البهاء حسين
تستطيع أن تعثرَ على جدّك
فى الزحمة
رغم قامته القصيرة
تستطيع أن تميّزَه وهو يؤذّن بصوتٍ رفيع منغّم
يشبه البكاء
تستطيع أن تعرف، رغم طفولتك
أنه حين يقول: الله أكبر
فهو يعنى أنه فقير
وأن “حىّ على الصلاة “
ليست أكثر من وسيلةٍ لتقريع القرية التى لا تأبه لحاله
القريةِ التى تستعطف السماء، مثل جدى
بفمٍ خالٍ من الأسنان
وسحنة مرتبكة
،،
لم أكن أخاف عليه من السقوط
فى البئر
وهو يسقى الماء
رغم الحجر الزلق
تحت أقدامه
رغم الماء الذى يجعله مبتلاً طوال الوقت
لم أكن أخاف عليه من الشمس
لكن من كراهيتى
من الإحراج الذى يسبّبه لى
العطب الذى يُلحقه، دون قصدٍ ، بأيامى
كان يمكن لجدى ألا يكون سقاءً
تعكس الشمسُ ظله، فيبدو أقصر
يبدو، هو والبكرة الخشبية والحبل، شيئاً واحداً
أشبه بجردل يملأ الجرارَ للنساء، ويسقى البهائم
كان يمكن أن يكون جدى أطول قليلاً
بحيثُ يملأ العين
كانت أمى ستصبح أطولَ بدورها
تملأ حضنى
لا أريد أن أحضنَ أمى بقامةٍ متكوّرة
فتفوتنى قطعةٌ منها
كان يمكن أن يكون أقل فقراً، بحيث لا تلزمه الشحاذة
لم يكن ضرورياً أن تسقط فى يده وساخة الناس
ويسقط معها ماءُ وجهى
طفولتى نفسُها
فى البئر
مدوية كأنها جردلٌ فارغ
كان يمكن ألا يخبط رأسه فى باب بيته
على مرأى من الشارع
ويخبرنى أصحابى، فأجرى، كى أهدّئ من رَوعه
كى أوقف نوباته
فمَه الذى يتكون الريمُ على جوانبه
كان الأطفال، أولاد الكلب
يخبروننى، بتشفٍ، كأنهم يمثّلون بطفولتى
عن جلوسه على عتبة البيت يومياً
عن رأسه الذى يتحرك يميناً وشمالاً وهو يردد “الله حىّ “
بشكل محمومٍ أزيد من اللازم
عن الدعوات التى يُطلقها كالرصاص الطائش
على القرية كلها
التُرع والحقول
الأطفالِ الذين يعابثونه من آن لآخر
كان يمكن ألا يحدث كل ذلك
كان يمكنُ أن يكون درويشاً فعلاً
أن تكون له كرامة أساوم بها أصحابى على قضاء حوائجهم
على ألا يُعيّرونى بجدى
لكنّه لم يمنع ابنه الوحيد
من أن يعود مقتولاً من الجيش
لم يمنع أبى، الرجل الستّينى
من أن يتزوج أمى، وهى فى الثالثة عشرة من عمرها
حتى إنها كانت تقول لزوجها: يا عمى
لم يمنع أبى من أن يتركنا كومة لحمٍ ويموت
لم يمنع زوجة أبى من ضرب أمى
لم يمنع أعين الأطفال من الشماتة فىّ
وهم يعطونه الصدقات أمامى
عن قصد
لم يمنع جدتى، زوجته
من الشحاذة
لم يمنعنى أنا وإخوتى من البيع والشراء
لم يفعل شيئاً للعقارب التى تتجمع فى سقف البُوص فوقنا بالليل
حين ننام
كيف يمكن أن يكون درويشاً، وهو لا يفعل شيئاً من ذلك
لا يستطيع أن ينشّ الفقر عن أحفاده
الكوابيس
الخوف من أن تسقط عقربةٌ فوق وجهى وتلسعنى
كما تلسعنى القروشُ
التى تسقط فى يده
كان يمكن لجدى، لو أنه درويش
أن يقصّر المسافة بينى وبين المستقبل
الذى أنتظره منذ خمسين عاماً
كان يمكن لكل ذلك ألا يحدث
لكنه حدث
ماذا يمكنك أن تفعلَ بالماضى
سوى أن تكتبه بقلبك
بطفولتك
بحرقتك، كما لو أنه يحدثُ الآن
كما لو أن جدك، كان يمشى على الماء
ولا يحمله إلى البيوت
فى قربةٍ تخرّ
على ظهره .