دعاء إبراهيم
لا وقت للكذب!
في هذه الزنزانة، وبين ساعات الانتظار الطويلة، لا يمكنني أن أجزم متى بدأت الكارثة، لكن ما أنا واثقة منه، أنها انتهت حين أخبرني بنعيقه المزعج: “ستموتين اليوم.. ستموتين اليوم”. ابتسمت، أو ربما بكيت، وأنا أردد – بلا اكتراث – جملتي المعتادة في مثل هذه المواقف: “كف عن النعيق”؛ لكنه عرف من نظرة عيني، ومن تلك البسمة اللامبالية، أنني أسمعه جيدًا، أسمعه كما لو كان بشريًا، أو كما لو كنت أنا غرابًا!
موت أول
(0)
لم أرَ ملاكًا أبيض، يحمل جناحين من نور، ليخبرني في أسف، أن أمي ستموت الليلة. الليلة بالتحديد. ولم تكن رؤيا اصطفتني من بين الجميع. استيقظت على منقار طائر يثقب رأسي في الليل. الرؤية تنتفي في العتمة، فيصير الصوت أداة، كأن الكون يتقلص إلى جملة واحدة، تخبرني أن أمي ستموت الليلة، واقع ثقيل يحط على كتفي، مرهق ربما لأنها المرة الأولى. رغم كل شيء حاولت أن أجعل الأمر عاديًا. تخففت من ثيابي، وارتميت على السرير. اجتاحني، اليوم، شعور قوي بتجربة أحد ثيابها المخبئة، بين أكوام الملابس الدارجة العادية. “قميص نوم” قرمزي اللون. لمن لبسته آخر مرة، وهل كان عليها أن تبدل ملابسها الداخلية مع تبديل الأزواج؟ أم أن الأمر لا يعتبر ضرورة. من سيعرف لمن لبسته آخر مرة غيري أنا؟! وفي النهاية لن أشي لأحد. أنا الطفلة التي كانت تراقبكِ بعينين صغيرتين، عبر فتحة صغيرة تطل على صالة البيت. ألتقط وجهك، وجسدك شبه العاري، حين تمرين ما بين الحمام وحجرة النوم. كنت وحدي. مثلك الآن وحدك، أسفل لحاف ثقيل يكتم أنفاسكِ. وقتها، أيضًا، كان هناك شيء يكتم أنفاسي. قد تكون نحنحة الزوج الذي أخبروني أنه مثل أبي. صوت التحام المفتاح في الباب. تلك التكة المرعبة. لا أعرف لماذا أصابني الآباء الكثيرون بالرعب، خصوصًا وهم يديرون أكرة باب الشقة دون إذن، حيث يملكون المكان بأصحابه. وقفت أمام المرآة بثيابكِ القرمزية، أشتم رائحة عرقك البائت منذ زمن بين نسيج الساتان. ممزوج برشة برفان رخيص تحت الإبطين. أتخيلكِ رششتهما هنا، في مكاني بالضبط، بينما ترقبكِ عينان تلمعان. لنقل أنهما كانتا مرتخيتين على هذا السرير. تحركت قليلًا، بعد أن ألقيت نظرة أخيرة على قسمات جسدي الأبيض، داخل لونكِ القديم، لأنام مكانكِ لكن دون رجل ينتظرني بلهفة. هل علي أن أضحك بغنج في تلك اللحظة لأكون مثلكِ تمامًا! أم علي فقط أن أتذكر ما حدث منذ لحظات لأبتسم، أن أرسم صورة لك وأنتِ خائفة الآن في حجرتكِ، التي تبعد ثلاثة أمتار عن حجرتي المغلقة، ثلاثة أمتار فقط لكنها تبدو وكأننا على حافتي كون، وبيننا كل الكوارث التي حدثت، وستحدث، منذ كان الكون نطفة إلى تلك اللحظة. على بعد دهر وثلاثة أمتار، تركتكِ تنتظرين برشامة الذبحة الصدرية التي لن تأتي.
مغفلة، لأنك ظننتِ أن ابنة مثلي ستنقذكِ. كان يمكن أن أفعل ذلك بالأمس، أو اليوم صباحًا، أو قبل قليل، كأي ممرضة مطيعة. لكن الآن، بعد أن رأيته صار من المستحيل أن أفعل.
حين رأيته بسملت في الظلام، ظنًا مني أن العفاريت ستخرج بتلك الطريقة، وسينتهي الأمر. لكنها لم تصمت، ولم تغفل عن أكل رأسي بكلماتها، التي تقودني في الظلام نحو حجرتكِ. تأملت الكومود بجوار سريري. بدا أكثر سوادًا. ربما هنا تحديدًا، يجلس طائر أسود فوق بيضة زرقاء كبيرة. هكذا تخيلته وظننت أن صوته حذرًا! كانت صورة خاطئة على كل حال. لأنني بعد ذلك رأيته بوضوح، وحفظت كيف يقولها بهدوء، دون أي قلق أو ذعر. بهدوء قاتل. “ستموت اليوم”. قلت: لو أتى المعزون سيجدون البيت متسخًا. يحتاج الأمر لبعض الترتيبات.
هل كان حلمًا أم كابوسًا؟! أم محض حقيقية، كخيط أبيض في سواد ليل يقودني خطوة خطوة. لا زلت أحبو حتى لو اقتربت من الثلاثين. قادتني خطوات التنظيف، وكلماته إلى حجرة أمي، سمعتها تئن من الذبحة الصدرية. أعرف ما تحتاجه بحكم عملي كممرضة، وبحكم تكرار المشهد واعتياديته. فهي تعاني، منذ زمن، من نوبات الذبحة الصدرية التي لا تميتها، تزول، غالبًا، ببرشامة، أو اثنتين تحت اللسان. حين فتحت الباب ببطء وتلصص، بدت أمي مريضة أكثر من أي وقت مضى، صرخت بصوت مبلوع في وجه ممرضتها، التي تعمل بلا أجر، وهي تشير إلى علبة البرشام. لم تكن صرختها صرخة استغاثة، قدر ما كانت صرخة آمرة، حق مكتسب انتزعته فقط لكونها أمي.
مشيت بهدوء نحو البرشام الذي سينهي النوبة بسلام. رأتني بقميص نومها القرمزي، أتهادى في تردد ونعومة. لأول مرة، أدرك أن للتردد قوة خاصة. في تلك اللحظة، قررت أن أرتديه بعد انتهاء كل شيء. أمسكت برشامة بين أصابعي. تذوقتها بطرف لساني وأنا أرى ظله خلفي، كان مرعبًا في تلك اللحظة، يتأملني من الخلف ويجهز عليَّ بكلماته المسعورة، بصوت قادر على تحريكي. ثم يصمت كأنه لم يكن موجودًا قبل تلك اللحظة، ويعود ثانية لكن بصورة هامسة: “ستموت اليوم”. أتذكر أزواجها الكثيرين، لم يبق أحد منهم ليسعفها، بينما بقيت الممرضة المتروكة دائمًا من أجلهم، بقيت للخدمة ومسح القيء والخراء. “ستموت اليوم”. أردد خلفه بانفعال: “ستموت اليوم”. “ستموت اليوم”. “ستموت اليوم“..
أصوغها بطريقة هادئة ثابتة، كأنني أحدثها في أمر من أمور النميمة، التي لا تنتهي.
– عارفة يا ماما.. أنكِ هتموتي انهاردة.
تتلقى تلك الجملة الهادئة، بدلًا من البرشامة التي أخفيتها في قبضة يدي. تنقبض قسماتها وتسرح في الحجرة، باحثة عن ملائكة بيضاء ستسحب روحها على مهل. لكنها لا تجد شيئًا. تردد أمي:
هبقى كويسة لو حطيتي برشامة تحت لساني .
_طعمها مر.
– ………….
_العلبة فاضية
نامت ملامحها على فزع، بعد أن تأكدتْ من موتها. أو ربما كان فزعها، لأنها رأته كما رأيته أنا، واضحًا دون أدنى شك، يمسك لسانها بمنقاره، ويلتهمه ببطء وتلذذ.
_ نامي.. بكرة هتبقى أحسن.
خرجت من الحجرة، بعد أن تركتها مكتومة الأنفاس تحت لحاف ثقيل. ألقيت البرشام في الحوض، وتركت خلفه الماء ليذوب، لم يعد موجودًا كما أخبرتكِ يا ماما. أكملت عملية التنظيف، كي يجد المعزون البيت نظيفًا جدًا.
لكنها للأسف لم تمت يومها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية مصرية، والرواية تصدر عن دار العين – معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025