محمد غازي النجار
١- السقوطُ جماعةٌ
هُنا حيثُ سقطتْ أحلامُنا الكبرىٰ وانهزمتْ
تحقّقتْ إرادةٌ ما
كُنّا نُحِسُّ بها ونحاولُ إنكارَها أوْ محوَها
إرادةٌ كالرياحِ
كالفيروسِ القاهرِ
كآثارِ أقدامِ الجنِّ
تدخلُ كالهَزيمِ مِنْ كُوّةٍ في أقصىٰ الرُّوحْ
ويستقرُّ هسيسُها في قبوٍ خفيْ
هُنا حيثُ انكسرَ الأفْقُ
ودّعْنا الذكرىٰ المضيئةَ علىٰ الطريقِ إذْ تحتفظُ بجهدِنا اللامعْ
ومَشيْنا مِشيةَ الأحرارِ
مطمئنِّينَ
بلا عجلةٍ أوْ تأنّي
نُصفِّرُ باسِمينَ
رافعِينَ رؤوسَنا
نُوزِّعُ النظراتِ علىٰ ما أغفلناهُ كثيرًا حوْلَنا
لقدْ تحرَّرْنا مِنْ حيثُ لا ندري
لا شيءَ نخافُهُ
ولا عادَ يُغرينا الأملُ
واتسعتْ لنا دقائقُ المكانِ لنملأَ براحَ الوقتِ بما أهملناهُ طويلًا
٢- القيامةُ فردٌ
ها هُوَ سريرُ المساءِ يستطيلُ؛ لأراودَ امرأةً عنْ نهدَيْها أخيرًا، وأشقَّ تفاحتَها نصفَينْ، ليلتئمَ الجسدانِ المُتعبانْ، وأنفخَ فيها مِنْ رُوحي، وأهديَها باقةَ وَرْدٍ كُلَّ ليلةْ، وزجاجةَ عِطْرٍ كُلَّ خميسْ، وخاتَمًا مُتوَّجًا بالماسِ واللازوردِ في عيدِ ميلادِها.
ومائدةُ العَشاءِ تنبسطُ أطباقُها لشرائحِ السلمونِ المقليةْ، وشرائحِ الضأنِ المشويةْ، والفاكهةِ المُستورَدةْ، وكُلِّ ما أشتهي، ويَلتمعُ الكأسُ بالنبيذِ الفرنسيِّ الفاخرْ، وتَلتمعُ الحياةُ في عيني.
أخيرًا سأرتِّبُ غرفتي المبعثرةَ أشلاؤها بما يليقُ بدنيايَ الجديدةْ؛ فلا تتحوّلُ إلىٰ أشباحٍ وكائناتٍ وحشيّةٍ في منتصفِ الليلْ.
سأسافرُ،
يقولونَ “للسفرِ سبعُ فوائدْ”
سأسافرُ وأكتشفُ الثامنةْ.
سأقِيمُ صداقاتٍ جديدةً معَ البُسطاءِ والفقراءِ والأيتامِ وكبارِ السنِّ وذوي الاحتياجاتِ الخاصةْ، وأحملُ همومَهمْ علىٰ كتفَيَّ في الصباحْ، وأسكنُ قلوبَهمْ في المساءْ.
وأوطِّدُ علاقاتي معَ الجيرانْ، سأُهدي جارتي المُكشِّرةَ أصيصَ زهورٍ يفتحُ في قلبِها شُرْفةً للجَمالْ، وكتابًا لجاريَ المُقعَدِ يتمشَّىٰ في شوارعِهِ ويتنفّسُ هواءً جديدا، وجارتي الشابّةُ التي تُسبِّل عينيها كُلَّما رأتْني سأهديها ديواني كيْ تراني.
وأكوِّنُ صداقاتٍ معَ الكائناتِ حولي:
سأشاركُ قططَ الشارعِ طعامي، وأتمشَّىٰ معها أوَّلَ الوحدةِ آخرَ الليلِ، وأجالسُها حتىٰ أفهمَ لغتَها، وأسامرُها في المساءِ التالي.
القططُ ملوكٌ، هبطتِ الأرضَ لقضاءِ عقوبةٍ مِثْلَنا، وهيَ ألطفُ مِنْ بعضِ البشرِ، وذكيّةٌ كالوَرْدِ، وحسّاسةٌ كالماءِ، ووفيّةٌ إلىٰ أبعدِ حدْ.
سأُنهي ليلتي عندَ الفجرِ بالإصغاءِ إلىٰ سمفونيةِ العصافيرِ علىٰ الشجرِ وفي المَنورْ، وأنامُ علىٰ حكاياتِها الموسيقيةْ.
سأنتظرُ هُدهدَ العصاري حينَ يزورُ حيَّنا، وأحاولُ أنْ أستشفَّ منهُ قِصّةَ التاجِ فوقَ رأسِهْ، وحكاياتِه فوقَ الماءْ، وسِرَّ طيرانِهِ في دوائرَ ناقصةْ، رُبّما هُوَ الآخَرُ يسعىٰ للكمالْ.
وفراشُ الضحىٰ سيعرفُني وحدَهُ، ويطوفُ حولَ طيفي؛ فالفراشُ شعراءُ حقّقوا حُلْمَ الجناحَينْ، ألا نرىٰ افتتانَهُ الخالدَ بالنورِ والوَردِ والجَمالْ.
سأشتري كِيسَ سُكّرْ، وأذهبُ لمُستعمَرةِ النملِ القريبةْ، وأصنعُ لها بملعقتي تلالًا بيضاءَ ضخمةْ..
أخشىٰ أنْ تموتَ مِنَ الفرحْ!
والجروُ اللقِيطُ الذي وجدتُهُ جوارَ عمارتي، سأشتري حقنةً وأرضعُهُ بها، وأعوِّضُهُ عَنْ غيابِ أُمّهِ، وأتأمّلُ الحياةَ وهيَ تكْبرُ فيهِ والوفاءَ كيفَ ينمو بينَ رُوحَينْ.
وعبّادةُ الشمسِ التي أرادتِ الحياةَ؛ فقهرتْ جغرافيا المدينةِ، ونَمَتْ مِنْ تحتِ حافّةِ عمارتي رافعةً رايتَها الصفراءَ فوقَ البلاطِ زاهيةً، سأصوِّرُها وأبصُّ في صورتِها كُلَّما تقمّصَني اليأسْ.
سأعانقُ صفَّ الأشجارِ شجرةً شجرةْ، وأعلِّقُ علىٰ أغصانِها ما تبقّىٰ مِنْ ذكرياتي المُترَبةِ كيْ تتشمّسَ وتنمو.
وأُقبِّلُ جَبينَ النخلةِ الوحيدةِ خلْفَ عمارتي، وأزرعُ بجوارِها نخلةً تؤنسُها.
سأقفُ بينَ أعمدةِ النورْ، وأرفعُ ذراعَيَّ مِثلَها، وأضيءُ كفَّيَّ للحيارىٰ والتوّاقينَ للجَمالْ.
سأرمِّمُ صداقاتي القديمةْ، فأهتمُ بأدقِّ شؤونِ أصحابي، بدءًا مِنْ أنواعِ سجائرِهمْ حتىٰ لعبتِهمِ المفضَّلةِ علىٰ الهاتفْ، سأشاركُهمْ حتىٰ ما لا أحبُّ، وبالطبعِ سأرعىٰ أحلامَهمْ.
لماذا لم أدخِّنْ حتىٰ الآنْ؟!
يبدو أنَّ المدخنِينَ سيزيدونَ واحدًا هذهِ الليلةْ،
وأنا أدخِّنُ -صدِّقوني- كتبتُ هذهِ القصيدةَ الجديدةْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر مصري،
من ديوان “إنها تتراءى لي”