علي حسن
قضيت عامًا كاملًا مع أبي العلاء المعري (٩٧٣-١٠٥٧)، أدرس تراثه، وما كُتِبَ عنه. وليس غريبًا أذا ذُكر اسم المعري، ألا نَغفل اسم الدكتور طه حسين (١٨٨٩-١٩٧٣) أول المجددين لذكره من المعاصرين.
قدم العميد دراسته عن أبي العلاء إلى الجامعة المصرية سنة ١٩١٤ ونُوقشت أمام الجمهور في الخامس من مايو من العام نفسه، فنال بها شهادة العالمية (الدكتوراه) في الآداب.
للعميد مع أبي العلاء مسلكان؛ مسلك بدأه في السادسة عشرة من عمره على يد أستاذه سيد بن علي المرصفي (١٨٥٨-١٩٣١) حيث درس الأدب في الأزهر الشريف، وحرص على حضور دروسه أربع سنوات متصلة، ينهل من علمه، ويتآلف مع روحه وعقله، فكان الشيخ أستاذه ووالده، يعطف عليه، ويدافع عنه، ويحبه، وطه يحفظ له قدره ويجله.
علاقتهما الفريدة والقوية، جعلت التلميذ مرآة أستاذه، يحب من الأدب ما يحبه، ويبغض منه ما يبغضه!
كان الأستاذ المرصفي يوثر القديم على الجديد، ويفضل الأدب الجزل القوي المتين على السهل المهترئ، لهذا كان الشعر الجاهلي أفضل عند الأستاذ وتلميذه من أشعار المحدثين “حبيب بن أوس وأبي الطيب المتنبي، وأبي العلاء المعري” وزاد التلميذ على أستاذه فصار يمقت هؤلاء، ويصف كل شعر لا يرضيه، بأنه كشعر المتنبي وأبي العلاء، ويشهد طه حسين أنه كان يجهل المتنبي وأبا العلاء الجهل كله في هذا الوقت!
ويشهد أيضًا بأن مذهب الأستاذ المرصفي -المذهب القديم- نافع لكل مَن أراد تنمية ملكة الكتابة وتقوية اللغة ودراسة الأدب العربي وفهمه.
التحق طه حسين بالجامعة المصرية منتسبًا لقسم الآداب، وتلقى دروسه على يد أساتذة من المستشرقين الأوروبيين، وتعلم كيف يدرس الأدب، وفنون النقد، وأن عليه دراسة علوم اللغة وكل آدابها، غثها وسمينها، وعليه أيضًا دراسة تأريخ الأدب، وعلم النفس للفرد والجماعات، وأصل اللغة وتاريخ تطورها.
يدرس زمان الأديب ومكانه، بيئته ومجتمعه، أثر الحياة السياسة والاجتماعية والاقتصادية عليه وعلى تراثه الأدبي.
اقتران دراسة الأدب بتاريخه هو مذهب حديث استحدثته الجامعة المصرية نقلًا عن أوروبا، هذا المذهب جعل طه حسين يعيد فهم الأدب العربي، ويتفاعل مع التراث بشكل مغاير، مما يؤكد أن كتابه “الشعر الجاهلي” كان نتاج تأثره بأساتذته المستشرقين ومنهجهم، الذي حبب إليه أبا العلاء، بعد أن كرهه بفعل أستاذه المرصفي ومذهبه القديم!
كان للمذهب الحديث أيضًا تأثيرًا بالغًا في اختياره لموضوع رسالة الدكتوراه، فقد كانت الموضوعات مختلفة، منها تأثير الفارسية على اللغة العربية في العصر العباسي، والروح الدينية في الآثار الأدبية للخوارج، وأثر اختلاف مذاهب الشعراء في التعبير عن أغراضهم في صدر الدولة العباسية، وحياة الجاحظ، لكنه اختار حياة أبي العلاء الذي كان يمقته! رغم ضياع تراثه، واعتماده على ما ترجمه المستشرقون من تراثه.
كما انتبه أيضًا إلى أنهما ضريران، لكن العميد حرص ألا يذكرها صراحة في مقدمة كتابه “تجديد ذكرى أبي العلاء” طبعة عام ١٩٥١ واستخدم “رأيت” أكثر من مرة فقال: “رأيت بيني وبين الرجل تشابهًا في هذه الآفة المحتومة، لحقت كلينا في أول صباه، فأثرت في حياته أثرًا غير قليل.”
نشر العميد دراسته عن أبي العلاء لأول مرة عام ١٩١٤، رغبة في اطلاع القراء من خلال حياة أبي العلاء على حياة “النفس الإسلامية” ودراسة “الأمة الإسلامية” كذلك فهم فلسفة أبي العلاء وروحه الأدبية وتبديد ما علق بشخصيته من شكوك وأوهام.
يقول العميد في مقدمته: “لكنني أذنت في نشره لسببين، الأول أنه يمثل طورًا من أطوار حياتي العقلية، وأنا رجل شديد الأثرة أحب أن أكون واضحًا لمعاصري.. وهذا الكتاب يمثل حياتي العقلية في الخامسة والعشرين. والثاني: أن هذا الكتاب يؤرخ الحركة الأدبية في مصر؛ فإني لا أعرف قبل اليوم كتابًا ظهر على هذا النحو من البحث.. إني لا أعرف كتابًا في الآداب العربية قد وضعه صاحبه على قاعدة معروفة، وخطة مرسومة من القواعد والخطط التي يتخذها علماء الغرب أساسًا لما يكتبون في تاريخ الآداب.. وخصلة أخرى حببت لي نشر هذا الكتاب، وهي أنه يؤرخ حياة الجامعة المصرية، فهو أول كتاب قدم إليها، وهو أول كتاب امتحن بين يدي الجمهور، وهو أول كتاب نال صاحبه إجازة علمية منها.”
يعلم طه حسين طبيعة العصر الذي يعيش فيه، ومذاهبهم الأدباء في النقد، ومعاركهم الأدبية، وتطاولهم باللسان، يقول في مقدمة الطبعة الثانية لهذا الكتاب (١٩٢٢): “لم أكد أعود من أوروبا سنة ١٩١٩ حتى حدث أن الطبعة الأولى نفدت، وأن كثيرًا من الناس يرغب فيه، وأن من الخير أن أعيد نشره..”
لم يتمكن من إجراء هذه التعديلات، لأن الجامعة كلفته بدراسة التاريخ اليوناني ونشر بعض آثاره، فأعاد نشر الكتاب على صورته الأولى مع القصور والإيجاز في بعض المواضع التي يقول عنها أنه أعلم بها من غيره، لكنه يجد في تفرد الكتاب وندرة موضوعه، ما يغري بنشره وتخليده وإذاعته بين الناس، ليس فخرًا وإنما معذرة إن كان فيه بعض النقص.
يقول: “أعلم أن ناسًا قرأوا هذا الكتاب، فدفعوا أو اندفعوا إلى نقده بعلم وبغير علم، مخلصين وغير مخلصين، ولقد كنت أود لو وجدت فيما كتبوا شيئًا يستحق أن يسطر ويناقش، ولكني آسف الأسف كله؛ لأني لم أجد فيما كتبوه إلا شتمًا وسبًا، وإلا طرقًا في الفهم معوجة، ومناهج في التفكير عتيقة”.