ما يأتينني قرب منتصف الليل وقد تعالت طرقاته على بابي فزاد غضبي وانقطع شريط الماضي وبقيت مستسلما لرجرجات الذاكرة والزمن وهذي الخطابات وهذا الجنرال الذي يتتبعني ويحسب علي أنفاسي، أسأل نفسي في تيه وغرابة

لماذا لم يسع هذا الرجل للتحدث معي مباشرة إن كان يعرف عني كل هذا، أسأل نفسي في حيرة.

فتحت الباب وقال الصبي،

غذرا سيدى حسن فقد تأخرت علي كثيرا ويضيف صبي الكواء

_ سيدى لا تنصت كثيرا لأصوات الداخل.عش حياتك ولا تلتفت لمحطات الأمس.

عدت أفكر فيما قاله الولد وكيف عرف كل ذلك، وما علاقة الكواء وصبيه بحالي، عدت لصمتي واجتررت ودون مناسبة آخر لقاء جمعني بفتحي الكواء منذ شهر والذي قال لي يومها،

سمعت عنك الكثير والكثير وكل ما أريده واتمناه لك أن تفييق قبل أن يسرق الباق من عمرك أيها المحارب..ضحكت ولملمت بهض الصفحات، لم أعقب بل ضحكت بسخرية وارتفع صوت ضحكات الجنون وأنا مختالا جريحا ممزقا، مابين الماض والحاضر وصوت الأيام ومحطات عمر انقضى بصور قديمة، تشبه فيها ملامحي بتفاصيل وجه مملامح أبي حتى الوجه البيضاوي وسمار البشرة واختتام الأحاديث كلها بالبكاء حتى وإن كانت السيرة فرحة، أهرش شعري المهوش واضحك عائدا للإنصات للأصوات التي تطن، تخترق أذني وتهز كياني فتفتح لي حياتي وأبي وكل من قابلت في الرحلة،أدعك عيني في الخطو الثقيل نحو البيوت المجاورة وأجتر..كان صوت عقود تسعة ويزيد قد غلت ولبدت في يافوخي وأنا أستعيد صوت القطار المتوجه إلى الكينج مريوط بعد الثامنة مساءا بالباب الحديد ودب البيادات فوق رصيف أربعة في ليلة قمرية إرتفع فيها سطوع ليلة البدر على ضحكة مذعورة أطلقها سعيد السويسى وهو يغني وقت رفعة للمخلة

إيه يابلاد يا غريبة عدوة ولا حبيبة

أشرف البورسعيدي يلملم بقايا سيجارة حشيش قبل أن تظلم الرؤية على باب القطار الحربي وزعيق السيمافور في فضاءات صيفا بعيد لا أعلم تاريخه وعيون مغمضة على اتساعها تتحسس خطى الجنود القادمون صوب نوافذ متكسرة بلا زجاج ولا شيش، ‘لا من صوت أثير يأتي من ماكينات الديزل، بغل _ فيعمق من صوت الغياب والحضور. أبي وأمي وموانئ بعيدة عاش فيها الكائن وقابل ناس، لا تعد. و لم يزل يحتفظ بصورهم وهو يتحسس طريق النور في عتمة قطار.

……………….

*فصل من رواية

مقالات من نفس القسم