رانيا يوسف
في كتابه “البغاء عبر التاريخ” يقول محمد صادق صبور إن القرن التاسع عشر شهد صعود الطبقات البرجوازية في كافة المجالات في أوروبا، حيث كان وضع المرأة في تلك المجتمعات أكثر تعقيداً، ووضع الرجال قيوداً اجتماعية ودينية على الحرية الجنسية للمرأة تنتقل من سلطة الأب إلى سلطة الزوج، وتغلغلت فكرة ترهيب النساء وخلخلة علاقتها بجسدها في جذور المجتمع البرجوازي، كانت هذه الحقوق تخص الرجال فقط، وتم تقسيم المجتمع نفسياً إلى نساء فاضلات ونساء مومسات، يصف صبور نظرة المجتمع إلى العاملات بالجنس أنهن يجب أن يكن من الطبقة الفقيرة جميعهن مرضي متوحشات يأكلن كثيراً سيئات الخلق كسالي مبتذلات، وتجلت تلك الصفات في شخصية “نانا” الرواية التي كتبها الفرنسي إميل زولا عام 1880.
في عام 1856 عندما نشر غوستاف فلوبير رواية “مدام بوفاري” لم يكن معنياً بإثبات أو رفض هذا التصنيف أو بفضح الحياة السرية لنساء الطبقة البرجوازية في فرنسا، لكن بعد الهجوم الذي تعرض له واتهامه بتشويه سمعة المجتمع الفرنسي، خرج فلوبير مهاجماً هو الآخر منتقديه ونفي شغفه بـ المنهج الواقعي في الكتابة لكنه رفض أيضاً ما يسمى بصورة المجتمع المثالي الذي تسعى الطبقة البرجوازية تصديره للجميع، لكن الاحتجاجات ضده نجحت في الضغط على الحكومة الفرنسية لمصادرة الرواية وتقديم فلوبير وأصدقائه الذين ساعدوا فى نشر الرواية إلى المحاكمة بتهمة الإساءة للدين، وبعدما رفضت المحكمة طلب الدعوة وتم تبرئة فلوبير وأعيدت طباعة الرواية وحققت مبيعات خيالية وضعت اسم جوستاف فلوبير في قائمة أشهر الكتاب الكلاسيكيين في الأدب الفرنسي في اوروبا.
من هي مدام بوفاري؟ في البداية لم يكن فلوبير متحمسا لكتابة قصة مدام بوفاري، بعد استياء أصدقائه من الرواية الأولي التي كتبها وطلبوا منه تمزيقها، اقترح عليه أحد أصدقائه أن يكتب قصة ديلمار، تلك السيدة التي تدعي “دولفين دلمار” والتي وضعها الكاتب الأمريكي إيرفينغ والاس ضمن شخصيات كتابه The nympho and other Maniacs ، كواحدة من النساء متعددات العلاقات الجنسية في التاريخ الحديث، ويروى ايرفينغ أن دولفين كانت الزوجة الثانية لـ يوجين دلمار وهو طالب طب لدى والد فلوبير، جاء من أصول ريفية، ويصف والاس الحياة الرتيبة التي عاشتها دولفين مع زوجها الذي لم يستطع استيعاب جموحها الجسدي، رغم ذلك وبعد انتشار أخبار علاقات دولفين المتعددة لم يستطع التخلي عنها.
حافظ فلوبير على هوية الشخصيات الحقيقية وطبقاتها الاجتماعية ودوافعها النفسية وربما وصفها الشكلي عند نقل الحدث من الواقع إلى الرواية، حاول فلوبير أن يكون مخلصاً في نقل قصة ديلمار، لم يأخذ المعنى الحرفي لكلمة “رواية واقعية” وهي أن يروي الكاتب ما يراه أو يسمعه دون تجويد لكن هذا المنهج يلائم الحكي الشفاهي وليس الاسلوب الروائي حتى وإن استخدمه أكثر الكتاب انتماء إلى المنهج الواقعي، لعب تأثير قصة ديلمار علي فلوبير دوراً نفسيا في صياغة أدق تفاصيل الحكاية الأصلية خاصة طريقة تناولها الزرنيخ قبل انتحارها، لكن لم يمنعه هذا التأثر من فرض أسلوبه ككاتب، هذا التأثر الذي أنكره في البداية على أصدقائه.
يذكر “والاس” في كتابه أن فلوبير حاول تقمص مشاعر دولفين دلمار أثناء تحويلها إلى مدام بوفاري، قرأ الروايات الرومانسية التي ربما تكون تأثرت بها دولفين ودفعتها إلى البحث في أماكن أخرى عن الحب الجسدي وتحويلها إلى شخصية مستهلكة للجنس، يقول فلوبير “عندما كنت أصف تسمم إيما بوفاري شعرت بطعم الزرنيخ في فمي، وقد عرضنى هذا إلى نوبات سوء الهضم وتقيأت مرتين اثناء طعام العشاء”،ويضيف: “توقفت عن الكتابة أبحث عن منديل أجفف دموعي”.
لم ينجذب فلوبير في البداية إلى شخصية دولفين دلمار، رأى أن القصة عادية ولن تجذب أحدا، لكنه وجدها طريقة لتفادي فشله الأول في اثارة اعجاب أصدقائه. وبين انتحار دولفين دلمار ونشر رواية مدام بوفاري حوالي ثمان سنوات، ومن ضمن الأسباب التى استند إليها نقاد الأدب في رفض رواية مدام بوفاري، أن انتحار دولفين أساسا شيء غير مؤكد لأنه لم يسجل في الأوراق الرسمية علي أنه تسمم بالزرنيخ، فصيل آخر من المؤرخين قال إن دولفين أو مدام بوفاري كان ينبغي أن ينتهي بها الحال بهذه الطريقة.
انتحرت دولفين دلمار في السابعة والعشرين من عمرها بعد تسع سنوات من زواجها، لكن فلوبير أعطاها فرصة جديدة لتظل حية داخل روايته.