خارج السُلطة

أحمد غانم عبد الجليل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد غانم عبد الجليل

كانت تقف وحيدة تحت مظلة موقف الحافلات، مثل قطة تخشى البلل، تترقب  إقبال حافلة تقلها إلى منطقة قريبة من شقتها. جذبتني إثارة غريبة نحو جسدها المكتنز ومكياجها الساطع وثيابها الجريئة إلى حدٍ ما، أو على الأقل هكذا بدا لي عندها، فتحولتُ بين لحظة وأخرى إلى مراهق جسور لا يبالي بعواقب حماقاته، عرضتُ على زميلتي في العمل أن أوصلها، لأن الزحام شديد والمطر بدأ بالهطول بغزارة مفاجئة. بعد لحظات من تردد لا بد من تصنعه راحت تخطو نحو السيارة، فتحتْ الباب وجلست إلى جانبي، فطغت النشوة الرعناء على كل نزعة خوف تملكتني من قبل، كما لو أني لم أظفر بقرب امرأة متقدة الإثارة من قبل.

 في الطريق عرفتُ اسمها، ولم أستغرب إنها كانت تعرفني، فبالتأكيد كان الموظفون يتهامسون عن المسؤول القيادي المغضوب عليه من قبَل السلطة على حين غرة والذي تم نقله حديثًا. أدركتني غصة غريبة وصلتها آهة توجعها الخافتة. ربتت كفها فوق يدي القابضة على المقود بحنو انعشني واعتصرت روحي شفقته في آنٍ واحد، ثم أبصرت في نظرات عينيها دربًا كان من العسير الا أخطو فيه حتى النهاية. عند وصولنا إلى حيث أشارت لبيتُ دعوة الغواية شبه المعلنة بحجة تناول الغداء معًا، دون أن أهتم بالسؤال عمن يعيش معها أو من يمكن أن يفاجئنا بقدومه.

 على الأغلب أنهم سَلطوها عليّ، كما لو أن الرقابة الأمنية فطنت إلى نظراتي المتلصصة نحو الموظفات دون وعيٍ مني، وكأن هناك عريبدًا ثملًا داخلي كان يتوق للخروج من زنزانة السلطة، إلا أني سرعان ما تغافلت عن هاجس الحذر الذي اعتراني ونحن في طريقنا نحو شقتها.

 أوصدتْ الباب في إشارة لم يكن لي أن أغفلها مهما تراكمت في رأسي البلايا ونالت مني الصفعات، وكأنه عصب من عناد ثارَ فجأة ضد كل ما ألزمتُ نفسي التقيُد به، ألا أختلط بأحد، بل أن أتجنب الكلام قدر المستطاع حتى مع أقرب المقربين.

***

 حاولتُ تناسي حماقة يوم أمس التي ألقتني فوق فراشها مثل حلم عبثي لا تفسير محدد له سوى احتدام شهوة أرادت الهروب بي من أجواء الرهبة والترقب التي أعيش وتستنزف أعصابي شيئًا فشيئا. لكن ما الذي يمكن أن تريده مني، أو ما يريدون من خلال سطوة جسدها الذي أشتهيه اليوم أكثر من الأمس بكثير، ما دامت الاعتقالات في بلادنا لا تحتاج إلى سبب أو دليل قبل توجيه أي اتهام.

 قررتُ ألا أذهب إليها مهما جذبني سِحر دعوتها مجددًا، وأن أحاول تجاوزها ولو بنظراتي إن أرادت الاقتراب والتكلم معي، أو حتى إلقاء تحية عابرة، كما لو أني لم ألتقِها من قبل، ولو عبر صدفة مدَبرة على الأغلب، وإن حاصرتني بإغراء جسدها كما لو أنها لم تتلفع بأحضان رجل من قبل، فهذا هو شأن العاهرات دومًا، خاصة المدَربات من قبَل أجهزة أمنية صارمة لا تترك مجالًا لارتكاب أي خطأ مهما كان صغيرًا. مع ذلك يعود السؤال يسطو على ذهني؛ لماذا كل هذا، فهل تحتاج القيادة إلى تدبير كمين لاصطياد ثرثرتي من لجة هذيان الرغبة كي يتم اعتقالي!

 قدتُ السيارة نحو شقتها، على عكس ما عزمت طيلة ساعات الدوام، ويدي تقبض على ورقة صغيرة مطوية وجدتها فوق مكتبي الخالي دومًا من أي معاملة، فتحتها في وجل يكاد لا يفارقني في الآونة الأخيرة. كان الخط نسائي بامتياز، تخبرني من خلاله أنها بانتظاري في شقتها، تعد لي الغداء، وكأنها ما أتت إلى الدوام إلا لكي تترك تلك الورقة فوق مكتبي، فكانت لدي مثل دليل اتهام لا بد لي من التخلص منه بسرعة، إلا أني تخلصت من حدة توتري سريعًا، وكل اللعنات التي وجهتها نحوها ونحو الشهوة المتمردة التي ألقتني في فراشها، كي لا يسكن ملامح وجهي أي تعبير يمكن أن يثير انتباه عيون الرقابة التي أهجس أنها ترصدني باستمرار.

 وجدتُها في انتظاري بكامل إثارة امرأة تنتظر وصول زوجها. لم أبالِ لطاولة الطعام المعدة بعناية وذوق وأخذتها بين ذراعيّ نحو غرفة النوم دون أن أمهلها فرصة الاعتراض، وإن جاء عن دلال أنثوي يثير شهوة رجل في مثل محنتي نحوها أكثر. كنتُ أكثر هياجًا من البارحة، وكانت أكثر غنجًا وإثارة، كما لو كانت عاشقة وهبت عمرها من أجلي دون أي رجل آخر.

 لم يخطر في بالي سؤالها إن كانت متزوجة أم لا وأنا أستلقي إلى جانبها وذراعاي يحيطان خصرها من تحت البطانية التي احتوت شبقنا المجنون، وكأني أخشى إفلاتها من بعد أن أُنتزِعت مني منصابي السيادية في غمضة عين، وإن كانت كاميرات المراقبة ترصد كل حركة وكلمة تصدر عنا حتى أفاجأ بوقوف رجال الأمن عند حافة السرير.

 ضحكتْ بقوة لدى إفصاحي عن ذلك الخاطر كي تعرف أني كشفت عن حقيقة ستار الشهوة الجامحة التي جمعتنا، مع ذلك لا يهمني إلا أن تكون بين أحضاني، فأنا لم أعد أخشى شيئًا، وإن كانت كل تصرفاتي شديدة الحذر تشي بعكس ذلك.

قالت: يعني أنت جئت لكي تسَلم نفسك لمن يتربصون بك بين أحضاني؟ مع أنكَ لم تقل شيئًا يمكن أن يدينك.

ضحكتُ بدوري وقلت: ربما لأن شفتيّ ملتا الكلام والتنظير، وحتى الانتقاد والشكوى وتوجيه التهم بعد فوات الأوان.

حطَ صدرها فوق صدري في دلال لا يقاوَم، ثم قالت: بصراحة كان لقاؤنا مدبرًا من قبَلي، وحتى لو لم تتوقف بسيارتك لتوصلني كنتُ دبرت أكثر من حجة كي أكون أمامك بحيث لا تقوى على الفرار مني، وإلا شككتُ بتأثير أنوثتي أو فحولتك. لا تنظر لي هكذا فنظرات استغرابك المحدقة تعيدك إلى سطوة الرجل المسؤول الذي يهابه الجميع، مع أن تلك النظرات الحادة هي التي جعلتني أتعلق بك منذ كنت في بدايات المراهقة مثل تعلق الأخريات بنجوم السينما والغناء، يعني أنت كنت بمثابة عبد الحليم حافظ ورشدي أباظة بالنسبة لي.

ـ أنا! منذ متى، وكيف؟ 

ـ منذ كنت في المرحلة المتوسطة، فأنا ابنة (الأسطى) سلام البنّاء، وكنتَ أنت طالب الكلية المطارَد والمعتقل كل فترة. خبأك والدي ذات مرة في بيتنا حتى مروق رجال الأمن. كان يقف أمام الباب الخارجي للدار، تلقف ركضك في الشارع وجذبك من ذراعك نحو الداخل. بالتأكيد بعد كل هذه السنين نسيتَ الصبية الخجول التي كانت تمد برأسها من باب الصالة للتلصص على الهارب الذي آواه والدها، وفيما كان أخوتي الكبار يعرفونك جيدًا لأنك من أبرز شباب المنطقة المشاركين في المظاهرات والاعتصامات ظننتُ أنك مجرم واستغربت من اهتمام والديّ وخوفهما عليك، لكني أعجبتُ أيضًا بالمجرم الشجاع الذي لا يخشى الظهور في وضح النهار حتى لو تعرضَ للمطاردة في الشوارع.

عانقتني بحرارة اشتقتُ إليها وإن لم يغادرني دفء جسدها لحظةً واحدة، ثم أردفت: والدي ظل يتباهى بمخاطرة إيواء مناضل ثوري في بيته لدى صعود نجمك في دنيا السلطة، وشجعه ذلك على طلب الوساطة منك أكثر من مرة، ولو من أجل صديق، فقط كي يكون صاحب سطوة هو الآخر بين أصحابه؛ أما أنا فقد تم تعييني بتوصية خاصة من قبَل سيادتك، لكن دون أن أراك كما كنتُ أتمنى، وإن كنت لم أعرف كيف يمكنني التصرف دون حماقة تخبرك ما تعنيه بالنسبة لي.

ضحكتُ نشوانًا بعذوبة كلماتها وأنا أستعيد ذكريات كانت قد غابت عن ذهني تمامًا، ثم قلت: نعم صاحبي البنّاء العجوز. عرفتُ أنه توفى عندما كنت خارج العراق، ولما أردت تقديم واجب العزاء كنتم قد رحلتم إلى المدينة التي تركها والدك في سنوات شبابه.

ـ لكني لم أذهب. كنت قد تزوجت من زميل لي في الكلية دون موافقة أهلي في البداية لأنه كان شبه معدم، أو لنقل ليس عنده ما يغري فتاة في جمالي لدى عيون والديّ بالزواج منه في غرفة من غرف بيت بسيط يتقاسمه مع والديه وأخويه وزوجة وأولاد كل منهما، وبلا اسم عائلة يمكن أن يتباهى والدي بنسبها، لكنه كان شغوفًا بي إلى حد لا يصدق، وأنا أيَضًا كنت أحب ذلك الشغف إلى حد أني صرت أرغب به بشدة.

زمت شفتيها خجلًا، وأردفت: ولو دون زواج.

ضحكت بشقاوة فتاة مراهقة تثرثر عن أكثر خصوصياتها، ثم غيرت من نبرة كلامها: كان حلمه أن يكون رجل سلطة مثل كل من وصل إلى القصر الجمهوري على حين غفلة، ويمتلك سلطة التحكم بالناس كما كان يتحكم بي فوق سريرنا الضيق والقديم بين الجدران المشبعة بالرطوبة حتى تكاد تقبض على أنفاسي، مثلما تفعل شهوته المحتدمة دومًا.

ـ ما تقولينه أشبه بنكتة، لكنها نكتة سخيفة، لا تنتظري مني أن أشارك بها، فكل كلمة يمكن أن تصدر عني قد تزيد من اختناقي وإن لم تصل أسماع أي جهة أمنية.

ـ لم أتصور أنك جبان إلى هذا الحد.

استدركتْ غضبي من تطاولها بقبلة، ثم أردفت: لا تزعل يا فارس الثورة الشجاع، فكلنا صرنا نخاف من أنفسنا إن تجرأنا وثرثرنا بأي كلمة ولو داخل بيوتنا، ولكني الآن أريد أن أتكلم دون حساب لأي شيء ما دمتَ معي، جسدك لي وجسدي لك، عاشقة تريد أن تثرثر دون خوف ولا خجل، وإن كنتُ بالنسبة لك قحبة هطلت على حياتك من الماضي.

ـ لا تقولي هذا. أنا…

قاطعتني بقبلةٍ أخرى، وقالت: أنا وأنت جمعنا فراش واحد في وقت يتفرق به الجميع في جحور الخوف، وكما حصل لكم داخل أروقة السلطة يحصل لي ولآخرين في كل مكان، لكن دون أن يصدر صوت عن أحد.

قبَلتها في محاولة للتغافل عن كل ما قالت وما تود أن تقول، ثم انقلب جسدي فوقها وأنا أهمس في أذنها: الآن ليس هناك أحلى من وشوشة العناق بين أثنين التقيا في يومٍ ماطر لا ندري أي شمس يمكن أن تشرق بعده.   

***

 بدوتُ جبانًا أمامها بالفعل لمّا صددتُ استرسال كلامها بشأن زواجها المتمرد وحلم زوجها بارتقاء سلالم السلطة، إلا أنني فعلًا بقيت تواقًا إليها بمعزلٍ عن أي كلام لا طائل منه، وما همني أين زوجها الملعون الآن ما دام قد هجرها كي تكون لي، وكأنه خلَفها من أجلي في زحمة كل ما أواجه من ضياع، وربما كانت لغيري من الرجال أيضًا، لم أشأ أن أشغل نفسي بمثل وسوسة العشاق هذه، وإن كانت تريدنا أن نكون عاشقيْن فعلًا، يضمهما صخب أحلام كثيرة غادرت كلًا منهما ووجد بقاياها وأصداء حنين مرحلة الشباب الأولى في أحضان الآخر المتلهفة للمسة اشتياق لم يبددها تعاقب الأحداث في حياتنا، رغم فارق العمر، ورغم أننا نكاد لا نجد ما يجمعنا أكثر من شهوة الفراش التي تخبرنا مرة إثر أخرى أننا الأنسب لبعضنا، وكأننا نتفق تمامًا على تفاصيل كل مداعبة وهمسة وعناق، وحتى كل غفوة نستيقظ منها في لحظةٍ واحدة تقريبًا كي نستأنف أشواقنا من جديد. أشواق الصبية والفتاة المبهورة بالمناضل السياسي والمسؤول المهاب صاحب المنصب المهم والحظوة الذي اعتاد أن يمشي وراءه الحرس ويسعى لنيل رضاه كبار الموظفين، فيما ظلت بعيدة عنه دومًا، لا يحق لها إلا بمواصلة الحلم، ولو بين أحضان من تزوجته، فقط لأنها أبصرت في نظراته جدحات شبق لا تنتهي، أوهمت نفسها لفترة أنها من فرط لوعة الحب، رغم كل رغبات زوجها بالتسلط والتملك، خاصة بعد انتسابه بوساطة من شقيقه الأكبر إلى جهة أمنية، وفي ذهنه أنها مجرد مرحلة مؤقتة لا بد أن يمر بها كي ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة أكثر أهمية توصله ذات يوم إلى منصبٍ سيادي مرموق.

 كان مهووسًا بها وبسطوة السلطة في آنٍ واحد، حتى راح يقلد هيئة أهم رجال الدولة في كل شيء، إلى حد أنها خافت أن يستولي عليه الجنون في نهاية المطاف، أو يُلقى القبض عليه بتهمة تقمص شخصية سيادية، إلا أن النقود واستقلالهما في بيت يخصهما وحدهما حجبا عنها كل تخوف يمكن أن يراودها  من حماقة تصرفاته، حتى أهلها راحوا يتراجعون عن موقفهم ضده شيئًا فشيئا حتى صار المدلل لديهم، مع ذلك ظل والدها يقصدني في وساطته، كوني الاسم البارز في المنطقة ومجالس أصدقائه، أما زوج ابنته فطبيعة عمله تحتم عليه الانزواء عن العيون.

 لم أرغب أن تتطرق إلى تفاصيل مهام عمله كي لا أصَدع رأسي أكثر بما أعرفه عن وحشية الجهاز الذي جعله من ذوي المهام المسكوت عنها، من قبَلنا جميعًا، أصحاب النفوذ والسطوة والابتسامات المطمئنة في وهج (فلاش) الكاميرات خلال المؤتمرات الصحفية التي تنقل أخبار الثورة في أبهى صورة للعالم، خاصة الدول التي تكيل لنا أبشع الاتهامات بشأن حقوق الإنسان.

 حكت، حكت، حكت… ويصعب تصديق كل ما قالت، لكن كان يتوجب عليّ سماع قصتها للنهاية، ولو بدافع الفضول، وكي أظهر لها أني مهتم بكل ما يخصها حتى أوصلتها الحكاية إلى أرضي الزلقة التي تكاد تلقيني إلى حافة الانهيار.

 على ما يبدو أن زوجها كان محدود الذكاء أيضًا، يكفي أن يتسلم مسدسًا وهوية رجل أمن كي يشعر أنه صار من ضمن قيادات البلاد، وأنه قادر على أخذ الرشا و(الخاوة) من هذا وذاك.

 بعد أن تم اعتقاله لعدة أشهر في ذات المبنى الذي كان يعمل فيه، وصار زملاؤه يستلذون بتعذيبه، كما كان يفعل مع أخرين، أُفرج عنه مضطرب العقل، يسَلط كل لعناته نحوها، يستمتع بضربها واغتصابها، ليس هذا فحسب، إنما عرض عليها أن يعَرفها على رؤسائه السابقين كي يستطيع فرط دلالها إعادته إلى وظيفته التي لا يعرف أن يمتهن سواها، كما لو أنه وُلد كي يكون رجل أمن، ولمّا هددته بي دون أي شخص آخر، لأن والدها صاحب فضل ومكانة لديّ، طلب منها أن تقابلني وترجوني تعيينه من جديد، لكن هذه المرة في القصر الجمهوري دون أي مكان آخر، ولتكن لي ما أشاء.

 شاركتُها الضحك المخمور من كلام وجدته من أغرب ما سمعت طيلة سنوات عملي داخل أروقة الدولة، وأيضًا لأنها لبت طلبه وصارت لي فعلًا، لكن بعد خروجي من فلك السلطة، محط أنظار الجميع، ومن تلقاء نفسها كما زعمت، وليس لأنها مدفوعة من أي جهة كما ظننتُ في البداية.

 لا أدري إن كانت فبركت كل هذه القصة كي تبعد عني أي هاجس شك يساورني بشأنها، إلا أنها طمأنتني من ناحية أخرى كون زوجها لن يباغتنا بحضوره فجأة، فقد تفاجأتْ بسفره إلى خارج البلاد.

قالت: منذ أن رحل اعتبرت نفسي امرأة مطلقة ولا يحق لأيٍ كان التحكم بتصرفاتي، ولا حتى أهلي أو أهله.

صمتت، ثم أردفت في نبرة شابها الحزن والانكسار: لكني أيضًا لا أريد أن أكون لك مجرد محطة اضطررتَ للوقوف عندها حينًا من الوقت ثم تغادرها وتمضي كما فعل.

احتضنتها بقوة وقلت: هل تصدقين لو أخبرتك أنكِ صرت أقرب إليَ من كل مَن أعرف الآن، رغم علاقاتي وصداقاتي المتشعبة في كل مكان عندما كنت من ضمن الطبقة الحاكمة في البلاد.

قالت في سخرية: ربما لأني أعطيك ما يخجل منه الآخرون.

 تشاركنا الضحك بصوت عالٍ مخمور قبل نهوضي عن الكنبة، حيث ظلت مستلقية بإغراء يدعوني ألا أغادر. خرجتُ من شقتها في خفة غادرتني منذ سنوات، دون أن أبالي إلى حملقة نظرات جارتيها لدى مروري من أمامهما، إلا أن تلك النظرات التي لاح فيها شيء من الاشمئزاز ظلت تطرق ذهني وتكيل اللوم لما إلتُ إليه في نهاية درب النضال وهتاف الجماهير الصاخب في كل مناسبة تشيد بتحقيق المزيد من الانجازات الكبرى، بالإضافة إلى ما جذبته من تساؤلات لم يدر في ذهني أن أسألها بدَوري؛ إن كانت تحبني فعلًا أم أني بالنسبة لها مجرد حلم قديم لم تستطع تحقيقه إلا عند تهاوي صورته من الأذهان وابتعاده عن عرش السلطة التي تاق إليها زوجها حتى كاد يفقد عقله داخل معتقل كان من ضمن سجانيه، إن كانت سوف تبقى تغمرني بذات اللهفة كلما أقبلت عليها دون رغبة في تركها أبدًا، وإن كنتُ الوحيد الذي يطأ فراشها ويرتشف من خمرها الذي يسكرني ويجعلني أنسى دسائس السياسة الأقرب إلى لدغ العقارب.

 لم تخبرني إلا بعد فترة أن لديها ابنة عمرها ست سنوات، وأنها تقيم في بيت أهل زوجها الذي غادرته بعد أن اغتصبها شقيق زوجها الأكبر، دون أن يسمح لها بأخذ طفلتها معها؛ أما أهله فقد صدَّقوا إدعاءه أنها هي من أغوته وظلوا يتفرجون عندما طردتها زوجته من الدار ذات يوم إعفائي من جميع مناصبي.

 مصادفة غريبة أخرى، بالكاد أستطيع تصديقها من ضمن سلسلة المفاجآت والمفارقات التي وجدت نفسي أعيشها في حياة تبدو لي كما لو أنها لآخر لا يمت لي بصلة لولا وجع الذكريات ومخاوف المجهول الذي ينتظرني ما لم أستطع الفرار من شِباك المصيدة التي نُسجت من حولي كي يرتقي آخرون، حسب ما تقتضيه عجلات الحكم الماضية إلى الأمام دومًا دون أن يتسنى لها الالتفاف ولو لوهلة إلى ما خلفت وراءها من ضحايا، ربما ما يميزني عنهم أني لم أتزوج وبالتالي ليس لديّ أبناء يشغلون كل تفكيري من أجل إنقاذهم من الهوة السحيقة التي وجدت نفسي أهوي إليها بسرعة لم تمنحني فرصة فهم ما حدث ويحدث في بلادنا كل حين.

 لم تستطع الذهاب إلى أهلها وتعرية نفسها أمامهم بالكامل، ففضلت البقاء في العاصمة الكبيرة كي تظل على مقربة من ابنتها، تتحين الفرص لرؤيتها كلما استطاعت، بعد طول توسل مرةً وإثرة شجار عاصف ومن ثم وساطة من الجيران أخرى.

 كلما تحدثتْ عن مواجعها أكثر، تكتنف عبرات صوتها غصات الدموع، فيما اشتاق إليها بهوس مراهق محروم. كدت أخبرها بأني أفكر بالإقامة معها في شقتها، إلا أني استدركت اندفاع رغباتي نحوها بما تبقى لي من إرادة  تحرضني أن أنهي مسلسل علاقة السياسي المعزول بأول امرأة يلتقيها كي ينسى في خضم شهواته كل ما لاقى ويواجه وما يمكن أن يجده من مصير.

 كنت كمن ينوي الانقطاع عن تناول الكحول مرةً واحدة، وقد سيطر عليه هاجس أنه صار في طريقه إلى الإدمان، وإن كنت أعرف أن هذا ليس بالأمر اليسير، إلا أنه كان يتوجب عليّ فعل ذلك قبل الانغماس أكثر في فتنة من وجدتها بانتظاري في أصعب ظرف مررتُ به في حياتي، لكن رغم كل عزم واتاني لم أستطع التخلي عن شهقات حياة جديدة صارت لدي بمثابة الملاذ الآمن من وسوسة الانتحار.

***

 قبل وصول شخصين يرتديان ثيابًا مدنية لأخذي من مقر عملي إلى المعتقل، كما توقعت منذ أشهر، قرأت في صحيفة رسمية، بالبنط العريض، خبرًا عن عزم القيادة التخلص من بقايا بؤر الخيانة لحساب جهات خارجية، ومن ثم خبر العثور على جثة عشيقتي المنتحِرة، كما أفاد تقرير الطب الشرعي، في شقتها بعد سماع صوت عراك حاد بينها وبين رجل تبين أنه شقيق زوجها، والذي شاءت الصدفة أن يتولى مهمة تعذيبي فيما بعد، وكانت قد تركت ابنتها الصغيرة لديه من أجل إقامة علاقة غير مشروعة مع رجل شهدَ الجيران أنه كان يأتيها بصورة يومية، دون أن يعلموا شيئًا عن هويته.

……………………

*كاتب عراقي

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال

محمد فيض خالد
تراب الحكايات
محمد فيض خالد

قصتان