أحمد رُحَيْمة
كان انطباعي الأول عنه حين رأيته أول مرة، وكان ذلك في ورشة لتعليم الكتابة الإبداعية غير الخيالية، أن ذلك رجلٌ متسامح مع الأشياء. في ملامح وجهه ونظرته نوعٌ من الاسترخاء والتسليم الحزين بالأمور، ابتسامة شخصٍ ليس بحاجة لإثبات شيءٍ لأحد. حزنٌ هاديء يحتوي سلامًا داخليًا نابعًا من تقبُّل حتمية الألم. شعرتُ بكل ذلك دون أن أقدر على الجزم به. أستطيع الآن أن أصف انطباعي بتلك الدقة حين فهمتُه، كنت محقًا، وحدث ذلك بعد أن قرأت كتابه (33: عن الفقد والرهاب).
أؤمن أن كتابًا كهذا يسمو فوق التقييم، خاصة النصف الأول منه: عن الفقد، ليس لأنه أفضل من أن يُقيَّم، ولكن لا يمكن تقييم النزيف الصادق لشخص فتح قلبه وأخرج ما فيه على الأوراق. ليس لنا إلا أن نستمع بصمت. سيكون من قلة الإنسانية تقييم ذلك العمل. في النصف الأول من الكتاب يكتب مينا مدفوعًا بغريزة البقاء، يتشبث بالكتابة كي لا يفقد عقله. يحدّثنا من داخل الهاوية.
فقد مينا أمه ولم يتحمل الواقع. لن يدرك صدق وعمق كل كلمة كتبها مينا هنا إلا من فقد عزيزًا. وقد فقدتُ عزيزًا قبل أن أقرأ الكتاب، لذلك اخترقتني كلماته. في الصفحات الأولى ينزف مينا بشكل عشوائي. الأسابيع الأولى بدون أمه لأول مرة منذ أن وعى على الدنيا. خواطر وكلمات وحكايات صغيرة من فقرة واحدة أو سطر واحد وأبيات من الشعر. ليس هناك تحديد للأيام، الوقت يذوب في بعضه والساعات تختلط وكيان الزمن يفقد معناه ليصبح مسارًا لا يتوقف من التخبّط.
“حين أستيقظ: أنا بدونها كل الأيام.”
“انعدام المعنى الذي يقبع خلف الأشياء بلا هوادة، يتجسم بشكل مستحيل، حتى يمكن تحسس فوّهته أثناء الانسحاق تحت الوطأة.”
“على مستوى ما، لا شيء ينفع.”
“التناقض المؤلم في الاشتياق لسماع صوت ماما، والرعب من أن أجد تسجيلًا لها.”
“رأيتها جثة هامدة على الأرض، وبصراحة تامة، هذه الجثة الملقاة، هي ما كان يحبني بالفعل في هذا العالم.”
“كل شيء له نهاية، لا أحب ذلك. أتغذى على ذاتي حتى أنجو. يقولون إن لم تجد الربيع فعليك أن تصنع واحدًا. أرتجف في الثلج بشفة زرقاء. ويدي ممسكة بجذع شجرة كبيرة؛ كدح طويل وعنيد لتحويل الجزء الأسود إلى ماسة. لكن مفاتيح الحل كلها لا تعمل.”
لا أريد أن أتوقف عن كتابة الاقتباسات. إن مينا يقول أكثر بكثير من المكتوب. كل سطر يخبئ أكثر مما يقوله. كما يليق بشاعر ينزف. ولا أريد أن أعلق في الحقيقة. أي تعليق سيكون سخيفًا. لن يستحق أي تعليق أن يكون تعليقًا على تلك الكلمات.
“بشكلٍ ما لم أعد أخاف فكرة الموت مثل قبل، لي بيتٌ هناك تنتظرني فيه ماما.”
أتمنى لكما اللقاء في الجنة من قلبي يا صديقي. والذي يقدر أن يقول أي شيء غير ذلك أمام اشتياقك العارم لا يملك قلبًا. لا يستحق وصف “إنسان” من يقول حرفًا غير ذلك.
حين قابلتُ مينا لأول مرة كان ذلك بعد نشره للكتاب بفترة، ولم أكن قد قرأته بعد. لا أستغرب الآن أني أحببته فورًا. يبدو أن الصدق يلوّن الوجوه حقًا. فتح مينا قلبه لنا جميعًا كي نرى، فلم يعد بحاجة للإنكار. هذا شاعر صادق يملك روح طفلٍ يحب الحياة رغم الألم. متقبُّل للحقائق ويحاول أن يعيش رغم أي شيء. اقتربتُ منه أكثر بعد ذلك وتقابلنا عدة مرات. ذات مرة قبل عدة أشهر وكنا نجلس على القهوة، أنا وهو وعلي قطب صديقنا العزيز الذي كان سبب معرفتي بمينا، أطلق مينا تعليقًا ساخرًا بعفوية كاملة فانفجرت في الضحك وقد كان من المفترض أنها جلسة عمل نناقش فيها مشروعًا ما، ولم أستطع التوقف عن الضحك فضحك مينا أيضًا حين رآني أضحك هكذا، فضحكت أكثر، وعلي ينظر لنا مبتسمًا بصبر إلى أن ننتهي وقد كان يريد أن ننتهي لأنه كان مستنزفًا بالكامل من يوم عمل طويل، ولكن ضحكة مينا أكثر ضحكة مُعدِية ستراها في حياتك، يضحك بكل ملامحه. لم أستطع التوقف بسهولة، مع ذلك أرغمت نفسي بالكثير من المشقة كي نتابع النقاش، ولكني أضحك مجددا كلما تذكرتُ ذلك التعليق وملامح مينا وهو يضحك.
في الجزء التاني من الكتاب يكشف لنا مينا عن نفسه أكثر، ويخبرنا عن رهابه الاجتماعي. يخبرنا عن منطقته الآمنة مصر الجديدة وعما حدث له وقت الثورة وعن علاقة الأعمال التي نشرها بالرهاب واتصاله بالكتابة، وعن علاقة كل ذلك لدرجة ما بأمه وفقده لها. يعلو مينا فوق آلامه جاعلًا لنفسه اليد العليا عليها، دون أن ينكر وطأتها، ليستطيع التعايش معها، ويشرَح ذلك الداء ويشرِّحه ويشرِّح نفسه بقلم فنان، وبدقةٍ وبساطةٍ وعمقٍ لا يكونون إلا لكاتب كبير؛ كي يفهم هو نفسه ونفهم نحن الكثير عنه وعن ذلك المرض، ونفهم الكثير أيضًا عن الشجاعة؛ لأن كتابة كل ذلك والاعتراف به والسمو فوقه يتطلب قدرًا هائلًا منها، كما أنه يتطلب قدرًا مهولًا من التقبُّل والرضى والصدق. ومينا يملك الكثير من كل ذلك.
عن نفسي، حين أكون حزينًا، لا أميل إلى أن أقرأ كتابات حزينة أو تعبر عن الحزن. وقبل قراءتي للكتاب كنتُ قد فقدتُ خالي ودفنته بيداي. كنتُ أهرب، ولا زلت، إلى قراءة أعمال تبعث فيّ البهجة. ولكني فتحت كتاب مينا ولم أستطع التوقف. لذلك يؤثر فيّ النصف الأول من الكتاب لتلك الدرجة. كنتُ أتألم مع كل كلمة، ولكن الصدق يشدّني، يرغمني أن أكمل وأنا أشعر بالرهبة أمام كل تلك الصراحة. كنت أحاول أن أتماسك وأنا أقرأ، ثم لم أتحمل عند نقطة ما.. حين قرأت ما قاله عن أنه كان يعرف أنه لم يكن الابن المفضل لأمه المفقودة. كان يعرف ذلك وهي على قيد الحياة، وكان يتقبله بقلبه الدافيء الكبير. رغم أنها كانت تنكر ذلك كما يقول، ولكنه كان يعرفه ولم يكن يمانع. كان حبها الأكبر للأخت الكبرى. ومينا لم يكن يبالي بذلك، ويرضى بالقدر الذي تعطيه إياه من الحب. أعترف أني كدت أبكي حين قرأت ذلك. وددت لو أن أمه خصته بالقدر الأكبر من الحب، بصراحة، عرفانًا حتى على الأقل لكل ذلك الرضى..
كما كنتُ أتمنى لو أنها قرأت تلك الكلمات. ستقرأها في الجنة يا مينا. بل إني أؤمن أن مشاعرك لا بد قد وصلت إليها الآن بطريقة ما. لا بد. وإلا لن يكون الأمر عادلًا.
…………………
*روائي وسيناريست