حميد بن خيبش
يحتدم رأيان في قضية تذوق الأعمال الأدبية، سعيا لتحديد المسافة بين النص وقارئه. هل يتعلق الأمر بمتعة وجدانية متحررة من أي استدلال عقلي أو مسبقات لغوية وبلاغية؟ أم هي ملكة لا تستوعب جمالية قول شعري أو نثري، إلا باستيفائها شرط الإلمام بمعارف تساعد على الإيضاح وتبديد الغموض؟
إلا أن كلا الرأيين يتفقان على أن التذوق في مجال الآداب لا يتحقق بدون فهم. فالمتذوق في عالم الإحساس الجسمي يكفيه جزء يسير لبلوغ الإحساس المطلوب، سواء تلذذا أو نفورا، بينما يحتاج متذوق الأدب إلى وقت طويل، ينتهي خلاله من قراءة النص أو استماعه إلى نهايته.
تكمن خصوصية الأدب في كونه يتطلب إلماما بنظام رموزه، حيث الكتابة رمز ننفذ من خلاله إلى شيء كامن خلفها. ولذا يتوجب على كل قارئ أن يفك شفرات النص أولا، ثم يحدد مدلول كل كلمة في نفسها أولا، ثم بوضعها داخل سياق تعبيري وتركيبي متعدد بتعدد النصوص الأدبية زمانا ومكانا. وهو الجهد الذي لا تتطلبه التعبيرات الفنية الأخرى، من تشكيل وموسيقى وغيرها.
كل تذوق إذن يشتمل على معرفة في حدها الأدنى بلغة النص الأدبي وأسلوبه، والقواعد التي تحكم جنسه، ثم الاتجاهات التي ينحاز إليها كاتبه، اجتماعية كانت أم سياسية أم غيرها. وهذا يعني أنه لا يوجد قارئ يبدأ من نقطة الصفر كما يؤكد الدكتور إبراهيم عوض (1)، وأن الملكة النفسية التي تدرك نواحي الجمال لابد أن تسبقها عملية الفهم.
تلهمنا قراءة النصوص الأدبية شعورا مكثفا بالنشوة والامتلاء، لأنها استنطاق لما تحمله الرموز من صور خيالية، ورؤى ومشاعر وجدانية. وهو الشعور الذي لا يتحقق إلا بشكل مضطرب ومشوش في باقي الإبداعات الفنية، حيث اللوحة أو المعزوفة الموسيقية حاضرة أمام المتلقي يعاينها ويسمعها. أما النص الأدبي فلا يُقيد القارئ بهذا الحضور المادي، بل يحرره معتمدا على الخيال الذي لا يلتزم سوى بالخطوط العامة للنص.
هذه الحرية تتيح للمتذوق أن يخلق للنص الأدبي أوضاعا وأشكالا لا حد لها، وأن يستغرق فيه لدرجة الفناء، بحيث يصبح شخصا من شخوصه وليس مجرد متابع. وهي السمة التي يشير إليها أوسكار وايلد في قوله: ” تتلخص السمة الوحيدة المميزة للشكل الرائع في أن باستطاعة أي واحد أن يُضمنه ما يخطر على باله، أن يرى فيه ما يريد أو يرغب”.
يبدأ التذوق فرديا قبل أن يتخذ طابعا جماعيا نسميه “الذوق العام”، ثم ينعكس فيما بعد على الفرد. وهذا يعني أن التذوق عملية متجددة باستمرار، تتيح لبعض الأعمال الأدبية والفنية عموما أن تصمد أمام اختبار الزمن، بينما تفشل أخرى ويكون مآلها النسيان، رغم ما قد تستحوذ عليه من شهرة إبان صدورها. لذا يمكن القول دون مواربة أن التذوق الأدبي مشاركة إبداعية، تعزز بروز طاقات الخلق والإبداع لدى القراء، وتُنمّي التعبير الجمالي عن الذات والوجود.
رغم أن الأعمال النقدية للأديب المصري طه حسين تشكلت قبيل منتصف القرن الماضي، إلا أننا نلمس في تكويناتها إرهاصات ذكية بأهمية التذوق في إنتاج الدلالة الأدبية، والإسهام في تخمر الأفق النقدي الذي حرّك فيما بعد ثورة البنيوية. لقد تميز إنصات طه حسين للمنجز الأدبي باستحضار قارئه الضمني، ومشاركته أحكامه في الأدب والنقد، وبالتالي إرساء استراتيجية فكرية تتمثل القارئ وتصنفه إلى مستويات، بدءا بالموافق له وانتهاء بمن يفترض أنه خصمه. وقبل أن يتوجه للقارئ بصفته ناقدا للعمل الأدبي، كان يهمس في أذنه باعتباره متذوقا، يتدرب على اختبار فهمه، واستكشاف المنطقة الواصلة بينه وبين العمل الأدبي.
إذا أخذ طه حسين في نقد القصة، يقول الدكتور صلاح فضل، كانت بؤرة تركيزه على فعاليتها الجمالية تنصب على وصف حاله كقارئ، ووصف ما يتعين على بقية القراء أن يستوعبوه منها؛ فموقف القارئ هو الذي يحدد طبيعة النص، وليس العكس كما يتوهم بعض الناس.. إنه بذلك يبني الخطوط الجوهرية لصورة القارئ وهو يبني المعالم البارزة للنص القصصي. (2)
وطّأت الأعمال النقدية لطه حسين أرضية الاشتغال على الذوق والتذوق، باعتباره مقياسا للكفاءة الأدبية، ولكون غاية الأدب في النهاية هي تحقيق التواصل الجمالي. وهو يحدد للتذوق مستويين: أحدهما الذوق الجماعي لعموم الناس في زمان معين، والثاني هو الذوق الفردي الذي يمتاز به نخبة القراء، ويتيح لهم اختبار فاعلية النص الأدبي وكفاءته الوظيفية؛ لكنه يضعهم في علاقة جدلية متوترة، تسهم في تأطير ما يسميه بالحياة الفنية.
يستهدف التذوق جوهر العمل الأدبي وأصالته، وعوامل تأثيره في النفس الإنسانية. ولتحقيق ذلك يتسلح بقوتين: قوة الشعور وقوة الفكر. لذا يدافع بعض النقاد عن ضرورة الاستعانة بمعارف مختلفة، تتيح للمتذوق تعليل الذوق الذي حصل له من قراءة هذا العمل أو ذاك. يتعلق الأمر هنا بمستوى ثان هو “التعمق”، حيث ينتقل القارئ إلى تحليل وتعليل النص، ليكون تذوقه أعمق وأدق.
خلال هذا المستوى يصبح التذوق الأدبي قراءة للنص من داخله، وتحقيقا لأدبية الأدب كما يحددها الدكتور بيومي توفيق مصطفى في صورة حوار بين القارئ والنص؛ يصغي القارئ لكلماته فيثير الحوار من الهزة والقلق أكثر مما درج عليه، ويحاول استكناه الشكل اللغوي وسبر أغواره وتحليل طاقته الإبداعية. تلك الأدبية التي تثق بالنص وتعترف بقدراته، وتمارس فحصا مستمرا لتداخل بنيته، وفك شفرته، فتنمي ملكات الأدب بمعزل عن أشياء مقحمة عليه، كأبحاث علم النفس وعلم الاجتماع والجمال. (3)
يمنح التعمق في الأعمال الأدبية فضيلة توجيه النشاط الإنساني والفني للكاتب، في حال تحرره من ذاتيته المفرطة وإنصاته لنبض المجتمع. وهو توجيه ذو دلالة قيمة، يجعل من التذوق الأدبي مقياسا للتجربة الإنسانية في شمولها وجزئياتها، وفي صلابتها وتكيفها. لذا حين عكف تولستوي على تذوق مجمل الأعمال المسرحية لشكسبير، متحررا من سلطة التقعيد التي انتهجها النقد الكلاسيكي، كشف عن صورة العالَم الإقطاعي الذي كان شكسبير يتحرك داخله، ويحدد لأعماله وجهة ارستقراطية لا تهتم بالطبقات الكادحة!
كيف نتذوق الأدب؟
يثير رونان ماكدونالد في كتابه (موت الناقد) مسألة التحول الجذري الذي طرأ على المشهد الثقافي منذ الثورة الطلابية لسنة 1968. وكيف أن معاداة السلطة في مجتمع الشباب الأوربي امتدت لسلطة الناقد الأكاديمي الذي يملي وجهة نظره حول الآداب والفنون، كأنها كلمة فصل لا تلقي بالا لجمهرة واسعة من القراءة غير المتخصصين. هكذا إذن ازداد النقد تباعدا عن القراء، بعد أن تحول إلى ما يشبه العلم الإنساني الذي يستعير علوم اللغة والعلوم التجريبية في مقاربته للنص الأدبي؛ فعمد القارئ ” الجديد” إلى التخلص من النقد وأحكام القيمة، ليفسح المجال ل “وجهات نظر”، يدلي بها قراء تتنوع معارفهم وتوجهاتهم، وبالتالي “أذواقهم”.
كان لزاما أن يستحث هذا المنعطف الحرِج جمهور الدارسين لتأطير القراءة التذوقية، وتمكين القارئ من معايير واستراتيجيات تُشركه في تكوين النص الأدبي وإعادة إنتاجه. بل واشترط بعض النقاد كفاءات محددة يجدر بالقارئ أن “يتخلق” بها، من قبيل الموهبة الفطرية، والحساسية الفنية، والوعي المعرفي الشامل، والحياد الذي لا يُكره مستويات النص على التجاوب مع انتماء القارئ او اتجاهاته الفكرية والدينية وغيرها.
شكّلت قاعات الدرس منطلقا لتأسيس معايير تذوق النص الأدبي، وتخريج جيل من القراء يتميز أداؤه في التفاعل مع الأعمال الفنية المختلفة بالمنهجية والدقة. واهتمت الدراسات المعتمدة بوضع قوائم المهارات المطلوبة (رشدي أحمد طعيمة، أحمد عبده عوض، أحمد مناع، فرانك وآخرون..)، والتي يمكن الاتكاء عليها باعتبارها مستويات معيارية للتذوق، من قبيل:
– معرفة المعنى الدلالي والإيحائي للكلمة.
– التمييز بين الأساليب المختلفة في العمل الأدبي.
– استنباط العاطفة المسيطرة على العمل الأدبي.
– إبراز الدور الجمالي للصور والأخيلة في النص.
– تحديد العناصر البنائية للعمل الأدبي. (4)
وأما خارج قاعات الدرس فإن التذوق منوط بقدرة القارئ على التأمل الذي يحقق إفادة المعنى، والتأثر بالتجارب التي يعانيها الأدباء، كل وفق أسلوبه الذي تقترن فيه خصائص التعبير الفني بروعة الأداء، وبالتصوير الذي يُبرز المعاني في إطار مبدَع يهز النفوس.
يصير التذوق الأدبي حركة مستمرة بين النص وقارئه، حتى يحدث التوازن والتناسب، وتتحقق التجربة الجمالية. لذا يتوجب على المتذوق أن يجرد حواسه وشعوره إلى جانب فكره ليصدر عنه قبول العمل الأدبي أو رده وفق ملكة فنية عارفة.
يورد ابن سلام الجمحي في (طبقة الشعراء) خبر الرجل الذي قال لعلّامة البصرة خَلَف الأحمر: إذا سمعتُ الشعر واستحسنته فما أبالي ما قلتَ فيه أنت وأصحابك، فقال خلف: إذا أنت أخذت درهما فاستحسنته، فقال لك الصرّاف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟
…………………
- د. إبراهيم عوض: التذوق الأدبي
- د. صلاح فضل: حواريات الفكر الأدبي. ص148
- د. بيومي توفيق مصطفى: أدبية الأدب. ص7
- د. ماهر شعبان عبد الباري: التذوق الأدبي.