النباتية: اختيار فردي ومثير للجدل

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. شادن دياب

تُمنح الجائزة لأولئك الذين قدموا عملاً أدبيًا يحمل رؤية مثالية وقوية لخدمة الإنسانية”، وفقًا لوصية الكيميائي السويدي ألفريد نوبل. وقد استمر ذلك منذ عام 1901.

 

في عام 2024، حصلت الرواية “النباتية” للكاتبة الكورية هان كانغ على جائزة نوبل للأدب. وتبدأ هذه الرواية المثيرة للجدل كل فصل بعبارة تتكرر: “رأيت حلمًا”. هذه العبارة، التي تُعد إشارة واضحة إلى العبارة الشهيرة” “I have a dream” لدي حلم”، تتجاوز مجرد طرح تأمل داخلي لتفتح الباب أمام تساؤل عالمي. تعمل هذه العبارة كدعوة ضمنية للتغيير، سواء كان ذلك تغييرًا داخليًا أو جماعيًا.

الحلم كرمز للتغيير:

اختيار الكاتبة لتكرار هذه العبارة يجسد لحظة حاسمة، نقطة تحول حيث يصبح الحلم رمزًا للأمل أو الانفصال عن الماضي. تدعو الرواية إلى التفكير في أسئلة جوهرية: “لماذا نأكل؟ لماذا نختار ألا نأكل؟ وقبل كل شيء، ماذا يمثل هذا الخيار لرؤيتنا للعالم؟”.

في سياق هذا العمل الأدبي، تُطرح “النباتية” كخيار يتجاوز مجرد كونه قرارًا غذائيًا، ليصبح فعلًا شعريًا، واستعارة للجسد والإدراك الذاتي. لكن هذا الخيار يحمل في طياته أيضًا نقدًا للمعايير الاجتماعية والتوقعات التي يفرضها المجتمع. إنه يعكس تحولًا نفسيًا وسعيًا للتحرر الفردي، مع الانغماس في تساؤلات أوسع حول نمط استهلاكنا وقيمنا المشتركة.

تأخذنا الكاتبة عبر هذه العبارة المتكررة إلى حبكة معقدة يصبح فيها رفض تناول اللحوم نقطة انطلاق لصراع داخلي يتطور بين الشكوك والاضطرابات النفسية ومشاهد عنيفة ومؤثرة. تستعرض الرواية رحلة انحدار البطلة إلى أعماق المعاناة، حيث تتأرجح بين أحلامها بالعودة إلى الطبيعة واختياراتها الجذرية المرتبطة بالطعام. هذه الرحلة مليئة بالمستشفيات، ومشاهد الألم الشديد، والرفض الاجتماعي العميق. ويثير هذا العمل الأدبي أسئلة جوهرية حول الصحة النفسية، والأخلاقيات البيئية، وإعادة النظر في المعايير المجتمعية.

تغيير فردي في عالم مضطرب:

إذا كان تصريح ألفريد نوبل يدعو إلى إحداث تغيير في الإنسانية، فكيف يمكننا اليوم أن نتجاهل ما يمكن أن يقدمه هذا النوع من الخيارات الفردية للبشرية؟ فتح الباب أمام التساؤل الفردي في سياق عالمي مضطرب كالسياق الذي نعيشه اليوم يُعد في حد ذاته عملًا أدبيًا وسياسيًا. هذا الخيار الشعري المرتبط بالجسد والإدراك الذاتي يطرح تساؤلات عميقة حول قدرتنا على تغيير سلوكياتنا في عالم يواجه أزمات وجودية.

التغيير بين الموضة والتوترات الاجتماعية والمناخية:

في هذا السياق، يتم تقديم النباتية ليس فقط كخيار غذائي ولكن كاستعارة للتخلي أو التحول العميق. ومع ذلك، فإن هذا الخيار الذي يُنظر إليه غالبًا على أنه “موضة” في المجتمع الحديث يصبح موضوعًا مثيرًا للجدل. المجتمع والبيئة الاجتماعية لبطلة الرواية يتهمان هذا التغيير بأنه تمرد بلا أساس أو رفض للمعايير المتعارف عليها، مما يعمق من عزلتها.

الانفصال المفاجئ عن عادات الاستهلاك يُفسر جزئيًا من خلال المرض النفسي. هذا المنظور يُبرز تحولًا شديدًا ومفاجئًا دون عودة واضحة إلى العقلانية أو المنطق. في عالم يرتبط فيه الاستهلاك بشكل عميق بالسلوكيات الاجتماعية، يُنظر إلى هذا التحول كفعل تحدٍ ولكنه أيضًا بمثابة تحذير بشأن أوجه القصور في نمط حياتنا الحديث.

هبوط في أعماق المعاناة الداخلية:

تأخذنا هان كانغ عبر حبكة معقدة حيث يصبح رفض تناول اللحوم نقطة انطلاق لصراع داخلي. هذا الصراع يتطور بين الشكوك والاضطرابات النفسية، ويشمل مشاهد عنيفة ومؤلمة. تستكشف الرواية هبوط البطلة إلى أعماق المعاناة، متنقلة بين أحلام العودة إلى الطبيعة وخياراتها الجذرية المتعلقة بالغذاء.

تصبح البطلة رمزًا لعالم في مرحلة انتقالية، حيث يمثل الخيار الفردي فعلًا للتحرر ولكنه في الوقت نفسه مصدرًا للقمع الاجتماعي. يكشف سلوكها الجذري عن التوترات بين الحاجة إلى الانتماء إلى مجتمع استهلاكي والرغبة في تغيير عميق وأصيل.

تأمّل بعيد في الأزمات المعاصرة:

على الرغم من أن “النباتية” تسلط الضوء على قضايا مهمة مثل العلاقة بين الإنسان والطبيعة أو الضغوط الاجتماعية المرتبطة بالخيارات الغذائية، إلا أنها تترك فراغًا فيما يتعلق بالأزمات الحقيقية التي تواجه البشرية. تبدو الرواية محدودة في تأملاتها الفردية دون التعمق في القضايا العالمية مثل الأزمات الغذائية أو عدم المساواة الاجتماعية.

في عالم يموت فيه 25 ألف شخص، بينهم 10 آلاف طفل، يوميًا بسبب الجوع أو عواقبه، ويعاني فيه 854 مليون شخص من سوء التغذية، بينما تهدد ارتفاع الأسعار بدفع 100 مليون شخص إضافي إلى الفقر والجوع، تبدو الرواية غير كافية لتجسيد حجم التحديات الحالية.

الرواية كأداة للاختيار والوعي:

دور الرواية، خاصة في سياق عصرنا الحالي، هو توجيه اختيارات الأفراد وتحذير المجتمعات من القضايا الكوكبية التي تدفعنا لاتخاذ قرارات حاسمة من أجل مستقبل الإنسانية والكوكب. ومع ذلك، هل يمكننا اعتبار دور الرواية يتجاوز مجرد التأمل في الفرد ليأخذ رؤية أكثر شمولية وجماعية للقضايا العالمية؟ بعيدًا عن سرد صراعات الشخصيات الداخلية، من المشروع التساؤل عما إذا كان ينبغي للأدب أن يكون أيضًا محفزًا لإيقاظ الوعي الجماعي، وتحفيز التفكير في القضايا العالمية الملحة مثل الجوع، والتفاوتات الاجتماعية، والتغير المناخي. من خلال الخيال، يمتلك الكاتب القدرة على كشف تعقيدات المعضلات المعاصرة، في حين يحفز القراء على التفكير في عواقب أفعالهم الشخصية على العالم من حولهم. وبالتالي، تصبح الرواية وسيلة للتوعية، ومنصة لتحفيز التفكير، وإرشاد الاختيارات نحو وعي جماعي، وهو أمر ضروري في مواجهة الأزمات العالمية مثل المجاعة، والتغير المناخي، والظلم الاجتماعي

اختيار مثير للجدل لجائزة نوبل:

بالرغم من أن هان كانغ استطاعت بمهارة فائقة استكشاف تعقيد الاضطرابات النفسية، والضغوط الاجتماعية، والمثالية الجسدية للمرأة، إلا أن التساؤل عن البعد العالمي لهذه الرواية يبقى مشروعاً. فجائزة نوبل للأدب، بطبيعتها، ينبغي أن تكافئ الأعمال التي تُنير دروب الإنسانية وتقدم حلولاً أو تأملات عميقة حول الأزمات الكبرى في عصرنا.

رواية “النباتية”، رغم عمقها النفسي وقدرتها على إثارة الجدل، تفتقر ربما إلى هذا الأفق العالمي وإلى البعد الإنساني الأساسي الذي ينبغي أن يكون موجهاً لاختيارات جائزة بهذا الحجم وهذه القيمة.

مقالات من نفس القسم